الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمعنى: وأنت أعلم الحكَّام وأَعْدَلُهم إذ لا فَضْلَ لحاكم على غيرِه إلَّا بالعلم، والعدل، ورُبَّ جاهل ظالم من متقلدي الحكومة في زمانك لقد لقِّبَ بأقضى القُضاة، وقال جَارُ الله:
قُضَاةُ زَمَانِنَا صَارُوْا لُصُوْصَا
…
عُمُوْمًا فيْ الْقَضَايَا لَا خُصُوْصَا
خَشِيْنَا مِنْهُمُ لَوْ صَافَحُوْنَا
…
لَلَصُّوْا مِنْ خَواتِمِنَا فُصُوْصَا
اهـ "روح البيان".
وهذا الدعاء من نوح عليه السلام في غاية التلطُّف، وهو مِثْلُ دعاءِ أيوب عليه السلام {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .
والخلاصة: أن نوحًا كانَ يريد أن ينجوَ ابنه الذي تخلَّفَ عن السفينة من الغرق، بعد أَن دعاهُ إليهَا، ومن البَيِّنِ أنَّ هذا الدّعاءَ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ بعد المحاورة مَعَ ابنِه قبل أن يَحُولَ بينهما الموج، ومعنى:{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ} ؛ أي: أراد أن يناديه، ولذلك أَدْخَلَ الفاء؛ إذ لو كان أراد حقيقةَ النداءِ والإخبار عن وقوعه منه لم تَدْخُل (الفاء) في {فقال} ولسقَطَتْ كما لم تَدْخُل في قوله:{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ} و (الواو) في هذه الجملة لا ترتب أيْضًا، وذلك أنَّ هذه القِصَّةَ كانت أوَّلَ ما ركب نوحُ السفينةَ، ويظهر من كلام الطبري أنَّ ذلك مِنْ بعدِ غَرْق الابن
46
- {قال} الله سبحانه وتعالى: {يَا نُوحُ إِنَّهُ} ؛ أي: إنَّ ابْنَكَ هَذَا {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} الذين أمرتك أنْ تحملهم في الفلك لإنجائهم، وقد بَيَّن سبحانه سبَبَ ذلك بقوله:{إِنَّهُ} ؛ أي: إنَّ ابْنك هذا {عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} ؛ أي: ذو عمل غير صالح؛ لأنه عَمِلَ عملًا غير مرضيٍّ، وهو الشركُ والفسادُ والتكذيب.
قال الزَّمخشري (1): فإنْ قُلْتَ: فَهَلَّا قيل: إنه عمل فاسد؟
قلتُ: لمَّا نفاه من أهله نَفَى عنه صِفَتَهم بكلمة النفي التي يُستنفى بها معها لفظ المنفي، وأذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله بصلاحهم لا لأنهم
(1) البحر المحيط.
أهلك وأقاربك، وإنَّ هذا لمَّا انتفى عنه الصَّلاحُ لم تنفعه أُبُوَّتُكَ.
والظاهر (1): أن الضمير في أنه عائد على ابن نوح، لا على النداءِ المفهوم من قوله:{وَنَادَى} المتضمّن سؤالَ ربَّهِ، وجعَلَه نفس العمل مبالغة في ذمِّهِ هذا على قراءة جمهور السبعة عمل بلفظ المصدر، وقرأ الكسائي:{عَمِلَ غَيْرَ صالحٍ} على جعله فعلًا ناصبًا {غير صالح} وهي قراءة عليّ وأنس، وابن عباس، وعكرمة، ويعقوب، وعائشة، وروتها عائشة وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يُرَجِّحُ أن الضميرَ يعود على ابن نوح، قيل: ويرجِّح كونَ الضمير في أنه عائدًا على نداءِ نوح المتضمن السؤالَ أنَّ في مصحف ابن مسعود: {إنه عملٌ غيرُ صالح أن تسألني ما ليس لك به علم} وقيل: يعودُ الضمير في هذه القراءةِ على ركوب ولد نوح معهم الذي تضمَّنه سؤالُ نوح.
المعنى: أن كونَه مع الكافرين، وتركَه الركوبَ مع المؤمنين، عمل غيرُ صالح، وكون الضمير في أنه عائدًا على غير ابن نوح عليه السلام تكلفٌ وتعسفٌ لا يليق بالقرآن، ذكره أبو حيان.
{فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ؛ أي: إذا وقَفْتَ على جَلِيَّةِ الحال، فلا تَطْلُب مني مطلبًا لا تَعْلَمُ يقينًا أن حصولَه صوابٌ وموافقٌ للحكمة، ولمَّا بيَّنَ له بطلان ما اعتقده من كونه من أهله، فرَّع على ذلك النهي عَنِ السؤال، وهو وإنْ كان نَهْيًا عامًّا بحيث يشمل كُلَّ سؤال لا يعلمُ صاحبه أنَّ حصولَ مطلوبه منه صواب، فهو يَدْخُلُ تحته سؤاله هذا دُخولًا أوليًّا.
أي: فلا تسألني يا نوح في شيء ليس لك به علم صحيح، وقد سمَّى دعاءَه سؤالًا لتضمنه معنى السؤال؛ لأنه تضمَّن ذكر الوعد بنجاة أهله، وما رتَّبه عليه من طلب نجاة ولده.
وفي الآية (2): إيماء إلى أنه لا يجوز الدعاء بطلب ما هو مخالف لسنن الله في خلقه، بإرادة قلب نظام الكون لأجل الداعي، ولا بطلب ما هو محرَّمٌ شرعًا،
(1) البحر المحيط.
(2)
المراغي.