الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال اللهُ تَعالى: {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} الفاءُ رابطةٌ لجِوابٍ وَهو (إن) و {فَيَئُوسٌ} خَبرٌ لِمُبتدإٍ مَحذوفٍ، أي: فَهو يَؤوسٌ قَنوطٌ.
يَقولُ المفسِّرُ رحمه الله: [مِنْ رَحمةِ اللهِ وهَذا وما بَعدَه في الكافرينَ].
{فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} هُناكَ فَرقٌ بين اليَأسِ والقُنوطِ، اليَأْسُ هو زَوالُ الرَّجاءِ بِحَيْثُ يَنقطعُ رجاءُ الإنسانِ، وَالقُنوطُ أَشَدُّ اليأسِ، وعَلَى هَذا فَيكونُ قَولُه:{فَيَئُوسٌ} هَذا ابْتداءُ القُنوطِ، وَ {قَنُوطٌ} هَذا نِهايتُه.
وَقولُه: {فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} أَعْرَبْنا {فَيَئُوسٌ} خَبرُ مبتدأٍ محَذوفٍ، وأَمَّا {قَنُوطٌ} فَنُعربُه عَلى أَنَّه خَبرٌ ثانٍ، وتَعدُّد الأخبارِ جائزٌ، واقعٌ في اللُّغةِ العربيَّةِ وَواقعٌ في القُرآنِ، قالَ اللهُ تَعالَى:{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)} [البروج: 14 - 16] كُلُّ هذه أَخبارٌ مُتعدِّدةٌ وَلا يَصِحُّ أَنْ يَكونَ الثَّاني وَصفًا لِلْأوَّل لأنَّها كُلَّها تَعودُ عَلى مَوصوفٍ واحدٍ. وَعليه فَنَقولُ: {قَنُوطٌ} خَبرٌ ثانٍ لِلمُبتدإِ المحذوفِ، وَلا يَصحُّ أَن يَكونَ نَعتًا لِيَؤوسٍ؛ لأنَّ يَؤوسًا نَفْسَها نَعتٌ.
يَقولُ المفسِّرُ رحمه الله: [وَهذا وَما بَعده في الكافرينَ] هَذا المُشارُ إِليه اليأسُ وَالقُنوطُ، وما بَعدَه سَيُذكَرُ في الكافرينَ، وإنَّما قالَ المفسِّر ذَلكَ؛ لأنَّ المُؤمنَ لا يَيأَسُ ولا يَقنَطُ، قالَ اللهُ تَعالى:{إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، وَقال تَعالى:{قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)} [الحجر: 56]، فَلا يُمكنُ لِلمُؤمنِ أَنْ يَيأسَ، وعَلى هَذا فَيكونُ هَذا الوصفُ لِلكافرينَ.
مِن فَوائِدِ الآيَةِ الكَريمَةِ:
الْفَائِدَة الأُولَى: أَنَّ الإِنسانَ شَحيحٌ وأَنَّه حَريصٌ على الخَيرِ شَحيحٌ بِبذلِ ما يُطلبُ منه.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الإنسانَ يُحبُّ الخيرَ دائمًا لِقولِه: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} ، وَهذا بِطَبيعةِ الإنسانِ أَنَّه يُحبُّ الخيرَ وَهو ما يُلائمُ نَفسَه ومُرادَه.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الإنسانَ الَّذي لَيس عِندَه إِيمانٌ إِذا مَسَّه الشَّرُّ يَئِسَ وقَنَطَ مِن رَحمةِ اللهِ.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: ذَمُّ أَهلِ اليأسِ والقُنوطِ مِنْ رَحمةِ اللهِ عز وجل؛ لأنَّ اللهَ ساقَ هَذا مَساقَ الذَّمِّ.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنَّه لا يَنبَغي لِلإنسانِ أَنْ يَغلِبَ جانبُ اليأسِ وَالقُنوطِ، كَما أَنَّه لا يَغلِبُ جانبُ الرَّحمةِ؛ لأنَّه إِنْ غَلَبَ جانبُ الرَّجاءِ وَالرَّحمةِ فإنَّه يَدخلُ فيمَنْ لا يَأمنُ مَكرَ اللهِ، وَإِن غَلَبَ جانبُ اليأسِ وَالقُنوطِ دَخَلَ في أَهلِ اليأسِ وَالقُنوطِ.
