الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيتان (2، 3)
* * *
* قال الله عز وجل: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 2 - 3].
* * *
قَولُه تَعالى: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} قالَ المُفسِّر رحمه الله: [{تَنْزِيلٌ} مُبتدأٌ، و {كِتَابٌ} خبرُهُ]، وَلَوْ قِيلَ بِالْعكسِ -في غَير القُرآن- لَكانَ أوضحَ، لو قِيلَ: كِتابٌ فُصِّلتْ آياتُهُ تنْزيلٌ مِنَ الرَّحمنِ الرَّحيمِ؛ لأنهُ يُخبرُ بالمعنى عنِ الذَّاتِ، ولا يُخبِرُ بالذاتِ عنِ المعنَى؛ وهذا هو الأصلُ، فتقولُ: زيدٌ قائمٌ، قائمٌ خبرٌ، ولا تَقُلْ: زيدٌ خبَرٌ، لكنْ ما ذهبَ إلَيهِ المُفسِّر من الإعْراب له وجْهٌ، فليسَ باطِلًا، لكنْ لو قِيلَ: إنَّ {تَنْزِيلٌ} هوَ خبرُ مقدَّمٌ و {كِتَابٌ} مُبتَدأٌ مُؤخرٌ لكانَ أوْضحَ وأبْينَ.
وقوله: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يَعني به الرَّبَّ عز وجل أيْ تنزيلٌ منَ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، لكنَّه أَتى بهذَيْنِ الِاسمَينِ الكَريمَينِ إشارةً إلى أنَّ القُرآنَ رحمةٌ؛ لأنَّ إنزالَه منْ مُقتَضى رحمةِ اللهِ عز وجل أليسَ منَ الممكنِ أنْ يُقالَ: تنزيلٌ منَ اللهِ؟ بلَى، كما جاءَ في آياتٍ أخرى، لكنَّه قالَ:{مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، إشارةً إلى أنَّ هذا القرآنَ نزلَ بمُقتَضى رَحمةِ اللهِ عز وجل وأنَّ اللهَ رحِمَ بهِ العِبادَ.
والرَّحمنُ الرَّحيمُ: اسمانِ منْ أسْماءِ اللهِ، منْ أشرفِ أسماءِ اللهِ عز وجل ويأتيانِ
مُقتَرِنينِ، ويأتِيانِ مُنفَصلَيْنِ بعضُهما عنْ بعضٍ؛ فإنِ انفَصلَا فكلُّ واحدٍ مُتضمِّنٌ معنَى الآخَرِ.
فقولُه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، هذا مُنفَرِدٌ عنِ الرَّحيمِ، فيتَضمَّن الصِّفَةَ والفِعلَ؛ أيْ: أنَّ اللهَ تَعالى مَوصوفٌ بِالرَّحمةِ الواسِعةِ، وهوَ سبحانه وتعالى يَرحَم -بهذِه الرَّحمةِ- مَنْ شاءَ مِن عِبادِه.
وفي قَولِه: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107]، أيضًا نَقولُ: الرَّحيمُ هُنا تشْملُ الوَصفَ والفِعلَ، لِأنَّها انفردتْ عنِ الرّحمنِ.
أمَّا إذا اجْتَمعَ (الرَّحمنُ والرَّحيمُ) كانتِ الرَّحمنُ للصِّفةِ والرَّحيمُ للفِعلِ، ولهذا جاءتِ الرَّحمُن على وزنِ "فَعلان"، وهذا الوزنُ في اللُّغةِ العَربيَّةِ يَقتَضي الِامتِلاءَ وكَمالَ وتمَامَ الوصفِ الَّذي كانَ مُرادًا؛ فَمثلًا يُقالُ: غضبانُ لمَنِ امْتلَأَ غضَبًا، ويُقالُ: غاضِبٌ لمَنْ كانَ غضَبُه خفِيفًا، وكذَلِك سكْران للمُمتَلِئ سُكْرًا، فكلُّ هذا الوَزنِ يُفيدُ الِامْتِلاءَ والسَّعَةَ.
