المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيتان (53، 54) - تفسير العثيمين: فصلت

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآية (1)

- ‌الآيتان (2، 3)

- ‌مِن فَوائدِ الآيتَين الكَرِيمَتيْن:

- ‌الآية (4)

- ‌مِن فَوائِد الآيَةِ الكرِيمَةِ:

- ‌الآية (5)

- ‌مِن فَوائِد الآيَةِ الكَرِيمَةِ:

- ‌الآيتان (6، 7)

- ‌مِن فَوائدِ الآيتَيْن الكرِيمَتيْن:

- ‌الآية (8)

- ‌مِنْ فوائِدِ الآيَةِ الكَرِيمةِ:

- ‌الآية (9)

- ‌مِن فوائِدِ الآيةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآية (10)

- ‌مِنْ فوائِدِ الآيَةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآية (11)

- ‌مِنَ فوائِدِ الآيَةِ الكرِيمَةِ:

- ‌الآية (12)

- ‌مِن فوائِدِ الآيَةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآيتان (13، 14)

- ‌مِنْ فَوائِدِ الآيَتين الكَريِمَتَين:

- ‌الآيتان (15، 16)

- ‌مِنْ فَوائِدِ الآيَتين الكَرِيمتين:

- ‌الآية (17)

- ‌مِن فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (18)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآيات (19 - 24)

- ‌من فوائدِ الآياتِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (25)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (26)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (27)

- ‌من فوائِدِ الآيةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (28)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (29)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآيات (30 - 32)

- ‌من فوائدِ الآياتِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (33)

- ‌من فوائدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآيات (34 - 36)

- ‌من فوائِدِ الآياتِ الكريمَةِ:

- ‌الآيتان (37 ، 38)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكَريمتَينِ:

- ‌الآية (39)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (40)

- ‌من فوائدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآيتان (41، 42)

- ‌مِن فَوائدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (43)

- ‌الآية (44)

- ‌من فَوَائدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (45)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآية (46)

- ‌مِنْ فَوائِدِ الآيةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (47)

- ‌مِن فَوائِدِ الآيَةِ الكرِيمَةِ:

- ‌الآية (48)

- ‌مِن فَوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (49)

- ‌مِن فَوائِدِ الآيَةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآية (50)

- ‌مِن فَوائِدِ الآيةِ الكريمة:

- ‌الآية (51)

- ‌من فَوائِدِ الآيةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآية (52)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآيتان (53، 54)

- ‌من فوائِدِ الآيَتين الكريمَتين:

الفصل: ‌الآيتان (53، 54)

‌الآيتان (53، 54)

* * *

* قالَ اللهُ عز وجل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَي كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 53، 54].

* * *

{سَنُرِيهِمْ} السِّينُ لِلتَّنفيسِ، وهي تُفيدُ القُربَ والتَّحقيقَ، و (سوف) لِلتَّسويفِ وَهي تُفيدُ التَّحقيقَ مع البُعدِ؛ ولذلكَ يَجِبُ أن نُفرِّقَ بَينَ سَوفَ والسِّين، إِذا كان الشَّيءُ سَيكونُ قَريبًا فَقُل: سَيكونُ، وإِذا كانَ بَعيدًا فَقُل: سوفَ يَكونُ، ولِهذا تَجِدونَ قَولَ اللهِ تَعالَى:{كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)} [التكاثر: 3، 4]؛ لأنَّه لَم يأتِ بَعدُ وهو بَعيدٌ بِالنِّسبةِ لِكونِه في الدُّنيا.

{سَنُرِيهِمْ} يَعني: عَن قُربِ قِراءَةٍ مُتحقِّقةٍ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} أي: نُظهِرُها لَهم حتَّى يَرَونَها بِأَعيُنهم أو حتَّى يَرَونَها بِبَصائرِهم.

{آيَاتِنَا} الآياتُ جَمعُ آيَةٍ وهي في اللُّغةِ العَلامَةُ، والمُرادُ بِآياتِ اللهِ عَلاماتُه الدَّالَّةُ عَلى كمالِ عِلمهِ وحِكمتِه وقُدرتِه وغَيرِ ذَلكَ مِن مُقتضياتِ رُبوبيَّتِه، واعلَم أَنَّ الآياتِ نَوعانِ:

1 -

آياتٌ شَرعيةٌ وَهي ما جاءت بِهِ الرُّسلُ ومنها هَذا القُرآنُ الكَريمُ.

