الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منبوذًا، أي: واستخفَفْتُم بربكم، فجعلتموه تعالى شيئًا منبوذًا وراءَ الظهر، منسيًّا لا يبالى به؛ أي: جعلتموه مِثْلَ الشيء المطروح وراء الظهر بإشراككم به، والإهانة برسوله، لا تأتمرون لأمره، ولا تخافون عِقَابَهُ، ولا تعظِّمُونه حقَّ التعظيم، فلا تُبْقُون على الله، وتبقون على رهطي؛ أي: فلا تحفظونني، ولا ترحمونني لله تعالى، وتُراعُون نسبة قرابتي إلى الرهط، وتضيّعون نسبتي إلى الله بالنبوة، فكأنكم زَعَمْتُم أنَّ القومَ أعزُّ من الله، حيث تزعمون أنكم تركتم قتلي إكرامًا لرهطي، والله أولى بأن يُتَّبَعَ أمره، كأنه يقول: حِفْظكُم إيَّاي في الله أولى منه في رهطي، وقيل: المعنى: واتخذتم أمْرَ الله الذي أمرني بإبلاغه إليكم، وهو ما جئتكم به وراء ظهوركم. والعربُ تقول لكل ما لا يُعْبَأُ بأمره: قد جَعَل فلانُ هَذَا الأمرَ بظهره، فالظهري منسوبٌ إلى الظهر، والكسر لتغيير النَّسب كقولهم في النسبة إلى أمس: إمسيُّ بكسر الهمزة، وإلى الدهر دُهْرِيُّ بضم الدال. {إِنَّ رَبِّي} سبحانه وتعالى {بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمال السيئة التي من جملتها عدم مراعاتكم لجانبه. {مُحِيطٌ} لا يخْفى عليه منها خافية، وإن جعلتموه منسيًّا، فيجازيَكم عليها، والإحاطة: إدراك الشيء بكماله، وإحاطةُ الله تعالى بالأعمال مَجَازٌ عن علمه.
والمعنى (1): أي إن ربي سبحانه وتعالى محيط علمه بعملكم، فلا يَخْفَى عليه شيء منه، وهو مجازيكم عليه، وأما رهطي فلا يستطيعون لكم ضرًّا ولا نفعًا، ولا يَخْفى ما في ذلك من التهديد والوعيد.
93
- ثم هدَّدهم مرة أخرى فقال: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا} كل ما في وسعكم وطاقتكم من إيصال الشرور إلى حالة كونكم {عَلَى مَكَانَتِكُمْ} ؛ أي: موصوفين بغاية المكنة، والقدرة، والقوة؛ أي: على نهاية التمكن، وغايته في إيصال الضرر إليَّ، مِنْ مكن مكانةً فهو مكين، إذا تمكَّن من الشيء أبلغ التمكنِ، أو بمعنى المكان، كمقام، ومقامة، والمعنى: إعملوا ما شئتم على ناحيتكم، وجهتكم التي أنتم عليها من الشرك والعداوة لي؛ أي: ويا قوم (2) اعملوا ما استطعتم على منتهى تمكنكم في قوتكم وعَصَبِيتكم.
(1) المراغي.
(2)
المراغي.
وخلاصة ذلك: اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقة، وسائر ما لا خَيرَ فيه. وهذا كلامٌ مِن واثقٍ بقوته بربه، وضَعْفِ قومه على كثرتهم، وإدلالهم عليه، وتهديدهم له بقوتهم. {إِنِّي عَامِلٌ} على مكانتي حذف للاختصار، والاكتفاء أي عامل بقدر ما آتاني الله من القدرة، وعلى حسب ما يؤتيني الله من النصرة والتأييد. فكأنهم قالوا: ماذا يكون إذا عملنا على قوتنا. فقال: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ} إما استفهامية؛ أي: أيُّنا، أو موصولة أيَّ تَعْرِفون الذي {يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ}؛ أي: يذله ويُهينه أنا أم أنتم {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} في قوله، ومن هو صادق مني ومنكم. وفي "الفتوحات" فـ (من) موصولة في محل نصب؛ أي: سوفَ تعلمون الشقيَ الذي يأتيه عذاب يخزيه، والذي هو كاذب، وهذا أحسن من قول الفراء (من) استفهامية في موضع رفع بالابتداءِ على معنى: أيّنا لا يأتيه العذاب، وأيُّنا هو كاذب، وإنما كان أحسن لأنَّ (من) الثانية موصولة أيضًا، ولا توصل بالاستفهام، وعلم عرفانية، انتهى. وهذا تصريح منه بالوعيد بعد التلميح بالأمر بالعمل المستطاع تعجيزًا لهم. ولما أوعدوه (1)، وكذبوه .. أراد أن يَدفَع ذلك عن نفسه، ويَلْحَقه بهم، فسَلَك سبيل إرخاء العنان لهم وقال:{سَوْفَ تَعْلَمُونَ} من المعذب والكاذب مني ومنكم، وأينا الجاني على نفسه، والمخطىءُ في فعله، يريد أنَّ المعذَّب والكاذبَ أنتم لا أنا. قال الفراء: إنما جاء بهو في {من هو كاذب} لأنهم لا يقولون من قائم إنما يقولون: من قام، ومن يقوم، ومن القائم فزَادوا (هو) ليكونَ جملة تقوم مقام فَعَل ويفعلُ، ذكره الشوكاني.
