الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالمُرادُ بأنَّه ليس لك عليهم سُلطانٌ، يعني: لا يُمكِنُ أن تَتَسلَّطَ عليهم فتُغوِيَهم.
يَقولُ المُفسِّرُ رحمه الله: [{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} للقَولِ {الْعَلِيمُ} بالفعل]، هذه الجُملَةُ تَعليلِيَّةٌ؛ لقَولِه:(استَعِذ باللهِ)، يَعني: فإنَّك إذا استَعذت مِنه باللهِ سَمِعَك، وإنَّه عَليمٌ بكيفيَّةِ دَفعِ هذا الشَّيطانِ الَّذي نَزَغَك منه نَزْغٌ فهو سَميعٌ لقولك إذا استَعَذتَ به، عليم بما يَدفَعُ به عنك هذا الشَّيطانَ.
من فوائِدِ الآياتِ الكريمَةِ:
الْفَائِدَة الأُولَى: انتِفاءُ تَساوي الحَسناتِ بَعضِها ببَعضٍ، وانتِفاءُ تَساوي السَّيِّئاتِ بَعضِها ببَعضٍ، فيَترَتَّبُ على ذلك فائدَةٌ: أنَّ الحَسناتِ تَتَفاوتُ والسَّيِّئاتِ تَتفاوتُ، فمِن الحَسناتِ ما هو أُصولٌ في الإسلامِ كالأُصولِ الخَمسَةِ، ومنها ما هو دونَ ذلك، ومنه ما هو فَرائضُ ومنه ما هو نَوافلُ، كذلك في المُحرَّماتِ ما هو شِركٌ مُخرِجٌ عنِ المِلَّةِ وما هو شِركٌ دون ذلك، وكذلك يُقالُ في الكُفْرِ، منه ما هو فُسوقٌ ومنه ما هو دونَ ذلك، هذا إذا قُلنا: إنَّ المُرادَ أنَّ الحَسناتِ لا تَتَساوى والسَّيِّئاتِ لا تَتَساوى.
أمَّا إذا قلنا: لا تَستَوي الحَسنَةُ ولا السَّيِّئةُ فهي أنَّ الحَسَنَةَ والسَّيِّئةَ لا يَتساويانِ، فَيُفيدُ الحثَّ على فِعلِ الحَسناتِ في مُقابِلِ السَّيِّئاتِ، وليس الفائدَةُ أن يَعلَمَ أنَّ الحَسنَةَ لا تُساوي السَّيِّئةَ؛ لأنَّ هذا أمرٌ مَعلومٌ، ولا يُمكنُ في القُرآنِ ببَلاغتِه أن يَأتيَ بمِثلِ ذلك؛ لأنَّ هذا كقولكَ السَّماءُ فَوقَنا والأرضُ تَحتَنا، لكنَّ المُرادَ الحَثُّ على أن تُقابِلَ السَّيِّئةَ بحَسَنةٍ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: الإِرشادُ إلى مُدافَعَةِ السَّيِّئاتِ، يُؤخَذُ من قولِهِ:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: الحَثُّ على المَقاماتِ في مُدافعَةِ السَّيِّئاتِ تُؤخَذُ من قولِهِ: {أَحْسَنُ} ولم يَقُلِ ادفَعْ بالحَسَنِ، بل قال:{بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ اللهَ تَعالى مُقَلِّبُ القُلوبِ، فقد يَكونُ العَدوُّ صَديقًا والصَّديقُ عَدوًّا؛ لقَولِه:{فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ} .
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنَّك لا تَأخُذُك العِزَّةُ بالإثمِ فتَقولَ: لا يُمكنُ أن أَسكُتَ أمامَ هذا الَّذي أَساءَ إِلَيَّ ولا بُدَّ أن آخُذَ بحَقِّي، نَقولُ: إذا أَخذْتَ بحَقِّك فذلك لك ولكن هُناكَ خُلُقٌ أفضَلُ وأكمَلُ وهو المُدافعَةُ بالَّتي هي أحسنُ.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّ المُدافعَةَ بالَّتي هي أَحسنُ شاقَّةٌ على النَّفسِ؛ لقَولِهِ: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} ولكِن اصبِرْ.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أنَّ مَن سَلَكَ هذا الطَّريقَ وهي مُدافعَةُ السَّيِّئَةِ بالَّتي هي أَحسَنُ، فإنَّه ذو نَصيبٍ عَظيمٍ مِنَ الأخلاقِ والثَّوابِ والرَّزانَةِ والرُّجولَةِ والشَّهامَةِ وغَيرِ ذلك؛ لقَولِه:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} .
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أنَّ مَلجأَ الإنسانِ عِندَ الخَوفِ مِمَّا لا يُمكِنُه دَفعُه هو اللهُ عز وجل لقَولِه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} .
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: أنَّك كُلَّما أَحسستَ بشيءٍ مِن نَزغاتِ الشَّيطانِ مِن تَهاوُنٍ بمَأمورٍ أو ارتِكابٍ لمَحظورٍ، فعليك أَنْ تَلجأَ إلى اللهِ عز وجل.