2 -

وَآياتٌ كَونيَّةٌ: وَهي الدَّالَّةُ عَلي كَمالِ اللهِ تبارك وتعالى في العِلمِ والخَلْقِ وكُلِّ

ص: 331

ما يَتعلَّقُ بِرُبوبيَّته، وهي ما يَعجَزُ البَشرُ عَن مثلِه، فالبَشَرُ كُلُّهم عاجزونَ عَن أَن يَخلُقوا أَرضًا أو سَماءً أو نُجوما أو شَمسًا أو قَمرًا؛ ولهِذا قال تَعالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت: 37]، هذه آياتٌ كَونيَّة؛ لأَنَّه يَعجَزُ عن مِثلِها البَشَرُ.

والآياتُ الشَّرعيةُ مِثلَ قَولِه تَعالَى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)} [القلم: 15].

يَقولُ المُفسِّرُ رحمه الله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} أَقطارِ السَّمَواتِ والأرضِ مِنَ النَّيِّراتِ والنَّباتِ والأشجارِ].

قَولُهُ تعالى: {فِي الْآفَاقِ} {الْآفَاقِ} جَمعُ أُفُقٍ وَهو النَّاحيةُ، والآفاقُ هُنا جَمعٌ فتَدُلُّ علي أنَّ هذِه الآياتِ سَتكونُ في كُلِّ ناحيةٍ مِنَ السَّماءِ والأرضِ، فَفي السَّماءِ نُجومٌ وَفي السَّماءِ شَمسٌ وَفي السَّماءِ قَمرٌ، وفيها مَشارقُ وفيها مَغارِبُ، كُلُّ هَذه مِن آياتِ اللهِ مَن يَستطيعُ أَن يَخلُقَ مِثلَ الشَّمسِ؟ لا أَحَدَ. مَن يَستطيعُ أَن يُجريَها بِهذا الِانتظامِ البديعِ مُنذُ خَلَقَها اللهُ عز وجل إلي أن يَأذنَ بِخَرابِ العالَمِ؟ لا أَحَدَ يَستَطيعُ، مَن يَستطيعُ أَن يُزحزِحَها مِن مَشارِقِها الشَّرقيَّةِ الشَّماليَّةِ إلي مَشارِقِها الشَّرقيَّةِ الجَنوبيَّةِ؟ لا أَحَدَ، وهَلُمَّ جَرًّا هذا في آفاقِ السَّماءِ.

ومِن آفاقِ السَّماءِ ما يَحصُلُ مِنَ الأمطارِ الغَزيرَةِ أَوِ الخَفيفةِ والرَّعدِ والبرقِ وغَيرِ ذَلكَ، المُهمُّ أنَّ آفاقَ السَّماءِ كُلُّ ما عَلا فَإنَّه داخل في آفاقِ السَّماءِ.

كَذلكَ أيضًا آفاقُ الأرضِ فيها مِن آياتِ اللهِ عز وجل ما يَدُلُّ على كَمالِ عِلمِه وقُدرتِه وحِكمتِه ورَحمتِه جِبالٌ وأَنهارٌ وبِحارٌ، فَيافي وأَوديةٌ، هِضابٌ إلي غَيرِ ذَلكَ، نَباتاتٌ مخُتلِفَةٌ تَجِدُ النَّباتَ كَأنَّه رُقعةُ ثَوبٍ موشَّى، هذا أَخضرُ وهذا بَنَفسَجيٌّ وهذا

ص: 332

أَبيضُ، وزُهورُها مخُتلِفةٌ وثِمارُها مُخُتلِفَةٌ تُسقَي بِماءٍ واحدٍ ويُفضِّلُ اللهُ بَعضَها عَلى بَعضٍ في الأُكُلِ.

كَذَلِكَ أَيضًا يَدخُلُ في قولِهِ: {فِي الْآفَاقِ} ما يَحصُلُ في الآفاقِ مِن حَربٍ وَسِلمٍ وأَمنٍ وخَوفٍ وشِدَّةٍ ورَخاءٍ، كُلُّ هَذهِ مِنَ الآياتِ مِن آياتِ اللهِ في الآفاقِ.

كَذلكَ ما يحصُلُ مِن غَلَبَةٍ وانهِزامٍ وغَيرِ هَذا، فاللهُ تَعالَي وَعَدَ بِأن يُرِيَ العِبادَ آياتِه في الآفاقِ، فَكلُّ ما في الآفاقِ العُلويَّةِ والسُّفليَّةِ مِمَّا لا يَستطيعُ الخَلقُ أَن يَأتوا بِمِثلِه فَهو مِن آياتِ اللهِ.