فائدة: قال الزمخشري (2): فإن قلت: أي فرق بين إدخال الفاء في سورة الأنعام في قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وحذفها هنا، حيث قال:{سَوْفَ تَعْلَمُونَ} .
قلت: إدخال الفاء وَصلٌ ظاهر بحرف موضوع للوصل، وحذفها وصل خفي تقديريٌّ بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر، كأنهم قالوا: فماذا يكون إذَا
(1) روح البيان.
(2)
البحر المحيط.
عَمِلنا نحن على مكانتنا، وعملت أنت على مَكَانَتِكَ. فقال: سوف تعلمون، يوصَل تارةً بالفاء، وتارةً بالاستئناف كما هو عادةُ البلغاء من العرب، وأقوى الوصلَين وأبلغهما الاستئنافُ؛ لأنه أبلغ في باب الفصاحة، والتهويل، وهو بابٌ من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه.
{وَارْتَقِبُوا} ؛ أي: انتظروا مآلَ ما أقولُ لكم من حلول ما أَعِدُكم به، سيظهر صِدْقُه {إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}؛ أي: منتظر لما يقضِي الله به بيننا، وهو فعيل بمعنى الراقب. وعبارة القرطبي:{وَارْتَقِبُوا} ؛ أي (1): انتظروا العذابَ والسخطةَ {إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} ؛ أي: فإني منتظر النصر والرحمةَ. وكان شعيب عليه السلام يسمَّى خطيب الأنبياء، لحسن محاورته مع قومه، وكمال اقتداره في مراجعته جوابَهم، وكان كثيرَ البكاء حتى عَمِيَ ثم رَدَّ الله عليه بصرَهُ، فأوحى إليه يا شعيب: ما هذا البكاءُ أشوقًا إلى الجنة أم خوفًا من النار؟ فقال: إلهي وسيدي إنك تعلم أني ما أبكي شوقًا إلى الجنة، ولا خوفًا من النار، ولكن اعتقدت حبك بقلبي، فإذا نظرت إليك، فما أبالي ما الذي تصنع بي. فأوحى الله تعالى إليه: يا شعيب إن يكن ذلك حقًّا .. فهنيئًا لك لقائي، يا شعيب، لذلك أخْدَمْتُك موسَى ابنَ عِمرانَ كليمي.
وهذه حال المقربين، فإنهم جعلوا الله تعالى بين أعينهم، وجعلوا الخَلْقَ وراءَ ظهورهم، خِلافَ ما عليه أهل الغفلة، فلم يلتفتوا إلى شيء من الكَونين حُبًّا لله تعالى، وقصرًا للنظر عليه، وهم العبيد الأحرار، والناس في حَقِّهم على طبقات. فأما أهل الشقاءِ فلم يعرفوهم مَنْ هم، ولم يَرَوْهم أصلًا لانطماس بصيرتهم، وعدم استعدادهم لهذا الانكشاف، ألا ترى إلى قوم شعيب، كيف حَجَبهم كونه أَعمى في الصورة عن رؤية جمال نبوته، وظنُّوا أن لهم أبصارًا ولا بصرَ له، ولذا عدوه ضعيفًا، ولم يعرفوا أنهم عميٌ في الحقيقة، وأن أبصارهم الظاهرةَ لا تستجلب لهم شرفًا، وأنَّ الحقَّ مع أهل الحق، سواء ساعدته الأسباب
(1) القرطبي.