الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنشاء الاستعانة المستمرة {عَلَى مَا تَصِفُونَ} ؛ أي: على تحمل المكاره التي تذكرونا في أمر يوسف، أو على إظهار حال ما تصفون من شأن يوسف، وبيان كونه كذبًا، وإظهار سلامته كأنه عَلِمَ منه الكذب، وكأن (1) الله تعالى قد قَضَى على يعقوبَ أن يُوصِلَ إليه تلك الغموم الشديدةَ، والهمومَ العظيمة، لِيَكْثُرَ رُجُوعُه إلى الله تعالى، وينقطِعَ تعلق فكره عن الدنيا فيصلَ إلى درجةٍ عاليةٍ في العبودية، لا يمكن الوصول إليها إلَّا بتحمل المِحَنِ الشديدة، والله أعلم. وقرأ (2) أبي والأشهب، وعيسى بن عمر:{فصبرًا جميلًا} بنصبهما، وكذا هي في مصحف أُبي، ومصحف أنس بن مالك. وروي كذلك عن الكسائي، ونَصبه على المصدر الخبريِّ، أي فاصبر صبرًا جميلًا. قيل: وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه، ولا يصلح النصبُ في مثل هذا إلا مع الأمر، وكذلك يَحْسُن النَّصْبُ في قوله:
شَكَا إِلَيَّ جَمَلِيْ طُوْلَ السُّرَى
…
صَبْرًا جَمِيْلًا فَكِلَانَا مُبْتَلَى
ويروى صبر جميل في البيت، وإنما تصح قراءة النصب على أن يقدَّر أن يعقوبَ رَجع إلى مخاطبةِ نَفْسِهِ، فكأنه قال: فاصبري يا نفسي صبرًا جميلًا.
ومعنى الآية: أي إنهم جَاؤوا بقميصه مُلَطَّخًا ظاهره بدم غير دم يوسف، وهم يدعون أنه دمه ليشهد بصدقهم، فكانَ دليلًا على كذبهم، ومن ثم قال:{عَلَى قَمِيصِهِ} ليستبين للقارىء والسامع أنه موضوع وضعًا متكلفًا إذ لو كان من افتراس الذئب لتمزق القميصُ، وتغلغل الدم في كل قطعة منه، ومن أجل هذا كلِّه لم يصدِّقْهم، وقال: هيهاتَ ليس الأمرُ كما تدَّعون بل سَهَّلَتْ لكم أنفسكم الأَمَّارةُ بالسوءِ أمرًا نكرًا، وزينته في قلوبكم فطَوَّعته لكم حتى اقترفتموه، وسأصبر صبرًا جميلًا على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه، حتى يفرجه الله بعونه ولطفه، وإنّي أستعين به على أن يَكْفِيَنِي شَرَّ ما تصفون من الكذب.
19
- {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} ؛ أي: رفقة مسافرون تسير من جهة الشام، يريدون مِصْرَ فأخطؤوا الطريقَ، فانطلقوا يَهِيمُون في الأرض حتى وقعوا في الأراضي التي فيها
(1) المراح.
(2)
البحر المحيط.
الجب، وهي أرض دوثن بَيْنَ مدين ومصر، فنزَلُوا عليه {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ}؛ أي: بعثوا سَاقِيَهم ليطلب لهم الماء، وهو مَنْ يُهيِّىء الأرشية، والدِّلاءَ، فيتقدم الرفقة إلى الماء، يقال له: مالك بن ذعر الخزاعي ابن أخي شعيب عليه السلام، وهو رجلٌ من العرب العاربة من أهل مدين، {فَأَدْلَى دَلْوَهُ}؛ أي: فأرْخَى، وأنزل دلوه في جب يوسف ليأخذ الماء فتعلق يوسف به، فلم يقدر الساقي على نزعه وإخراجه من البئر فنَظَرَ فيه فرأى غُلامًا قد تعلق بالدلو، فنادى أصْحَابَهُ فـ {قَالَ يَا بُشْرَى}؛ أي: يا أصحابي. وقال الأعشى: إنه دعا امرأةً اسمها بشرى. وقال السديُّ: إنه نادى صاحبَهُ، واسمه بشرى كما قرأه. وعاصم والكسائي بغير ياء المتكلم بعد الألف المقصورة. وقال أبو علي الفارسي: والوجه أن يجعل البشرى اسمًا للبشارة، فنادى ذلك بشارةً لنفسه، كأنه يقول: يا أيتها البشرى هذا الوقت، وقتك، ولو كنت مِمَّنْ يخاطب لخوطبت الآنَ، ولأُمِرْتِ بالحضور، ويدلُّ على هذا قراءة الباقين، {يا بشرايَ} بفتح ياء المتكلم بعد الألف على الإضافة. قالوا: ما ذلك يا مالك؟ قال: {هَذَا غُلَامٌ} أحسن ما يكون من الغلمان، فكَانَ يوسُفُ حَسَنَ الوجه، جَعْدَ الشَّعْرِ، ضخم العَيْنَين، مُسْتَوي الخلق، أبيض اللون، غَليظ الساعدين، والعضدين، والساقين، خَميص البطن، صغير السرة، وكان إذا تبسَّم ظهر النور من ضواحكه، وإذا تكلم ظهر من ثناياه شعاع النور، ولا يستطيع أحد وَصْفَه. وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يُشْبِهُ آدم عليه السلام يَوْم خَلَقه الله تعالى قبل أن يصيب الخطيئةَ، اهـ خازن.
فاجتمعوا عليه فأخرجوه من الجب بعد مكثه فيها ثَلاثَةَ أيام {وَأَسَرُّوهُ} ؛ أي: أسَرُوا يُوسُفَ وأخفوه حَالةَ كونه {بِضَاعَةً} ؛ أي: مَتَاعًا للتجارة؛ أي: كَتَم الواردُ وأصحابه شأنَ يوسف من بقية القوم الذين معهم، وقالوا: إنه بضاعة استبضعناه، وحملناه لبعض أهل المال إلى مصر، وإنما قالوا ذلك خِيفَة أن يطلبوا منهم الشركة فيه، وذلك لأن الواردَ وأصحابَه قالوا: إن قلنا للسيارة التقطناه من الجُبِّ شاركونا فيه قَهْرًا. وإن قلنا: اشتريناه سألونا الشركة فالأصوبُ أن نقول: إن أهل الماء جعلوه بِضَاعَةً عندنا على أن نبيعه لهم بمصر. وقيل: إن إخْوَةَ يُوسُفَ أَسَرّوا شأن يوسُفَ، يعني أنهم أخفوا أمر يوسف، وكونه أخًا لهم بل