{وَفِي أَنْفُسِهِمْ} يَعني: ونُريهُم آياتِنا في أَنفسِهم وذَلكَ مِن نَواحٍ مُتعدِّدةٍ، أَولًا مِن جِهةِ الخِلقَةِ كَيفَ خَلَقَ اللهُ سبحانه وتعالى الآدميَّ علي هَذهِ الصِّفةِ البَديعَةِ الغَريبَةِ الَّتي لا يوجَدُ مِنَ الحيواناتِ مَن هو مِثلُه في حُسنِ القامةِ وحُسنِ التَّدبيرِ والعقلِ وغَيرِ ذَلكَ.

كَذلكَ أَيضًا في أَنفُسهم مِن طولٍ وقِصَرٍ وبَياضٍ وسَوادٍ وحُسنِ خُلُقٍ وسوءِ خُلُقٍ.

كَذلكَ في أَنفُسِهم مِن تَقلُّباتِ الأحوالِ وكَونِ الإِنسانِ أَحيانًا يُريدُ كَذا، وأَحيانًا يُريدُ كَذا وأَحيانًا يُريدُ الشَّيءَ ويُصمِّمُ عَليهِ، وإِذا به مَصروفٌ عنه هَذا مِن آياتِ اللهِ.

ولهِذا قيلَ لِعَرَبيٍّ: بِم عَرفتَ رَبَّك؟ قال: بِصَرفِ الهِمَمِ، يَعني: تَقليبَ القُلوبِ، تَجِدُ الإنسانَ مَثلًا مُتَجِهًا إلي أن يَنصَرِفَ إلى الشَّمالِ، فَإِذا به يَنصرِفُ إلي الجَنوبِ بِدونِ أيِّ سَببٍ لَكن بِتقديرِ اللهِ عز وجل.

كَذلكَ أيضًا مِن آياتِ اللهِ في الإِنسانِ تَركيبُ هذا البَدَنِ العَجيبِ البَديعِ، واسأَل أَهلَ التَّشريحِ عَن هَذا تَجِدُ العَجَبَ العُجابَ إِن أَتَيتَ إلى الرَّأسِ وَما فيه مِنَ

ص: 333

المُخِّ وما فيه مِنَ الأدواتِ، وإِذا أَتيتَ إلي الأَمعاءِ وإلى المَعِدَةِ وإلي الكَبدِ وإلي الغُدَدِ وإلي غَيرِها تَجِدُ العجَبَ العُجابَ، يَعني: أَنَّه دولَةٌ في الواقعِ، دولةٌ كُلُّ شَيءٍ مِنهُ لَهُ عَملُه الخاصُّ. مَن يَستَطيعُ أَن يُرَكِّبَ هَذا؟ اللهُ عز وجل.

كَذلِكَ أَيضًا مِنَ الآياتِ في الأنفُسِ: ما حَصَلَ لِقُريشٍ في بَدرٍ حَيثُ إِنَّ قُريشًا في بَدرٍ خَرجت إلي بَدرٍ كَما وَصفَ اللهُ عز وجل: {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 47] يَقولُ القائلُ مِنهم: "واللهِ لن نَرجعَ حتَّى نَقدُمُ بَدرًا فنُقيمُ فيها ثَلاثًا نَنحرُ الجَزورَ ونَسقي الخُمورَ وتَعزفُ عَلينا القيانُ وتَسمَعُ بِنا العَربُ، فَلا يَزالونَ يَهابونَنا أَبَدًا".

هَكَذا قالوا، ولَكِنَّ الأمرَ صارَ بِالعَكسِ -والحَمدُ لله-، صار العربُ يَتحدَّثون عَن هَزيمتِهم إلي أن يَشاءَ اللهُ مِن أَمَدِ الدُّنيا، هَذا مِن آياتِ اللهِ.

كَذلِكَ مِن آياتِ اللهِ تَعالَى في الإِنسانِ: أنَّ النَّاسَ يَختَلِفونَ اختلافًا عَظيمًا في الفَهمِ والحِفظِ والعملِ، تَجِدُ هَذا يَختارُ هَذا العَمَلَ، والآخرُ يَقولُ: كَيفَ يَصبِرُ هَذا الرَّجلُ عَلي هذا العَمَلِ، وَآخَرُ بِالعَكسِ، هَذا مِن آياتِ اللهِ تبارك وتعالى.

