المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الحسية الظاهرة، وعلومها الباطنة، كعلم يعقوب بتأويل رُؤْيَا يُوسُفَ وعِلْمِهِ - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٣

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: الحسية الظاهرة، وعلومها الباطنة، كعلم يعقوب بتأويل رُؤْيَا يُوسُفَ وعِلْمِهِ

الحسية الظاهرة، وعلومها الباطنة، كعلم يعقوب بتأويل رُؤْيَا يُوسُفَ وعِلْمِهِ بكذبهم في دعوى أكل الذئب له، ومن شَمِّهِ لرِيحِ يُوسُفَ منذ فصلت العير من أرض مصر ذاهبةً إلى أرض كَنْعَانَ، ومن رؤيةِ برهان رَبِّهِ، ومن كيد الله له ليأخذ أخاه بشرع الملك، ومن عِلْمِهِ بأنَّ إلْقَاءَ قميصه على أبيه يُعيده بصيرًا بعد عَمى بَقِيَ كثيرًا من السنين.

وقرأ مجاهد، وشِبْلٌ وأهلُ مكة، وابن كثير (1):{آيةٌ} علي الإفراد. وقرأ الجمهور: {آياتٌ} . وفي مصحف أُبي: {عبرةٌ للسائلين} مكانَ آية.

‌8

- {إِذْ قَالُوا} ؛ أي: إن في شأن يوسف وإخوته لعبرة حين قالوا؛ أي: حِينَ قال بعض العشرة لبعضهم والله {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ} الشقيقُ بِنْيَامِينُ بكسر الباء وفتحها فاللام في {لَيُوسُفُ} موطئة (2) للقسم كما قدرنا، أو لام الابتداء (3)، وفيها تأكيد، وتحقيقٌ لمضمون الجملة، أرادوا أنَّ زيادة مَحَبَّتِهِ لهما أمر ثابت لا شبهة فيه، وإنما قالوا هو وأخوه، وهم إخوته أيضًا؛ لأنَّ أمَّهُمَا كانت واحدةً اسمها راحيلُ كما مرَّ فهو شَقِيقُه. والشقيق: الأخُ من الأب والأم. وقد يقال: للأخ من الأب، لأنَّه شَقَّ مَعَكَ ظهْرَ أبيك، وللأخ من الأم لأنه شق معك بطن أمك. وفي "القاموس": الشقيق كأمير الأخِ كأنه شقَّ نسَبُه من نسبه، انتهى. وإنما لم يذكر (4) باسمه تلويحًا بأنَّ مدار المحبة إخوته ليوسف من الطرفين، الأب، والأم، فالمآل إلى زيادة الحُبِّ ليُوسُفَ ولذلك تعرضوا لقتله، وطرحه، ولم يتعرضوا لبنيامين. {أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا}؛ أي: أكْثرَ وأزيدُ مَحَبَّةً مِنَّا عند أبينا، وإنما قالوا هذه المقالَةَ: لأنه بلَغَتْهُم خَبر الرؤية، فأجمع رأيهُم على كيده. {و} الحال {نحن عصبة}؛ أي: والحال أنَّا جماعةٌ قادرون على الحل والعقد قائمون بدفع المقاصد، والآفات مشتغلون بتحصيل المنافع، والخيرات، وقائمون بمصالح

(1) البحر المحيط.

(2)

الخازن.

(3)

النسفي وغيره.

(4)

روح البيان.

ص: 322

الأب، فنحن أحِقَّاءِ بزيادةِ المحبة منهما، لفضلنا بذلك، وبكوننا أَكْبَرَ سِنًّا، وما معنى اختيار صغيرين ضعيفين على العشرة الأقوياءِ. والعصبة والعصابة: العشرة من الرجال فصاعدًا كما سيأتي في مَبْحَثِ مفردات اللغة. وإنما قيل (1): أحبُّ بالإفراد في الاثنين؛ لأن أفعلَ منْ لا يُفرَّق فيه بين الواحد وما فوقه، ولا بَيْنَ المذكر والمؤنث، ولا بُدَّ من الفرق مع لام التعريف، وإذا أُضِيفَ جَازَ الأمران كما يُعرف من محله.

والمعنى (2): أي إنَّ في شأنهم لعبرةً حين قالوا: ليوسُف وأخوه الشقيقُ بنيامينُ أحَبُّ إلَى أَبِينَا منا فهو يفضلهما علينا بمزيد محبة على صغرهما، وقليل نفعهما، ونحن رجال أشداء أقوياء، نَقُوم بكل ما يحتاج إليه من أسباب الرزق والكفاية.

