الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (46)
* قال الله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
* * *
قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} هَذه جُملةٌ شَرطيَّةٌ أَداةُ الشَّرطِ فيها {مَنْ} وفِعلُ الشَّرطِ {عَمِلَ} وجوابُ الشَّرطِ {فَلِنَفْسِهِ} تَمامُ هَذه الجُملةِ شرطيَّةٌ، واقْتُرِنَتْ بِالفاءِ لِأنَّها جُملةٌ اسميَّةٌ إِذِ التَّقديرُ: فَعَمَلُه لِنفْسِه، وقَدَّرَها المفسِّرُ رحمه الله بِقولِه:[{فَلِنَفْسِهِ} عمل]، ولَكِنْ إذا قَدَّرناها جُملةً اسميَّةً فَلا حَرَجَ.
{صَالِحًا} صِفةٌ لِمَوصوفٍ مَحذوفٍ، والتَّقديرُ: عَملًا صالحًا، والعَملُ الصَّالحُ مَا اجْتَمعَ فيه أَمرانِ:
الأوَّلُ: الإِخلاصُ للهِ عز وجل.
والثَّاني: المُتابَعةُ لِشَريعةِ اللهِ، وَلا نَقولُ هنا: المُتابَعةُ لِمُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لأنَّنا نَتكلَّمُ عَن العَمَلِ الصَّالحِ في هَذه الأُمَّةِ وَفي غَيرِ هَذه الأُمَّةِ، فَنقولُ: الإِخلاصُ للهِ والمُتابَعةُ لِشريعةِ اللهِ؛ لِيَشملَ ما كانَ في أُمَّةِ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وما كان في أُمَمٍ سابقةٍ.
إِذا فَقَدَ الإِخلاصَ فَليس بِصالحٍ؛ لأنَّه شِركٌ مَردودٌ على صَاحبِه، قال اللهُ تَعالى في الحَديثِ القُدسيِّ: "أَنا أَغنى الشُّركاءِ عَنِ الشِّركِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْركَ فيه مَعي
غَيري تَرَكْتُه وشِرْكَه"
(1)
، ومَنْ أَخلصَ لكن عَلَى غَيرِ شَريعةِ اللهِ فَعَمَلُه بِدعةٌ مَردودٌ؛ لِقولِ النَّبيِّ - صلَّى اللهُ عَليه وعلى آلِه وسلَّم -:"مَنْ عَمِلَ عملًا لَيس عَليه أَمرُنا فَهو رَدٌّ"
(2)
. وَفي رِوايةٍ: "مَنْ أَحدثَ في أَمرِنا هَذا ما لَيس مِنه فَهو رَدٌّ"
(3)
.
قَولُه: {فَلِنَفْسِهِ} يَعْني: فَالمَصلحةُ لِنفسِه، فَإنَّ ذَلك لا يَنفعُ اللهَ شيئًا، ولِهَذا قال اللهُ تَعالى في الحَديثِ القُدسيِّ الَّذي رَواه أَبو ذَرٍّ رضي الله عنه أنَّ اللهَ قال:"يا عِبادي لَو أَنَّ أَوَّلَكم وآخِرَكم وإِنْسَكم وجِنَّكم كانوا على أَتْقى قَلبِ رَجلٍ واحدٍ مِنكم ما زاد ذَلِكَ في مُلْكي شيئًا"
(4)
. لمِاذا؛ لِأنَّ اللهَ تَعالى لا يَنتفعُ بِطاعةِ الطَّائعينَ، وَلا يَتضرَّرُ بِمعصيةِ العاصينَ، فَالعملُ لِنفسِك.
يَقولُ المفسِّرُ رحمه الله: [{وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} أي: فَضرَرُ إِساءتِه عَلى نَفسِه]، وَلَوْ قُلنا: التَّقديرُ فَإِساءَتُه عليها لَكفى، مَنْ أَساءَ، أي: عَمِلَ عَملًا غَيرَ صالِحٍ، وَالَّذي يَدُلُّنَا عَلى أَنَّ المُرادَ بِالإِساءَةِ هُنا العَملُ غَيرُ الصَّالحِ أَنَّهُ قُوبِلَ بِما سَبَقَ بِمَن عَمِلَ عَملًا صالحًا، وهَذا أَحدُ الطُّرقِ الَّتي يُعرفُ بِها تَفسيرُ القُرآنِ الكَريمِ بَلْ وغَيرُهُ مِن الكَلامِ، إِذا ذُكِرَ الشَّيءُ ثُمَّ ذُكِرَ ما بَعدَه عَلى وَجهِ المُقابَلةِ فيُفسَّرُ ما بَعدَه عَلى ضِدِّ ما قَبله، وَمِن ذَلكَ قَولُه تَعالى:{فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71] لَو أَنَّك
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله، رقم (2985)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، رقم (1718)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
أخرجه البخاري: كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور، رقم (2697)، ومسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة رقم (1718)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4)
أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، رقم (2577)، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
تأمَّلتَ ما مَعنى {ثُبَاتٍ} هل مَعناها انفِروا ثَابِتينَ على الجِهادِ؟ لا، بَلْ يُفسِّرُها ما بَعْدَها:{أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} فَيكونُ مَعْنى ثُباتٍ أي: فُرادَى: {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} .
قال اللهُ تَعالَى: {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} ، إذن الإِساءَةُ تَكونُ إِمَّا بِالإشراكِ بِاللهِ كالرِّياءِ مثلًا، وإمَّا بِالبدعةِ كَبِدَعِ الصُّوفيَّةِ وغَيْرِهم مِن أَصْحابِ الطُّرُقِ الَّذين هم مُخلصونَ إِلى اللهِ ويَودُّونَ التَّقرُّبَ إِلَى اللهِ لكن بغيرِ ما شَرَعَ اللهُ، فَكانوا ضالِّين كالنَّصارى تمامًا.