أمَّا الرَّحيمُ فغُلِّبَ فيها جانبُ الفِعلِ؛ أيْ: إيْصالُ الرَّحمةِ إلى المَرحومِ، ولهذا جاءتْ في القُرآنِ الكَريمِ:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]؛ أي: قدْ وَصلَت رحْمتُه إلى المؤمِنين على وجْهٍ مُطلقٍ، أمَّا غيرُ المؤمنينَ فإنَّهُ يَرحمُهُم بالمعنَى العامّ.
وقد ذَكَر بعضُ المُفسِّرينَ: أنَّ الرَّحمنَ أعمُّ منَ الرَّحيمِ، فتَشملُ الكُفَّارَ، أمَّا الرَّحيمُ فهيَ خاصَّةٌ بِالمؤمنينَ، لكنَّ ما ذَكَرتُه أحسن، وقدْ نبَّهَ عليهِ ابنُ القيِّمِ
(1)
رحمه الله.
وخُلاصةُ ما قُلنا في "الرَّحمَنِ الرَّحيمِ": إمَّا أنْ يُذكَرَ الرَّحمنُ مَع الرَّحيمِ، أو يُفردُ
(1)
انظر: مدارج السالكين (1/ 56).
أحدُهُما عنِ الآخَرِ، فإنْ أُفرِدَ أحدُهما عنِ الآخَرِ تضمَّنَ الثَّاني، وإنْ ذُكِرَا جميعًا غُلِّبَ في الرَّحمَنِ جانِبِ الصِّفَةِ، وفي الرَّحيمِ جانِبُ الفِعْلِ.
واعلَمْ أنَّ هذَينِ الِاسمَينِ الكَريمَينِ يدلَّانِ على أنَّ اللهَ تعالَى مَوصوفٌ بالرَّحمةِ، كما قالَ تَعالى:{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58]{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} [الأنعام: 133] ، فالرَّحمةُ صِفتُهُ والرَّحيمُ اسمُهُ، وهل هذا الاسمُ ممَّا يتَعدَّى أو منَ المَصادِرِ اللَّازِمةِ؟
الجَوابُ: يَتعَدَّى؛ لقولِه تَعالى: {وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت: 21]، والقاعِدةُ في العَقيدَةِ: أنه إذا كانَ الِاسمُ لازِمًا لا يَتعدَّى، فإنَّهُ يتَضمَّنُ أمرَيْنِ: إثْباتَ الِاسمِ، وإثْباتَ الصِّفَةِ، وإذا كانَ يَتعدَّى فإنَّه يَتضمَّنُ ثلاثةَ أشياءَ: إثْباتَ الِاسمِ، وإثْباتَ الصِّفَةِ، وإثْباتَ الفِعْلِ.
فكلِمةُ العَظيمِ اسمٌ منْ أسْماءِ اللهِ لازِمٌ؛ ولهذا يُقالُ: عَظُمَ؛ أي: صارَ عَظيمًا؛ والإيمانُ بهِ يَتَضمَّنُ الإيمانَ بالعَظيمِ، على أنه اسمٌ منْ أسْماءِ اللهِ، ويتَضمَّنُ أيضًا ثُبوتَ العظَمةِ للهِ عز وجل.
وكلِمة الرَّحمنِ تَتضمَّنُ ثلاثةَ أشياءَ: تَتضمَّنُ "الرَّحمنَ"، اسمٌ من أسماءِ اللهِ، والثاني: الرَّحْمةُ؛ صِفةٌ مِن صِفاتِهِ، والثالثَ: الفِعلُ؛ أيْ: أنهُ يَرحمُ مَن يَشاءُ، وعلى هذا فَقِسْ.
فالإيْمانُ بالأسْماءِ: إنْ كانتْ مُتعدِّيةً لزِمَ أنْ تُؤمِنَ بالاسمِ والصِّفةِ والفِعلِ، وإنْ كانتْ لازِمةً وجَبَ أنْ تُؤمنَ بالِاسمِ والصِّفَةِ.
وقولُه: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} كِتابٌ فِعالٌ بمعْنَى مَفعُولٍ؛ أي: مَكتوبٌ،
وهو مَكتوب في اللَّوْحِ المَحفوظِ، ومَكتوب بالصُّحُفِ الَّتي بأيدِي الملائكَةِ، ومَكتوب بِالصُّحُفِ الَّتي بأيْدِينا.
