الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ورُوِيَ عن ثابت البناني، وابن رجاء كسر العين المهملة. قال ابن زيد: الشَّغَفُ في الحُبِّ، والشَّعَفُ في البُغْضِ.
وقال الشعبي: الشغف والمشغوف بالغين المعجمة في الحبِّ، والشعف الجنُونُ، والمشعوف المجنون. وأدْغَمَ النحويان أبو عمرو، والكسائي، وحمزة، وهشام، وابن محيصن دَالَ (قَدْ) في شين (شَغَفَها). ثم زدنَ ذلكَ تأكيدًا بقولهن:{إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ؛ أي: في خطأ بينٍ ظاهرٍ، حيث تركت ما يجب على أمثالها من العفافِ، والستر وأحبَّت فتاها؛ أي: إنا لنعلم أنها غَائِصَة في مَهَاوِي الضلالة البينة البعيدة عن طريق الهدى والرشاد. ولم يكن قولهن هذا إنكارًا للمنكر، ولا كرهًا للرذيلة، ولا نصرًا للفضيلة، بل قلنه مَكْرًا وحيلةً ليصل الحديث إليها، فيَحْمِلها ذلك على دعوتهن، والرؤية بأبصارهن، ما يكون فيه معذرة لها، فيما فعلتْ، وذلك منهن مَكْر ولا رأيٌ، وقد وصلنَ إلى ما أردْنَ. وهذه الجملة (1) مُقرِّرَة لمضمونِ ما قبلها.
والمعنى: {إِنَّا لَنَرَاهَا} أي: نَعْلَمُها في فعلها هذا، وهي المراودة لفتاها {فِي ضَلَالٍ} عن طريق الرشد والصواب، {مُبِين}؛ أي: واضح لا يلتبس على مَنْ نظَر فيه، وإنما لم يقلْنَ (2): إنها لفي ضلال مبينٍ إشعارًا بأنَّ ذلكَ الحكمَ غير صادر عنهن مجازفة بل عن علم، ورأي، مع التلويح بأنهن متنزهات عن أمثال ما هي عليه، ولذا ابْتَلاهن الله تعالى بما رَمَيْنَ به الغيرَ؛ لأنه ما عَيَّر واحد أخاه بذنب إلَّا ارتكبه قبْلَ أن يَمُوتَ.
31
- {فَلَمَّا سَمِعَتْ} امرأة العزيز {بِمَكْرِهِنَّ} ؛ أي: باغتيابهن إياها، وسوءِ قولهن، وقولهن: امرأة العزيز عَشقَتْ عبدها الكِنعانِيَّ، وهو مَقَتَها. وسميت الغيبة مكرًا لاشتراكهما في الإخْفاءِ. {أَرْسَلَتْ} امرأة العزيز {إِلَيْهِنَّ}؛ أي: إلى نسوة المدينة تدعوهن للضيافة إكرامًا لهن، ومكرًا بهن، ولتُعْذَر في يوسف، لعلمِها أنهن إذا رأينَهُ دهشن وافتتنَّ به. قيل: دَعَتْ أربعين امرأةً، منهن الخَمْس المذكوراتُ.
(1) الشوكاني.
(2)
روح البيان.
{وَأَعْتَدَتْ} ؛ أي: أحْضرَتْ وهيَّأتْ {لَهُنَّ مُتَّكَأً} ؛ أي: ما يتكئنَ عليه من النمارق والوسائد وغيرها عند الطعام، والشراب، كعادة المترفهين، ولذلك نهي عن الأكل بالشمال أو متكأ.
وهذا إنْ (1) قُرِىءَ: مُتَّكَأً بالتشديد، فإن قرئ بالتخفيف مُتْكَأً، كان معناه: الأترج أو الزماورد بالضم، وهو طعام من البيض واللحم، معرب كما سيأتي في مبحث القراءة؛ لأنهم كانوا يتكئون على المسانيد عند الطعام، والشراب، والحديث. {وَآتَتْ}؛ أي: أعطَتْ {كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ} ؛ أي: من تلك النسوة الحاضرات {سِكِّينًا} لأجل أكل الفاكهة واللحم؛ لأنهم كانوا لا يأكلون من اللحم إلا ما يقطعون بسكاكينهم، وكانت تِلْكَ السَّكَاكِين تسمَّى خناجرَ. {وَقَالَتِ}؛ أي: زليخا ليوسف وهنَّ مشغولات بإعمال الخناجر في الطعام {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} ؛ أي: أبرز لهن، ومرَّ عليهن، فإنَّ يوسُفَ عليه السلام ما قَدر على مخالفتها خوفًا منها.