وهَلِ الَّذي يَنبَغي لِلْإنسانِ أَنْ يَغلبَه جانبُ الرَّجاءِ أوِ الخوفِ؟
اخْتلَفَ السَّالِكونَ إِلَى اللهِ عز وجل في هَذا فَمِنهم مَنْ قال: يَنْبَغي أَنْ يَغلبَ جانبُ الخوفِ لِيَحذرَ المَعاصيَ ويَتجنَّبَها؛ لأنَّه إِذا غَلَبَ جانبُ الخوفِ خافَ وحَذِرَ مِنَ المعاصي، ومِنهم مَنْ قال: يَغلِبُ جانبُ الرَّجاءِ؛ لأنَّ اللهَ تَعالي عِندَ حُسنِ ظَنِّ عَبدِه بِه، وَإِذا غَلَبَ الرَّجاءُ ابتعدَ عَنِ اليأسِ وَالقُنوطِ.
ومنهم مَنْ قال: إِنَّه لا يَنبَغي أَنْ يَغْلِبَ هَذا علي هذا، وَأنْ يَجعلَ خَوفَه وَرَجاءَه واحدًا، قالَ الإِمامُ أَحمدُ رحمه الله: يَنْبَغي أَنْ يَكونَ خَوفُه ورَجاؤُه واحدًا فَأيُّهُما غَلَبَ هَلَكَ صاحبُه
(1)
.
وَقالَ بَعضُهمْ: إِنَّه يَنبَغي لِلإنسانِ أَنْ يَكونَ بَين الخوفِ والرَّجاءِ، كالطَّائرِ
(1)
انظر: الاختيارات العلمية لابن تيمية [المطبوع مع الفتاوى الكبرى](5/ 359).
بين جَناحَيْه إِنِ انْخَفَضَ أَحدُهُمَا سَقَطَ، وقالَ بَعضُ أَهْلِ العِلمِ: يَنبَغي أَنْ يَغلِبَ جانبُ الرَّجاءِ عِندَ فِعلِ الطَّاعةِ فَيرجو القَبولَ والثَّوابَ، وَيغلِبُ جانِبُ الخَوفِ عِندَ الهَمِّ بِالمَعصيةِ حتَّى لا يَعصيَ اللهَ عز وجل.
وَمن العُلماءِ مَنْ يَقوُل: يَغلِبُ جانبُ الرَّجاءِ عِند المَرَضِ حتَّى إِذَا مَاتَ لَقِيَ اللهَ وَهو يُحسنُ بِهِ الظَّنَّ، وَفي حالِ الصِّحَّةِ يَغلِبُ جانِبُ الخَوفِ؛ لأنَّ حالَ الصِّحَّةِ يَدعو الإِنسانَ إِلَى البَطَرِ وَالأَشَرِ فَلْيَغلِبْ جانبُ الخوفِ.
كُلُّ هَذه الأقوالِ الَّتي تَبلغُ سِتَّةً أو سَبعةً كُلُّها في الواقعِ تَنْظُرُ إِلى حالِ العبدِ؛ ولهِذا نَرى في هَذه المسألَةِ أَنَّ الإنسانَ يَنْظرُ إِلَي حالِه، فَإنْ كانَ قَدْ عَمِلَ عَملًا صالحًا وكَدِحَ فيما يُرضي اللهَ فَلْيَغْلِبْ جانبُ الرَّجَاءِ، فَكُلَّما عَمِلَ طاعةً غَلَبَ جانبُ الرَّجاءِ أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى تَجاوزَ عنها، وَأَنَّ اللهَ تَعالي قَبِلَها وسَيُثيبُه، وإِذا رَأى مِن نَفسِه العُلوَّ والتَّعاظُمَ فَلْيَغْلِبْ جانبُ الخَوفِ حتَّى يَصيرَ إِلَى اللهِ تَعالى صَيْرًا حسنًا.
* * *