أمَّا الأوَّلُ فدَليلُه قولُه تَعالَى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21 - 22] وأمَّا الثانى دَليلُه قولُه تَعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 12 - 16].
وأمَّا الثَّالثُ فواضِح، فكلُّ ما جاءَ من كِتابٍ فهوَ يتَضمَّنُ هذه المعاني الثَّلاثةِ.
قَولُهُ رحمه الله: [{فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} بُيِّنت بالأحْكامِ والقصَصِ والمَواعِظِ] التَّفْصيلُ ضدُّ الإجْمالِ، يَعنِي: أنَّ آياتِ القُرآنِ مُفصَّلة، لكِنَّها تأتي أحْيانًا مجُملةً، وتأتي أحْيانًا مُفصَّلةً، وإذا فُصِّلَ المُجملُ صارَ الجَميعُ مُفصَّلًا.
وقولُه: {آيَاتُهُ} جَمعُ آيةٍ، والآيةُ في القرآنِ هي كلُّ ما فُصِلَ بينها وبين ما سبَقها ولحِقَها بفاصلٍ؛ ولهذا تَسمَعون في كلامِ العُلَماءِ:"فَواصِلُ الآياتِ"، يعنِي الأماكنَ الَّتي تُفصَلُ فيها الآيةُ عمَّا قبلَها وعمَّا بعدَها.
والآياتُ الكَريمةُ مِنها ما هو طَويل، ومنها ما هو قَصير، ومنها ما هو مُتوسِّط؛ فأطوَلُ آيةٍ في كِتابِ اللهِ آيةُ الدَّينِ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282]، وأقْصَرُ آيةٍ:{طه} [طه: 1] ، لكنَّ هذه منَ الحُروفِ الَّتي ليسَ لها معنًى، كما قرَّرْنا.
فقولُه: {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21] أقصرُ آيةٍ في كِتابِ اللهِ، والباقي مُتوسِّطٌ منهُ ما يَميلُ إلى الطُّولِ، ومنهُ ما يَميلُ إلى القِصَرِ.
والسُّنّة في الآياتِ: أنْ تَقرَأها حسْبَ ما فُصِّلَتْ؛ فتُقرَأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 1 - 7].
فهذه سبعُ آياتٍ، تَقرَؤها هَكَذا مُفصَّلَةً، وإنْ أُدرِجَتْ فلا بأسَ؛ لأنَّه لم يرِدِ النَّهْيُ عن ذلك، إلَّا أنه لا يَنْبغِي للإنسانِ أنْ يَهُذَّ القُرآنَ هَذًّا، تخْفَى معه الحُروفُ، بل قد يَحرُمُ عليهِ إذا لَزِمَ أن تَخفى بعضُ الحُروفِ. أمَّا الهذُّ الذي يَستكمِلُ فيهِ الإنسانُ الحُروفَ فلا بأسَ، لكنَّ الأفْضلَ الوقوفُ على كلِّ آيةٍ.
فإنْ قالَ قائل: هل تقِف على قولِه تَعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4]؟
فالجَوابُ: يقفُ؛ لأنَّها آيةٌ؛ لأنَّ اللهَ عز وجل هو الَّذي أنزَلَها، وجعَلَ هذه آيةً مُنفصِلةً عنِ الأُخرى، وربَّما يَكونُ في الوُقوفِ على الآية هكذا حتَّى يَندهِشَ القلبُ، فيترَقَّبَ بشغَفٍ المعنى المُبيِّنَ لهذا، فتَقولُ:{الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] ، فكَأنَّها مطَرٌ على أرْضٍ قاحِلةٍ، إذَنْ: نقِفُ على هذا ولا مانِعَ.
أمَّا قولُه: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} فهذِهِ لا نقِفُ عليها، لأنَّها ليستْ رأسَ آيةٍ بَلْ نَقولُ:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43].