كَذلِكَ أَيضًا النَّاسُ يَختَلِفونَ في الفَهمِ: مِنَ النَّاسِ مَن إِذا قَرأتَ عليهِ العبارةَ فَهِمَها من أَوَّل مَرَّةٍ، ومنَ النَّاسِ مَن لا يَفهمُها في أوَّل مرَّةٍ، مِنَ النَّاس مَن إِذا تَلَوتَ عَليهِ العبارَةَ حَفِظَها مِن أوَّل مَرَّةٍ، ومِنَ النَّاسِ مَن لَيس كَذلكَ، كُلُّ هَذا مِن آياتِ الله، وإِلَّا فالدَّمُ واحدٌ والعَصَبُ واحدٌ والعِظامُ واحدةٌ والجِلدُ واحدٌ، وكُلُّ شَيءٍ واحدٌ لَكن يَختلِفُ النَّاسُ هَذا الِاختلافَ العَظيمَ.

كُلُّ هَذا داخلٌ في قَولِه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} يَقولُ المُفسِّرُ رحمه الله: [{وَفِي أَنْفُسِهِمْ} مِن لَطيفِ الصَّنعةِ وبَديعِ الحِكمةِ]. {حَتَّى يَتَبَيَّنَ

ص: 334

لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} يَتبَيَّنُ بِمعنًى يَتَّضحُ لَهُم أي: لهِؤلاءِ المُكذِّبينَ.

يَقولُ المُفسِّرُ رحمه الله: [{أَنَّهُ} أَي: القُرآنَ]، ويَحتملُ أَن يُرادَ بِهِ الرَّسولُ عليه الصلاة والسلام، ويَحتَمِلُ أَن يُرادَ المَعنيانِ جَميعًا.

قولُه تَعالَى: {أَنَّهُ الْحَقُّ} يَقولُ المُفسِّرُ رحمه الله: [{الْحَقُّ} المُنزَّلُ مِنَ اللهِ تبارك وتعالى بِالبَعثِ والحِسابِ والعِقابِ فيُعاقَبونَ عَلى كُفرِهم بِه وبِالجائي به].

{أَنَّهُ الْحَقُّ} الحقُّ في الأصلِ هو الشَّيءُ الثَّابتُ الواقعُ لا محَالَةَ، ومنه قَولُه تَعالَى:{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1 - 2] يَعني: الشَّيءَ الثَّابتَ، ويُطلَقُ عَلي مَعانٍ مُتعدِّدةٍ مِنها: أَنَّه الصِّدقُ، فالصِّدقُ حَقٌّ وضِدُّهُ الكَذِبُ باطلٌ، ومِنها: العدلُ، فالعَدلُ حَقٌّ وضِدُّه الجَورُ وهو باطلٌ؛ ولهِذا قالَ اللهُ تَعالَى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: 115] ومِنها -أي: مِن مَعاني الحَقِّ- أَنَّه الشَّيءُ الثَّابِتُ الَّذي لا يُزَحزِحُه أَحَدٌ، وضِدُّه الشَّيءُ الَّذي لا يَثبُتُ ولا يَستَقِرُّ وكُلُّ إِنسانٍ يُبطلُهُ.

فَأنتَ الآنَ تَجِدُ أنَّ القُرآنَ الكَريمَ مَهما جادلَ بِهِ المُجادِلُ ليدفَعَه فَحُجَّتُه باطِلةٌ، ولا يُمكنُ لِأحدٍ أَن يَغلبَ القُرآنَ بل القُرآنُ غالبٌ، لَكنِ اعلَموا أَيُّها الإِخوةُ أَنَّ كَونَ القُرآنِ غالبًا إِنَّما هو بِحَسَبِ حامِلِه؛ ولِذلكَ تَجِدُ السَّيفَ البَتَّارَ بيدِ الجَبانِ لا يُغني شَيئًا، لا بُدَّ أن يَكونَ القُرآنُ بِحَسَبِ حاملِهِ وإِلَّا فالقُرآنُ نَفسُهُ لا يُمكنُ أَن يُغلبَ أَبدًا إِلَّا أَنَّه قَد يُغلَبُ مِن جِهةِ حاملِه، وهذا لَيسَ عَيبًا في القُرآنِ ولَكنَّه عَيبٌ في حاملِ القُرآنِ.