{إِنَّ أَبَانَا} في ترجيحهما علينا في المحبة مع فضلنا عليهما، وكونهما بمعزل من الكفاية، بالصغر، والقِلَّة {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}؛ أي: لفي خطأٍ بين ظاهر الحال بالنسبة إلى مصالح الدنيا، لا في الدين، وإلا لكفروا بذلك، نظروا إلى صورة يُوسُفَ، ولم يحيطوا علمًا بمعناه، فقالوا ما قالوا، ولم يعرفوا أنَّ يوسف أكبرُ منهم بحسب الحقيقة والمعنى؛ أي: إنَّ أبانا لقد أخطأ في إيثاره يوسفَ، وأخاه من أمه علينا بالمحبة، وهو قد ضَلَّ طريق العدل والمساواة ضلالًا بينًا لا يَخْفَى على أحد، فكيف يفضل غُلامَيْنِ ضعيفين لا يقومان له بخدمة نافعة على العصبة أولى القوة، والكسب، والحماية عن الذمار.

وفي الآية (3): من العبرة وجوبُ عِناية الوَالِدَين بمداراة الأولاد، وتربيتهم على المحبة، واتقاءِ وقوع التحاسد والتباغض بينهم، واجتناب تفضيل بعضهم على بعض، بما يعده المفضول إهانةً له، ومحاباة لأخيه بِالهَوى. قال بعض (4)

(1) النسفي.

(2)

المراغي.

(3)

المراغي.

(4)

روح البيان.

ص: 323

العارفين: مَال يعقوبُ إلى يوسفَ لظهور كمال استعداده الكليِّ في رؤياه حين رَأى أحد عشرَ كَوْكبًا والشَّمْسَ والقمرَ له ساجدين، فَعَلِمَ أبوه من رؤياه أنه يَرِث أباه وجده، ويجمعُ استعداداتِ إخْوتِهِ، فكان يضمه كل ساعة إلى صدره، ولا يَصْبِرُ عنه فتَبالَغَ حَسَدُهم حتى حَمَلَهم على التعرُّض له.

وقيل: لأنَّ اللَّهَ تعالى أَرادَ ابتِلَاءَهُ بمحبته إليه في قلبه، ثمَّ غيَّبَهُ عنه ليكون البلاء أشدَّ عليه، لغيرة المحبة الإلَهية، إذ سلطان المحبة لا يقبل الشركة في ملكه، والجمالُ والكمال في الحقيقة لله تعالى، فلا يَحْتَجِبُ أحدٌ بما سواه، ولا كيد أشدَّ من كيد الولد. ألا ترى أنَّ نوحًا عليه السلام دَعَا على الكفار فأغْرَقهم الله تعالى، فلَم يَحْتَرق قَلْبُه، فلما بلغَ وَلدُه الغرقَ صاح ولم يصبر وقال:{إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} . قيل: وإنما خَصَّ (1) يعقوبُ يُوسُفَ بمزيد المحبة والشفقة؛ لأنَّ أُمهُ ماتَتْ وهو صغير، أو لأنه رَأَى فيه من آيات الرشد، والنجابة ما لم يره في سائر إخوته، أو لأنه وإن كانَ صغيرًا كان يخدم أباه بأنواع من الخدمة، أعلى مما كان يَصْدُر عن سائر الأولاد.

وكان (2) بنيامين أصْغَرَ من يُوسُفَ فكان يعقوب يحبهما بسبب صغرهما، وموتِ أمهما، وحُبُّ الصغير، والشفقةُ عليه مركوز في فطرة البشر. وقيل لابنةِ الحسن: أي ابنيك أحبُّ إليك؟ قالت: الصغيرُ حتى يَكْبَرُ، والغائبُ حتى يَقدم، والمريضُ حتى يُفِيقَ. وقد نظم الشعراء في محبة الولد الصغير قديمًا وحديثًا، ومِنْ ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري في قصيدته التي بَعَثَ بها إلى أولاده وهو في السجن:

وَصَغِيْرُكُمْ عَبْدُ الْعَزِيزِ فَإنَّنِي

أَطْوِيْ لِفُرْقَتِهِ جَوَى لَمْ يَصْغُرِ

ذَاكَ المُقَدَّمُ في الْفُؤَادِ وَإِنْ غَدَا

كُفُؤًا لَكُمْ في الْمُنْتَمَى وَالْعُنْصُرِ

إنَّ الْبَنَانَ الْخَمْسَ أَكْفَاءٌ مَعًا

وَالْحِلْيُ دُوْنَ جَمِيْعِهَا لِلْخِنْصَرِ

وَإِذَا الْفَتَى بَعْدَ الشَّبَابِ سَمَا لَهُ

حُبُّ الْبَنِيْنِ وَلَا كَحُبِّ الأَصْغَرِ

(1) الخازن.

(2)

البحر المحيط.

ص: 324