إذَنْ: فقَوله تَعالى: {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} ، يَشْملُ التَّفصيلَ اللَّفْظِيَّ والمعنَوِيَّ؛ فالتَّفْصيلُ اللَّفْظيُّ: أنَّ اللهَ جعلَ كلَّ آيةٍ مُستقلِّةً عنِ الأُخرَى، مَفصولًا بعضُها عن بعضٍ، والمَعنَوِيُّ: التَّبْيينُ والإيضاحُ لِما كانَ مُجْملًا، ولهذا أَشارَ المُفسِّر رحمه الله إلى التَّفْصِيلِ المْعنَوِيِّ فقطْ؛ فقالَ:[بُيِّنَتْ بالأحْكامِ والقَصَصِ والمَواعِظِ]، ولكنْ ينْبَغِي أنْ يُقالَ: إنَّها فُصِّلَتْ مِن وَجْهَينِ: لفظِيٍّ ومَعنوِىٍّ. فاللَّفظِيُّ: أنَّ كلَّ آيةٍ فُصِلَتْ عنِ الأُخرَى، والمعنَوِيّ: أنَّها بُيِّنَتْ وبُيِّنَ ما أُجمِلَ منها، سَواءٌ مِنَ الأحكامِ أو غيرِها.
فقوله تَعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار: 17 - 18]، هذا مجُمَلٌ فصَّلَهُ بِقَولِه:{يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19].
وقَوله تَعالى: {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة: 1 - 3] مجُمَلٌ فصَّلَه بِقولِه: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} . فالتَّفْصيلُ هُنا -أي: التَّفْصيلُ المعنويُّ -يعني بيانَ القرآنِ أنَّه بيَّنَ ووضَّحَ، حتَّى لو جاءَ مُجملًا فلا بدَّ أنْ يُبيَّن.
فإذا قالَ قائلٌ: قالَ اللهُ تَعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} ، وفي آية أُخرى قالَ:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23] ، فأين الجَمعُ بينَ هذِه الآياتِ؟
الجَوابُ: لا تَعارُضَ؛ لأنَّ قولَه: "مَثانيَ" بمعنى "فُصِّلَتْ"، حيثُ إنَّ معناها تُثنَّى فيه المَعاني، فيَذكُرُ الخَيرَ ثمَّ الشَّرَّ، يَذكُرُ أهلَ الخيرِ وأهلَ الشَّرِّ، والجنّةَ والنَّارَ وما أشبَهَ ذلِكَ؛ هذا هوَ المُرادُ بِقولِه:"مَثانيَ".
أمَّا قوله: "مُتَشابِهًا"، فمَعناه: أنَّه يُشبِهُ بعضُهُ بعضًا في الكَمالِ والحُسْنِ والجَودَةِ.
فإنْ قِيلَ: ما الجَمعُ بينَ ثَناءِ اللهِ على القُرآنِ بأنَّه مُتَشابِهٌ وبيْنَ قولِه تَعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7]؟
قُلْنا: الجَمعُ بينهما أنَّه مُتشابِهٌ في الحُسْنِ، يُشبهُ بَعضُه بَعضًا، وأمَّا محُكَماتٌ ومُتَشابهاتٌ، فالمُحكَماتُ هي: ما اتَّضحَ مَعناها، والمتشَابهاتُ هي: ما خفِيَ مَعناها.
وقولُه رحمه الله: [{قُرْآنًا عَرَبِيًّا} حالٌ مِنْ "كتابٌ" بصفَتِه].
مفسِّرُ الجلالَيْنِ رحمه الله جيد جدًّا، حيث قالَ: إنَّ {قُرْآنًا} [حالٌ]، فكأنَّ
إنسانًا أورَدَ عليهِ كيفَ تَقولُ: إنَّه قُرآنٌ، والحالُ وصفٌ، والقرآنُ ليسَ وصفًا، فقالَ: بصِفتِه، وصفْتُه:{عَرَبِيًّا} ؛ يَعني: لو كانتْ في الآيةِ الكريمةِ قُرآنًا فقطْ، لمَا صحَّ أنْ تَكونَ حالًا؛ لأنَّ الحالَ لا بُدَّ أنْ تَكونَ مُشتقَّةً: اسمَ فاعلٍ، أوِ اسمَ مَفعولٍ، أو ما أشبهَ ذلكَ، وقرآنٌ غيرُ مشتقٍّ؛ فلهذا قالَ: إنَّها [حالٌ مِن "كتابٌ" بصِفتِه].