قَولُه تَعالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} يَقولُ المُفسِّرُ رحمه الله: [المُنزَّلُ مِنَ اللهِ بِالبَعثِ والحِسابِ]، وهذا التَّخصيصُ مِنَ المفسِّر رحمه الله علي سَبيلِ المِثالِ، وَإِلَّا فَإنَّه

ص: 335

يَتبيَّنُ أَنَّه الحَقُّ في كُلِّ شَيءٍ في كَونه يَغلِبُ ولا يُغلَبُ، وفي كَونِ أَحكامِه عَدلًا وأَخبارِه صِدقًا وغَيرِ ذلك.

يَقولُ المُفسِّرُ رحمه الله: [فيُعاقَبونَ علي كُفرهِم بِه]، أَفادنا المفسِّر رحمه الله أنَّ المُرادَ بِالتَّبيُّنِ هُنا لازَمَه وهو المُعاقَبَةُ؛ لِأنَّه لَو كانَ المُرادُ التَّبَيُّنَ فقط بِدونِ عِقابٍ عَلي مخُالفتِه بَعدَ التَّبيُّنِ لَم يَكنْ هُناكَ فائدةٌ، وَمن ذَلكَ أَيضًا -أَي مِن كَونِه يُطلَقُ البَيانُ أَوِ العِلمُ ويُرادُ بِه اللَّازِمُ- قَولُ اللهِ تبارك وتعالى:{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)} [الزلزلة: 6] أَي: ليرَوها ويُجازَوا عَليها، وهذه الآيةُ أَيضًا {يَتَبَيَّنَ} فَيُعاقَبونَ علي كُفرِهم به.

يَقولُ المُفسِّرُ رحمه الله: [وبِالجائي به] الجائي بِهِ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم.

قال اللهُ تَعالَى: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} لمَّا بَيَّنَ اللهُ سبحانه وتعالى أَنَّه سَيُظهرُ الآياتِ حتَّى يَتبَيَّنَ أنَّ هَذا القُرآنَ حَقٌّ وأَنَّ محُمَّدًا حَقٌّ ذَكَرَ شيئًا أَعظمَ دَلالَةً على أَنَّ القُرآنَ حَقٌّ، وعلى أنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ، إِنَّه هو اللهُ عز وجل ولهِذا قالَ:{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ؟

والجَوابُ: بَلَي يَكفي ذَلِكَ؛ لِأنَّ اللهَ تَعالَى إِذا رَأَى هذا الرَّجلَ يَدعو النَّاسَ إلي ما يَدعوهم إِلَيه ويُقاتِلُهم بِهِ ويَنصُره اللهُ عَليهِم ويُمكِّنُ له في الأرضِ ويَتَّبِعُهُ النَّاسُ هَل يُمكنُ أن يُقِرَّ اللهُ ذَلِكَ وهو باطلٌ؟

لا يُمكنُ أَبدًا، لا يُمكنُ إِطلاقًا، فَكَونُ اللهِ تَعالى يُمَكِّنُ لِرسولِه صلى الله عليه وسلم في الأرضِ، ويَجلِبُ قُلوبَ النَّاسِ إِليهِ ويَنصرُه عَلي أَعدائِهِ ويَفتَحُ بِدينِه آفاقَ الشَّرقِ والغَربِ، كُلُّ هَذا دَليلٌ عَلي أَنَّه حَقٌّ، وشَهادَةُ اللهِ سبحانه وتعالى لِرسولِه نَوعانِ:

ص: 336

1 -

شَهادَةٌ قَوليَّةٌ.

2 -

وشَهادةٌ فِعليَّةٌ.

أَمَّا الشَّهادَةُ القوليَّةُ فَدَليلُها قَولُه تَعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)} [النساء: 166] هذه شَهادَةٌ مِنَ الله.

أَمَّا الشَّهادَةُ الفِعليَّةُ فَهي تَمكينُ اللهِ تَعالَى لمُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في الأرضِ ونَصرُه إيَّاه وغَلَبةُ دينِهِ عَلي جَميعِ الأديانِ.

يَقولُ المُفسِّرُ رحمه الله: [{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} فاعلُ يَكفي] والباءُ مَزيدَةٌ فيهِ لِتَحسينِ اللَّفظِ ونَظيرُها: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} أي: وَكَفَي اللهُ شَهيدًا، وعلى هَذا فَنَقولُ في إِعرابِها: الباءُ حَرفُ جَرٍّ زائِدٌ إِعرابًا فائدَتُه تَحسينُ اللَّفظِ، ورَبُّ فاعلُ يَكفي مَرفوعٌ بِضَمَّة مُقدَّرةٍ عَلي آخِرِه مَنَعَ مِن ظُهورِها حَرفُ الجَرِّ الزَّائدِ.