وحاصل المعنى: أي فلمَّا (2) سمعت مقالتَهن التي يردنَ بها إغضابَها حتى تريَهُنَّ يُوسُفَ إبداء لمعذرتها فيسألن ما يَبْغِينَ من رؤيته، وقد كان من المتوقع أن تَسْمَعَ ذلك لما اعتيدَ بَيْنَ الخَدم من التواصل والتزاور وهن ما قلنَه إلا لتَسمَعه، فإنْ لم يَتمَّ لهن ما أردن احتلن في إيصاله، وقد كان ما أرَدْنَ كما قال:{أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} ؛ أي: مَكَرت بهن كما مكرن بها، ودعتْهُنَّ إلى الطعام في دارها، وهيأت لهن ما يتكئنَ عليه من كراسي، وأرائكَ كما هو المعروفُ في بيوت العظماء. وكان ذلك في حجرة المائدة، وأعطت كلَّ واحدة منهن سكينًا، وخَنْجرًا، لِتَقْطَعَ بها ما تأكل من لحم وفاكهة. {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ}؛ أي: وأمرته بالخروج عليهن.
وفي هذا إيماء إلى أنه كان في حجرة في داخل حجرة المائدة التي كنَّ فيها محجوبًا عنهن، وقد تَعَمَّدَتْ إتْمامًا للحيلَةِ والمكر بهن أن يفجأهُنَّ، وهن
(1) المراح.
(2)
المراغي.
مشغولات بما يقطعنه، ويأكلنه عِلْمًا منها بما يكون لهذه المفاجأة من الدَّهْشَةِ.
وقد تم لها ما أرادَتْ كما يُشير إلى ذلك قوله: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} هذا مرتَّب على محذوف تقديره: فَخَرج عليهن فلما رأينه أكبرنه؛ أي: فلمَّا رأتِ النسوة يوسفَ أكبَرْنَه؛ أي: أعظمنَ (1) يُوسُفَ ودهشن عند رؤيته من شدَّةِ جماله، وكان يوسُف قد أُعْطِيَ شَطْرَ الحسن.
وقال عكرمة: كان فَضْلُ يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أُسْرِيَ بي إلى السماء، يوسفَ كالقمر ليلةَ البدر" ذكر البغوي بغير سند.
وقيل (2): معنى: أكبرن؛ أي: حِضْنَ، والهاء إما للسكت أو ضمير راجع إلى يوسف على حذف اللام؛ أي: حِضْنَ له من شدة الشَّبَقِ، وأيضًا إنَّ المرأة إذا فَزِعَت فربما أسقطَتْ ولدَها، فحاضَتْ ويقال: أكبرت المرأة؛ أي: دخلَت في الكبر، وذلك إذا حاضَتْ لأنها بالحيض تَخرُج من حَدِّ الصغر إلى الكبر.
وقال الإِمام فخر الدين الرازي: وعندي أنه يحتمل وجهًا آخرَ، وهو أنهن إنما أكبرنه لأنهن رأيْنَ عليه نُورَ النبوة، وسِيمَا الرسالة، وآثارَ الخضوع والإخبات، وشاهدن فيه مهابةً وهيبةً ملكيةً، وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح، وعدم الاعتداد بهن، وكان ذلك الجمالُ العظيم مقرونًا بتلك الهيبة والهيئة، فتعجبن من تلك الحالة، فلا جَرَمَ أكبرنَه، وأعظمنه، ووقع الرعب والمهابة في قلوبهن. قال: وحمل الآية عى هذا الوجه أولى، انتهى.
{وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} ؛ أي: جرحن أيديهن حتى سال الدَّمُ، ولم يَجِدْن الألمَ لفرط دهشتهن، وشغل قلوبِهِنَّ بيوسف؛ أي؛ فلمَّا رأينه أعظمنه فقطَّعْنَ أيديَهُنَّ بدلًا من تقطيع ما يأكلن ذهولًا عمَّا يعملن؛ أي: فجرحنها بما في أيديهن من السكاكين لفرط دهشتهن، وخُرُوج حركات الجوارح عن منهاج الاختيار، حتى لا
(1) الخازن.