فإن قال قائلٌ: نَجِدُ الاستِعاذةَ مَشروعَةً في غَيرِ هذا الحالِ، مَشروعَةً عندَ قِراءَةِ القُرآنِ مثلًا، مَشروعَةً عِندَ دُخولِ الخَلاءِ، فما الجَوابُ؟
الجَوابُ: أنَّ مشروعيَّتَها عندَ تِلاوتِه القُرآنَ؛ لأنَّ الشَّيطانَ يَتسلَّطُ على الإنسانِ
عندَ قِراءةِ القُرآنِ بأن يَصُدَّه عمَّا فيه مِنَ الذِّكرِ الحَكيمِ، يَصُدُّه عن تَدَبُّرِه، عنِ الخُشوعِ فيه، عن كَونِ الإنسانِ يَلتزِمُ بأوامِرِه ونَواهيه ويُصَدِّقُ بإخبارِه. المُهِمُّ أنَّ الشَّيطانَ يَحرصُ على الإنسانِ إذا أَراد قِراءةَ القُرآنِ، فنَاسَبَ أن يُؤمَرَ بِالاستِعاذةِ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ وكَذلك عِند الخَلاءِ؛ لأنَّ الخَلاءَ مَوطِنُ الشَّياطينِ، الشَّياطينُ تَكونُ في أَخبثِ الأماكِنِ، والمَلائِكةُ في أَطيبِ الأماكِنِ؛ ولهذا كانت المَساجِدُ بُيوتَ المَلائكَةِ وكانت المَراحيضُ بُيوتَ الشَّياطينِ.
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: إِثباتُ الشَّيطانِ وأنَّ له سُلطةً على بَني آدَمَ؛ لقَولِه: {مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} وهو كذلكَ، واللهُ سبحانه وتعالى سَلَّطَ الشَّيطانَ على بَني آدَمَ وأيَّدَ المُؤمنينَ بِالملائكَةِ، فإنَّ الشَّيطانَ إذا أَمَر بِالفَحشاءِ فإنَّ هناك أَمْرًا آخَرَ يُضادُّه وهو أَمْرُ المُلْكِ.
الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أنَّه لا يُستعاذُ إلَّا باللهِ؛ لقَولِه: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} ، لكن هذا مُقيَّدٌ بما لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ، فإنَّه لا استِعاذَةَ منه إلَّا باللهِ، وكذلك أيضًا لا استِعاذَةَ بمَخلوقٍ غَيرِ قادِرٍ، فمثلًا لو أنَّ الإنسانَ استَعاذَ بمَيِّتٍ لكان هذا شِركًا؛ لأنَّ المَيِّتَ لا يُمكنُ أن يُفيدَك، لكن لو استَعاذَ بحَيٍّ فيما يَقدِرُ عليه فلا بَأسَ بذلك؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَن وَجَدَ مَلاذًا فلْيَعُذْ به أو مُعاذًا فلْيَعُذْ به"
(1)
، فالاستعاذَةُ بالمَخلوقِ فيما يَقدِرُ عليه كَالاستِعانَةِ به فيما يَقدِرُ عليه، وكالاستِغاثَةِ به فيما يَقدِرُ عليه.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إِثباتُ السَّميعِ العَليمِ للهِ بأنَّهما مِن أَسماءِ اللهِ عز وجل.
وسَبَقَ أنَّه لا يَجوزُ الإيمانُ بِالاسمِ إلَّا بثَلاثَةِ أُمورٍ إن كان مُتعَدِّيًا، وبأمرينِ
(1)
أخرجه البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم (3601)، ومسلم: كتاب الفتن، باب نزول الفتن كمواقع القطر، رقم (2886)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
إن كان غَيرَ مُتعدِّيًا.
والسَّميعُ مُتعدٍّ فتُثْبِتُ السَّميعَ اسمًا والسَّمْعَ صِفةً وكَونُه يَسمَعُ أَثرًا. وكذلك يُقالُ في العَليمِ.
وقَولُ المُفَسِّرِ رحمه الله: [{السَّمِيعُ} للقَولِ]، هذا صَحيحٌ؛ لأنَّ مُتعلِّقَ السَّمعِ هي الأَقوالُ، [{الْعَلِيمُ} بالفِعلِ] فيه نَظَرٌ؛ لأنَّ اللهَ عَليمٌ بالفِعلِ، عَليمٌ بالقَولِ، عَليمٌ بما ليس بِفِعلٍ ولا قَولٍ. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] فقَصْرُها على الفِعلِ لا شكَّ أنَّه قاصِرٌ، فيُقالُ: الصَّوابُ العَليمُ بكُلِّ شَيءٍ مِنَ الأقوالِ والأفعالِ والإِرَاداتِ والحاضِرِ والمُستَقْبَلِ والماضي.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: بَلاغَةُ القُرآنِ بذِكْرِ المتقارِبَيْنِ في المَعنى وإن كان بَينَهما فَرقٌ مِن حَيثُ الحَقيقَةُ، وَجهُ ذلك أنَّه ذَكَرَ في الآيَةِ الأُولَى مُعاملَةَ المُسيءِ مِنَ الإنسِ بأن تَدفَعَه بالَّتي هي أحسنُ، وذَكَرَ في الثَّانيَةِ مُعاملَةَ المُسيءِ مِن غيرِ الإنسِ وهو الشَّيطانُ.
* * *