وقولُه: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} أَضافَ الرُّبوبيَّةَ لِلرَّسولِ عليه الصلاة والسلام، وهذا لِلتَّشريفِ والتَّكريمِ؛ لِأنَّه رَبُّ كُلِّ شَيءٍ.

وانظُر إلي قَولِه تَعالَى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل: 91]؛ لِئَلَّا يَظُنَّ الظَّانُّ أنَّ الرُّبوبيَّةَ خاصَّةٌ بِهذه البَلدَةِ، كَذلِكَ أَيضًا إِضافَةُ الرُّبوبيَّة إلي الرَّسولِ مِن بابِ التَّشريفِ والتَّكريمِ، والإِشارَةُ إلى أَنَّه سَوفَ يَنصُرهُ على عَدوِّه؛ لِأنَّ رُبوبيَّةَ اللهِ لِلرَّسولِ عليه الصلاة والسلام رُبوبيَّةٌ خاصَّةٌ.

وقَولُه تَعالَى: {أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} بَدلٌ مِن قَولِه: {بِرَبِّكَ} . والبَدلُ يَقولونَ في تَعريفِه: هو الَّذي إِذا أَسقطتَ المُبدَلَ مِنه استَقامَ الكلامُ. تَقوُل: أَعجبَني زَيدٌ خُلُقُه هَذا بَدَلٌ، أَسقِط زَيدًا: أَعجَبني خُلُقُ زَيدٍ. أَكَلتُ الرَّغيفَ ثُلُثَهُ: أَسقِطِ الرَّغيفَ، وَيستَقيمُ الكَلامُ، هَذا رابطُ البَدلِ، وهُنا نَقوُل:{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ}

ص: 337

أَسقِط بِرَبِّكَ تَقولُ: أَوَلَم يَكفِ أَنَّ اللهَ علي كُلِّ شَيءٍ شَهيدٌ، يَستَقيمُ، لَكن لا شَكَّ أَنَّ القُرآنَ الكَريمَ لا يُمكنُ أَن يُوجِدَ بَدلًا ومُبدلًا مِنهُ إِلَّا لفائدةٍ عَظيمةٍ، فيَكونُ:{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} شَهادَةً ونُصرةً وتَثبيتًا وما أَشبهَ ذَلِكَ، ثُمَّ قالَ:{أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} هَذا بَعضٌ مِن مُقتَضَى رُبوبيَّتِه سبحانه وتعالى.

يَقولُ المُفسِّرُ رحمه الله: [{أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} بَدَلٌ مِنه أي: أَوَلَم يَكفِهِم في صِدقِكَ أَنَّ رَبَّك لا يَغيبُ عَنه شَيءٌ ما؟ ]، والشَّهادَةُ هُنا نَوعُها فِعليَّةٌ، يَعني:{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وَقَد مَكَّنَ لَكَ في الأَرضِ وَثَبَّتك ونَصَرَك عَلَيهِم وعلى كُلِّ عَدوٍّ لَكَ؟

والجَوابُ: بَلَى، واللهِ إِنَّ هَذا لَكافٍ، وهذا كقولِه تَعالَى:{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)} [العنكبوت: 50] بَعدَها: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] الكِتابُ أَعظمُ آيةً شَهادَةٌ مِنَ اللهِ عَلي صِدقِ رَسولِه.

ثُمَّ قالَ اللهُ تَعالَى: {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} {أَلَا} أَداةُ استِفتاحٍ وتُفيدُ شَيئينِ:

الشَّيءَ الأَوَّلَ: التَّوكيدَ.

والشَّيءَ الثَّانيَ: التَّنبيهَ {أَلَا} وهي غَيرُ مُركَّبةٍ بَل هي كَلمةٌ واحدَةٌ.

يَقولُ المُفسِّرُ رحمه الله: [{أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ} شكٍّ {مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} لِإنكارِهِم البَعثَ]، فَهُم والعياذُ بِاللهِ في شَكٍّ مِن لِقاءِ اللهِ ولَو كانوا يَرجونَ للهِ لِقاءً لاستقاموا وخافوا مِنه، كُلُّ إِنسانٍ يُؤمِنُ بِأَنَّه مُلاقٍ رَبَّه، فَإِنَّه سوف يَستقيمُ علي أَمرِ اللهِ؛ لِأنَّه يَعلمُ أَنَّ الرَّبَّ عز وجل سوف يُحاسِبُه علي هذا.

ص: 338