(2)
المراح.
يشعرن بما عَمِلْنَ، ولا ألِمْنَ لما نالهن من أذى، واستعمال القطع بمعنى الجرح كثير في كلامهم، فيقولون: كنت أقْطَعُ اللحمَ فقطعْتُ يدي، يريدون فأخطأتها، فَجَرحْتُ يدي حتى كدتُ أقطعها.
ولم تقطع (1) زليخَا يديها؛ لأنّ حَالَها انتهت إلى التمكين في المحبة، كأهل النِّهايات، وحال النسوة كانت في مقام التَّلْوين كأهل البِدايات، فلكل مقام تَلَوُّنٌ وتمكنٌ وبداية ونهاية.
{وَقُلْنَ} ؛ أي: النِّسْوَةُ {حَاشَ لِلَّهِ} ؛ أي: تنزيهًا، وبراءة لله سبحانه وتعالى من كل النقائص. وحَاشَ كلمة وُضِعَتْ موضِعَ المصدر، فمعناه التنزيه، والبراءةُ بدليل قراءة أبي السماك: حاشًا لله بالتنوين واللام لبيان المبرأ، والمنزه كما في {سقيًا لك}. {مَا هَذَا} الغلام {بَشَرًا}؛ أي: ليس هذا آدميًّا مثلنا؛ لأن من الجمالَ غيرُ معهود للبشر {إِنْ} نافية بمعنى ما؛ أي: ما {هَذَا} الغلام {إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} على الله فإن (2) الجمعَ بين الجمال الرائق، والكمال الفائق، والعصمةِ البالغةِ من خواصِّ الملائكة، أو لأنَّ جَمَالَهُ فوقَ جَمَال البشر، ولا يَفُوقه فيه إلا المَلَكُ، وقَصَرْنَهُ (3) على الملكِيَّة مع علمهن أنه بشر؛ لأنَّه ثَبَتَ في النفوس أنه لا أكمل ولا أحسن خلقًا من المَلَك، يعني رَكَزَ في العقول أن لا حيَّ أحسنَ من الملك، كما ركزَ فيها أن لا أقبح مِنَ الشيطان. ولذلك لا يزال يشبَّه بهما كل متناه في الحسن والقبح، وغرضهن وصفه بأقصى مراتب الحسن والجمال.
وروي أنه كان يُوسُفُ إذا مشى في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه، كما يُرى نور الشمس من السماء عليها، وكان يُشْبِهُ آدمَ يوم خلقه ربه؛ وكانت أمه رَاحِيلُ وجدَّتُه سَارَة جميلتين جدًّا.
أي: وقلن على سبيل (4) التعجب والتنزيه لله تعالى، ما صَحَّ أن يكونَ هذا الشخص الذي لم يُعْهَد مثاله في جماله، وعفَّتِه من النوع الإنساني إن هو إلَّا
(1) روح البيان.
(2)
البيضاوي.
(3)
روح البيان.
(4)
المراغي.
ملك تمثَّلَ في تلك الصورة البديعة، التي تخبل العقولَ، وتدهِشُ الأبصارَ.
رُوِيَ عن زيد بن أسلم من مفسِّري السلف: أعطَتْهُنَّ أُتْرُنْجًا "ثمر من نوع الليمون الحامض كبيرٌ مستطيلٌ يؤكَلَ بعد إزالة قشرته" وعسلًا فكن يحززنَ بالسكين ويأكلنه بالعسل، فلَمَّا قيل له: اخرج عَلَيْهِنَّ خَرَجَ، فلما رأينَه أعظمنه، وتَهَيَّمْنَ به حتى جعلن يحززن أيْدِيَهُن بالسكين، وفيها الترنجُ، ولا يعقلنَ ولا يحسبنَ، إلا أنهن يحززن الأترنج، قد ذهبَتْ عقولهن مما رأينَ، وقلْنَ حاش لله ما هذا بشرًا؛ أي: ما هكذا يكون البشرُ ما هذا إلا ملك كريم. وقرأ (1) الزهري، وأبو جعفر، وشيبة:{متَّكى} مشددَ التَّاءِ من غير همز على وزن متقى، فاحتمل ذلك وجهين:
أحدهما: أن يكون من الاتكاء، وفيه تخفيفُ الهمز كما قالوا في توضأت: توضيتُ.
