الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كثيرة، والانتقال فيها من الأمور المخَيلة إلى الحقائق العقلية الروحانية، ليس بسهلٍ، وما نحن بمتبحِّرين في علم التعبير، حتى نهتدي إلى تعبير مثلها، ويَدُلُّ على قصورهم قول الملك {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} ، فإنه لو كان هنا متبحِّر: لبت القولَ بالإفتاء، ولم يعلِّقْه بالشرطِ، وهو اللائحُ بالبال، وعلى تقديرِ تبحرهم عَمى اللَّهُ عليهم، وأَعْجَزَهم عن الجواب؛ ليصير ذلك سببًا لخلاص يوسف من الحبس، وظهور كماله وفَضْلِهِ. وقرأ (1) أبو جعفر بالإدغام في (الرؤيا) وبَابُه (بعد) قلب الهمزة واوًا، ثمَّ قلبها ياءً لاجتماع الواو والياء، وقد سَبَقَتْ إحداهما بالسكون، ونصُّوا على شُذُوذِه؛ لأنَّ الواوَ هي بدلٌ غيرُ لازم و (اللام) في {لِلرُّؤْيَا} مقوية لوصول الفعل إلى مفعوله، إذا تقدَّمَ عليه، فلو تأخَّرَ لم يَحْسُن ذلك بخلاف اسم الفاعل، فإنه لِضَعْفِهِ قد تَقوَّى بها، فتقول: زيد ضاربٌ لعمرٍو فصيحًا.
وقد كان حديث الملك في رؤياه، مع كهنته، وعلمائه، ورجال دولته، مذكرًا للذي نجا من الفَتَيَيْنِ بِيُوسُفَ، وحُسْنِ تعبيره للرؤيا بعد أن مضَى على ذلك مدَّةً من الزمان، كما يشير إلى هذا ما بعده.
45
- {وَقَالَ الَّذِي نَجَا} وخرج من السجن {مِنْهُمَا} ؛ أي: من صاحبي يوسف، وهو السَّاقي {و} الحال أنه قد {ادَّكَرَ}؛ أي: قد تذكَّر يوسفَ وما قاله {بَعْدَ أُمَّةٍ} ؛ أي: بعد مدة طويلة من الزمان. وادّكر: أصله: إذْتكر، فقلبت التاء دَالًا، والذال دالًا، وأدغمت كما سيأتي في مباحث الصرف. أي: تذكَّر (2) الناجي منهما يوسفَ، وتأويلَه رؤياه، ورؤيا صاحبه، وطَلَبَه أن يَذْكُره عند الملك، فجَثى بين يَدَي الملك؛ أي: جَلَس النَّاجِي على ركبتيه، قُدَّامَ الملك فقال للملك:{أَنَا أُنَبِّئُكُمْ} ؛ أي: أنا أُخبركم {بِتَأْوِيلِهِ} ؛ أي: بتأويل هذا المنام الذي أَشْكَلَ عليكم وتعبيره. خَاطبه بلفظِ الجمع تعظيمًا له {فَأَرْسِلُونِ} ؛ أي: فابعثون إلى السجن، فإن فيه رجلًا حكيمًا من آل يعقوب، يقال له: يُوسُفُ يعرِفُ تعبير الرؤيا، قد عَبَّر لنا قبلَ ذلِكَ فأرسلوه إلى يوسف، فأتاه فاعتذَرَ إليه، فاسْتَفْتَاه فيما عَجَزُوا عنه،
46
- وقال: يا {يُوسُفُ} ، ويا
(1) البحر المحيط.
(2)
روح البيان.
{أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} ؛ أي: أيها البالغ غاية الكمال في الصدق، وإنما وَصَفَهُ بذلك، لأنه جَرَّب أحوالَه، وعرف صِدْقه في تأويل رؤياه، ورؤيا صاحبه. وجملةُ مجيء الرسول ليوسف في السجن أربعَ مرات، الأولى في قوله:{فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ} ، والثانية في قوله:{فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} ، والثالثة في قوله:{وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ} إلخ، والرابعة في قوله:{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} إلخ؛ أي: يا يُوسُفُ البالغُ غَايَةَ الكمال بصدقك في أقوالك وأفعالك، وتأويل الأحاديث وتعبير الأحلام {أَفْتِنَا}؛ أي: أخْبِرنَا، وبيّنَ لنا {فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ}؛ أي: أخْبِرْنا في رؤيا مَنْ رَأَى في منامه سبع بقرات سمان، يَبْتَلِعهُنَّ سبعُ بقرات مهازِيلُ، وفي رؤيا مَن رأى سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خضر، وسبعًا أخرى يابسات، فإنّ الملِكَ قَدْ رَأَى هذه الرؤيا، وعَجَز المعبّرون عن تعبيرها. ففي قوله (1):{أَفْتِنَا} مع أن المستفتي واحد إشعارٌ بأن الرؤيا لَيْسَتْ له، بل لغيره ممن له ملابسةٌ بأمور العامة، وأنه في ذلك سَفِيرٌ، ولم يُغَيّر لفظ الملك، وأصاب فيه، إذ قد يكون بعض عبارات الرؤيا متعلقة باللفظ {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ}؛ أي: إلى الملك ومَنْ عنده من الملأ، وأعود إليهم بفَتْوَاك {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} ما تأتي به في تأويل هذه الرؤيا، أو يعلمون فَضْلَكَ ومعرفِتَكَ فنَّ التعبير، فيطلبوك ويُخَلِّصوك من محنتك.
والمعنى: أفتِنا (2) في هذا المنام الذي رآه الملك، وإنّي لأرجو أن يحقِّقَ اللَّهُ أمَلَكَ بالخروج من السجن، وانتفاعَ المَلِكِ وملئه بفضلك، وعِلْمِك، وإنَّما لم يبتَّ الكلامُ فيهما لأنه لم يكن جازمًا بالرجوع، فرُبَّما اخْتَرَمَتْهُ المنية دونه، ولا يُعْلِمهم. ذكره "البيضاوي". وقرأ (3) الجمهورُ:{وَادَّكَرَ} بالدال المهملة المشدَّدة. وقرأ الحسن: {واذكر} بإبدال التاء ذالًا، وإدغام الذال فيها. وقرأ الأشْهَبُ العقيليُّ:{بعد إمَّة} بكسر الهمزة؛ أي: بعدَ نعمة أنْعَم الله عليه بالنجاة من القَتْل. وقال ابن عطية: بعد نعمةٍ أنعم الله بها على يوسف في تقريب إطلاقه
(1) روح البيان.
(2)
المراغي.
(3)
المراغي