إذَن: [بصِفَته] عائِدٌ على "قرآنٍ"، كأنه قالَ: صحَّ أن يَكونَ حالًا لأنه مَوصوف.
فإذا قالَ قائِلٌ: كيفَ تجعَلونَهُ حالًا مِنْ كتابٍ وكتابٌ نكرةٌ وصاحبُ الحال لا بُدَّ أنْ يكونَ مَعرِفةً؟
قُلنا: إنَّ هذهِ النَّكرةَ خُصِّصَتْ في قولِه: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} ، خُصِّصتْ بالصِّفةِ، والنَّكرَةُ إذا خُصِّصتْ صارتْ قريبةً منَ المَعرِفةِ؛ فلِذلك جازَ وقوعُ الحالِ منها.
فلدَينا الآنَ إشْكالانِ:
الإشْكالُ الأوَّلُ: كيفَ جاءتِ الحالُ مِن كِتابٍ وهوَ نكِرةٌ؟
وجَوابُه: أنَّ كِتابًا الَّذي هو النَّكِرةُ وُصِفَ بقولِه: {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} ، وإذا وُصِفتِ النَّكرة جازتِ الحالُ منها.
الإشْكالُ الثَّاني: الحالُ {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} إذا أعرَبْنا قُرآنا حالًا، فكيفَ صحَّ أنْ يكونَ حالًا وليسَ بمُشْتقٍّ؟
فالجوابُ: أنه مَوصوفٌ مُشتقٌّ فلذلكَ جازتِ الحالُ منه.
وقولُه: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} معنَى كونِه عرَبيًّا: أوَّلًا: كلِمةُ "قُرآن" على وزنِ فُعْلانٍ،
كشُكرانٍ وغُفرانٍ وما أشبهَ ذلكَ. فهلْ هو بمعنى قارئٍ أو بمعنى مَقروءٍ؟ قِيلَ: إنَّه بمعنى مَقروءٍ، ومَقروءٌ هلْ هو منَ الجَمْع أو منَ التِّلاوَةِ؟ قِيلَ: إنَّه مِنْ قَرى يَقري بمعنى جمَع، ومنه اسمُ القريةِ؛ لأنَّها جامعةٌ للناسِ، وقِيل: مِن قرَأ بمعنى تَلا.
والصَّوابُ: أنه جائزٌ أنْ يَكونَ مِنْ هذا ومن هذا؛ لأنه ما دامَ اللَّفظُ صالحًا للمعنيِّينَ ولا مُنافاةَ بينَهما، فإنَّه يُحمَلُ عليهما جَميعًا؛ وهذا إذا قُلنا: إنَّ {قُرْآنًا} بمعنَى مَقرُوءٍ.
ويَجوزُ أنْ تكونَ بمعنى اسمِ الفاعِلِ "قارِئ"؛ فَقُرآنُ بمَعنى قارِئ؛ أي: جامِعٌ، جامِع للأحكام والتَّوْحيد وغير ذلك.
أمَّا "عرَبِيًّا" فهو نِسبة للعَرَب؛ لأنَّه جاءَ بلُغَتِهم.
وقولُه تعالى: [{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} يَفهَمون ذلك، وهم العرَب]، يعنِي: أنَّ الله جعلَه قرآنا عرَبيًّا لقَوْم يعلَمونَه ويفهَمُونه، ولا حُجَّة لهم في مُعارَضَته والكُفرِ به، لأنَّهم يَعلَمُونه، كما قالَ تعالى في آية أُخْرى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]؛ أي: تَفهَمون معناه، حيثُ جاء بلِسان العَرَب.
فائِدة: ورَدت في القرآنِ آيات تَجرِي على سبيل المَثَل، مِثل:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] فهل صحيحٌ أنَّه وردَ النَّهي عن استِعمالها في غير مَكانها؟
الجَواب: للاستِشهاد بها لا بأسَ به؛ أمَّا أنْ تَجعَل القرآنَ بدلًا عن الكلامِ فهذا حرام.
وقد ذَكَر صاحبُ (جواهِرِ الأدَب) قِصَّة عَنوَنها بقولِه: "المُتكلِّمةُ بالقرآنِ