يَقولُ المفسِّرُ رحمه الله: [{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} أَيْ: بذي ظُلمٍ]{وَمَا رَبُّكَ} هذه كقَولِه فيما سَبَق: {سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [فصلت: 45].
و{وَمَا} هُنا حِجازيَّةٌ، فَكُلُّ ما في القُرآنِ حِجازِيٌّ؛ لِأنَّهُ بِلُغةِ قُريشٍ، وعلى هَذا فمتى أَتَتكَ {مَا} فَهي حِجازيَّةٌ، قال الله تَعالَى:{مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31] وَلَو كانتْ تَميميَّةً لقالَ: ما هَذا بَشَرٌ، لكن قال:{مَا هَذَا بَشَرًا} .
إذن: كُلَّما أَتَتْكَ {مَا} الَّتي تَكونُ دائرَةً بَينَ الحِجازيَّةِ والتَّميميَّةِ فَاجعَلْها حِجازيَّةً، فهُنا نَقولُ:{مَا} حِجازيَّةٌ و (رَبُّ) اسْمُها وَ {بِظَلَّامٍ} خَبَرُها لكنَّه جُرَّ بِحَرفِ الجَرِّ الزَّائدِ.
وقَولُه: {وَمَا رَبُّكَ} هَلِ الخطابُ لِلرَّسولِ عليه الصلاة والسلام وَليس عَامًّا، فسياقُ الآيةِ يَدُلُّ على أَنَّه خاصٌّ بِالرَّسولِ عليه الصلاة والسلام، ولكن لِيعلمَ أَنَّ ما وُجِّهَ الخِطابُ فيه إلى رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ لَا يَعْني: أَنَّ الحُكمَ خَاصٌّ بِه، بَلْ هو لَه ولِلْأُمَّةِ؛ ولهِذا نَقولُ: الخطابُ المُوجَّهُ إِلَى الرَّسولِ عليه الصلاة والسلام يَنقسمُ إِلَى ثلاثةِ أَقسامٍ:
الأوَّلُ: مَا دَلَّ الدَّليلُ على أَنَّه خَاصٌّ بِهِ كَقَولِه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] هَذا خاصٌّ بِالرَّسولِ.
الثَّاني: ما دَلَّ الدَّليلُ على أَنَّه عامٌّ كَقَولِه تَعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} وهَذا خطابٌ للرَّسولِ: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] هَذا عامٌّ؛ لأنَّه قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} وَمِنه قَولُ اللهِ تَعالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1 - 2] فأَوَّلُ الآيةِ خاصٌّ والثَّاني عامٌّ.
الثَّالثُ: ما لا دَليلَ فيه عَلى هَذا ولا عَلى هَذا، فَهو خَاصٌّ بالرَّسولِ، لَكن لَنا فيه أُسوَةٌ، وقيلَ: إنَّه للأُمَّةِ لكن خوطِبَ بِها الرَّسولُ؛ لأنَّه قائدُها عليه الصلاة والسلام.
يَقولُ المفسِّرُ رحمه الله: [{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} أي: بذي ظلم] إِشارَةٌ مِنه رحمه الله إِلى أنَّ "ظَلَّامَ" صيغةُ نِسبةٍ وليست صيغةَ مُبالغةٍ؛ لأنَّ فعَّالًا تأتي للنِّسبةِ كنَجَّار وحدَّاد وخشَّاب، وما أَشبهَ ذَلكَ، وتأتي للمُبالَغةِ، فَهُنا (ظَلَّامٌ) يَتعيَّنُ أَنْ تكونَ للنِّسبةِ؛ لأنَّك لو جَعلتَها لِلمبالغةِ لكان المَنفيُّ هو المُبالغةُ في الظُّلمِ دونَ أَصلِ الظُّلمِ؛ وَالمعلومُ أَنَّ اللهَ تَعالَى مَنفيٌّ عَنه الظُّلمُ أَصلُه والمُبالغةُ فيه، إِذن يَتعيَّنُ أَنْ نَقولَ: إِنَّ (ظَلَّام) صيغةُ نِسبةٍ ولَيست صيغةَ مُبالغةٍ؛ ولهذا فَسَّرها بِقولِه: [أي: بذي ظُلمٍ] واستَدلَّ لِذلكَ بِقَولِه تَعالى: [{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]. وَمَنِ انتَفى عَنه الظُّلمُ في مِثقالِ ذرَّةٍ لا يُمكنُ أَنْ يَكونَ لَديه ظُلمٌ بأَكثرَ، وَلا بِمثقالِ ذرَّةٍ أيضًا، وَلا بِدونِ مِثقالِ ذرَّةٍ.
فَإِن قَالَ قائلٌ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} مَفهومُه أَنَّ ما دونها يُمكنُ؟
قُلنا: لا؛ لأنَّ مِثقالَ ذَرَّةٍ جِيءَ به على سَبيلِ المُبالغةِ لا التَّمثيلِ، وَما كانَ قَيدًا لِلمبالغةِ، فإنَّه لا مَفهومَ لَه، أَرَأَيتُم قَولَ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم:"مَنِ اقتطعَ شِبرًا مِنَ الأَرضِ ظُلمًا طُوِّقَه يَومَ القيامَةِ مِنْ سَبعِ أَرَضينَ"
(1)
، فهَل نَقولُ: مَنِ اقْتطعَ نِصفَ شِبرٍ لا يُعاقَبُ
(1)
أخرجه البخاري: كتاب المظالم، باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض، رقم (2453)، ومسلم: كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض، رقم (1612/ 142) من حديث عائشة رضي الله عنها.