والثاني: أن يَكُونَ مفتعلًا من أوكيت السقاءَ إذا شددتَه؛ أي: ما يشتددنَ عليه إما بالاتكاء، وإما بالقطع بالسكين. وقرأ الأعرج:{مُتْكًا} بوزن مفعلًا من تكأَ يَتْكَأَ إذا اتَّكَأَ. وقرأ الحسن، وابن هرمز:{متكاءً} بالمد والهمز وهو مفتعل من الاتكاء إلا أنه أشبع الفتحة فتولَّدَتْ منها الألفُ كما قال الشاعر:
أُعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الْعَقْرَابِ
…
الشَّائِلَاتِ عُقَدَ الأَذْنَابِ
وقرأ ابن عباسَ، وابن عمر، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والجحدري، والكلبي، وأبان بن تغلب {مُتْكئًا} بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف. وجاء كذلك عن ابن هرمز. وقرأ عبد الله، ومعاذ، كذلك إلا أنهما فَتَحَا الميم. وقرأ الجمهور:{حَاشَ لِلَّهِ} بغير ألف بعد الشين، والله بلام الجر. وقرأ أبو عمرو:{حاشا لله} بألف ولام جر. وقرأت فرقة منهم الأعمش: {حَشَى} على وزن رمى، {لله} بلام الجر. وقرأ الحسن:{حاش} بسكون الشين وصلًا، ووقفًا، وبلام الجر. وقرأ أبي وعبد الله:{حاش الله} بالإضافة، وعنهما كقراءة أبي
(1) البحر المحيط.
عمرو، قاله صاحب "اللوامح". وقرأ الحسن:{حاش الإله} قال ابن عطية: محذوفًا من حاشى. وقرأ أبو السمال: {حاشا للَّه} بالتنوين كرعيًا لِلّهِ.
فأما القراءات {للَّه} بلام الجر في غير قراءة أبي السمال، فلا يجوز أن يكون ما قبلها مِن حَاشَى، أو حاشَ، أو حَشَى، أو حَاشَ حرف جر؛ لأنَّ حرف الجر لا يدخل على حرف الجر، ولأنه تصرُّف فيها بالحذف. وأصل التصريف بالحذف أن لا يكون في الحروف. وزعم المبرِّد وغيره، كابن عطية، أنه يتعيَّن فعليتها، ويكون الفاعل ضمير يُوسُفَ؛ أي: حاشى يوسف أن يفارِقَ ما رَمَتْهُ به زليخا، وعلى هذا تكون اللامُ في {لله} للتعليل؛ أي: جانَبَ يوسف المعصيةَ لأجل طاعةِ الله. وذهب غير المبرد إلى أنها اسم، وانتصابها على المصدرية انتصابَ المصدر الواقع بدلًا من اللفظ بالفعل، كأنه قَالَ تنزيهًا لله، ويدل على اسميتها قراءة أبي السمال:{حاشا} منونًا. وعلى هذا القول يتعلَّق لله بمحذوف على البيان كَلام لَكَ بعد سقيًا، ولم ينوَّن في القراءات المشهورة مراعاةً لأصله الذي نقِل منه، وهو الحرف.
وأما قراءةُ الحسن، وأبي بالإضافة فهو مصدر مضاف إلى فاعله، كما قالوا: سبحانَ الله، وهذا اختيار الزمخشري. وقال ابن عطية: وأما قراءة أبي بن كعب، وابن مسعود، فقال أبو علي: إنَّ حاشى حرفُ استثناء، كما قال الشاعر:
حَاشَى أبِي ثَوْبَانَ
انتهى. وأما قراءة حاش بالتسكين ففيها جَمْعٌ بين ساكنين، وقد ضعَّفوا ذلك. وقرأ الحسن، وأبو الحويرث الحنفي:{ما هذا بشراء} على أنَّ الباء حرف جر، والشين مكسورة، فالشراء حينئذ مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: ما هذا بعبد يُشْتَرى. وهذه قراءة ضعيفة لا تناسب ما بعدها من قوله: {إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} وتابَعهُما عبد الوارث عن أبي عَمْرو على ذلك، وزَادَ عليهما:{إلا ملك} بكسر اللام، واحد الملوك فهم نفَوا بذلك عنه ذل المماليك، وجعلوه في حيِّزِ الملوك، والله أعلم، انتهى. ونسب ابن عطية كسْرَهَا للحسن، وابن الحويرث اللذَين قرآ:{بشرى} .