المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

لِسَانه منْ قفاه، ففَعَلوا، فمات في تلك الليلة. ومِنَ العَجَبِ - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٣

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: لِسَانه منْ قفاه، ففَعَلوا، فمات في تلك الليلة. ومِنَ العَجَبِ

لِسَانه منْ قفاه، ففَعَلوا، فمات في تلك الليلة. ومِنَ العَجَبِ أنه أنشد قَبْلَ ذلك إلى المعتزِّ والمؤيد، وكان يعلِّمُهما فقال:

يُصَابُ الْفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ بِلِسَانِهِ

ولَيْسَ يُصَابُ الْمَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ

فَعَثْرَتُهُ فِيْ الْقَوْلِ تَذْهَبُ عَثْرَتُه

وَعَثْرَتهُ في الرِّجْلِ تَبْرَأ عَلَى مَهْل

‌15

- قوله: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ} مرتب على محذوف تقديره: ولما رَأَى يعقوب إلحاحَ إخوة يوسف في خروجه معهم إلى الصحراء، ومبالغتهم في العهد، واليمين، ورَأَى أيضًا ميل يوسف إلى التفرج، والتنزه معهم رضِيَ بالقضاء، فأرسله معهم. وهذا (1) المقدر معطوف على قوله سابقًا:{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَع} إلخ. قال الحسن: كان بين خروج يُوسُفَ من حجر أبيه إلى يوم التلاقي ثَمانُون سنة، لم تجفَّ فيها عَيْنا يعقوب، وما على الأرض أكْرَمُ على الله منه، اهـ خازن؛ أي: فلمَّا ذهبوا به من عند يعقوب {وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ} ؛ أي: عَزَمُوا، واتفقوا على أن يلقوه {فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ}؛ أي: في قَعْرِ البئر، وأسفلِه، وظلمته. وكان (2) على ثلاثة فراسخَ من منزل يعقوب بكنعان، التي هي من نواحي الأردن، حَفَره شداد حين عَمَر بلاد الأردن، وكَانَ أعلاه ضَيِّقًا، وأسفله وَاسِعًا. وجواب (لمَّا) محذوف تقديره: فعلوا به ما فعلوا من الإذاية. وقيل: جوابه: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} . وقيل: يكون تقدير الجواب جَعَلُوه فيها. وقيل: الجوابُ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} و {الواو} مقحمة ومثلُه قَوْلُه: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ} ؛ أي: ناديناه {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} ؛ أي: وأوحينا إلى يوسف في الجب إزالةً لوحشته عن قلبه، وتبشيرًا له بما يؤول إليه أمره، وكَانَ ابنَ سبع سنين أو دونها. فاجتمع (3) مع كونه صغيرًا على إنزال الضرر به، عشرة رجال من إخوته بقلوب غليظة، قد نُزِعَتْ عنها الرحمة، وسلِبَتْ منها الرأفة، فإنَّ الطبعَ البشريَّ - دَعْ عنْكَ الدِّينَ - يتجاوز عن ذنب الصغير، ويغتفره لضعفه عن الدفع، وعَجْزِه عن أيسر شيء يُرادُ

(1) الفتوحات.

(2)

روح البيان.

(3)

الشوكاني.

ص: 332

منه، فكَيْفَ بِصغيرٍ لا ذنبَ له، بل كيف بصغير هو أخٌ وله ولهم أب مثل يعقوب. فلقد أبعد مَن قال: إنهم كانوا أنبياءَ في ذلك الوقت فما هكذا عَملُ الأنبياءِ ولا فعل الصالحين.

وفي هذا (1) دليل على أنه يجوز أن يوحِي الله إلى مَنْ كانَ صغِيرًا ويعطيه النبوةَ حينئذ كما وَقَع في عيسى، ويحيى بن زَكَرِيا.

وقد قيل: إنه كان في ذلك الوقت قد بَلَغَ مبالغ الرجال، وهو بعيد جدًّا، فإن من كان قد بَلَغَ مبالِغَ الرجال لا يُخَاف عليه أن يَأْكُلَه الذِّئْبُ.

{لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا} ؛ أي: وعزتي وجلالي لتخبرن يا يوسف إخْوَتَك بصنيعهم هذا الذي فعلوه بك، بعد خُلُوصِكَ مما أرادوه بك من الكيد، وأنزلوه عليك من الضَّرَر. وجملة قوله:{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} في محل النصب على الحال من ضمير الغائبين في {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ} ؛ أي: والحال أنهم لا يشعرون بأنك أخوهم يوسف، لاعتقادهم هلاكك بإلقائهم لك في غيابة الجب، ولبعد عهدهم بِك، ولكونك قد صرت عند ذلك في حال غير ما كنت عليه أولًا، وخلاف ما عهدوه منك. وسيأتي ما قاله لهم عند دُخولِهم عليه بَعْدَ أنْ صَارَ إليه ملك مِصْرَ. والمقصود مِن هذا الإيحاء تقويةُ قَلْبِهِ بأنه سَيَحْصُل له الخَلاص عن هذه المحنة، ويَصِيرُونَ تَحْتَ قهره وقدرَتهِ.

والمعنى (2): أي فلما ذَهَبَ به إخوته من عند أبيه بعد مُرَاجعتهم له، وقد عَزَموا عَزْمًا إجماعِيًّا، لا تردُّدَ فيه على إلقائه في غيابة الجب، نفَّذُوا ذلِكَ، وحينئذ أوحينا إليه، وحيًا إلهاميًّا تطييبًا لقلبه، وتثبيتًا لنفسه، لا تَحْزَنْ مِمَّا أنتَ فيه، فإنَّ لك من ذلك فرجًا ومخرجًا حسنًا، وسينصرك الله عليهم، ويرفع درجَتك، وستخبرهم بما صنعوا وهم لا يشعرونَ بأنك يوسف. وقرأ (3) الجمهور:{لتنبئنهم} بتاء الخطاب. وابن عمر بياء الغيبة. وكذا في بعض مصاحفِ

(1) الشوكاني.

(2)

المراغي.

(3)

البحر المحيط.

ص: 333

البصرة. وقرأ سَلَّام بالنون.

فصل في ذكر قصة ذهابهم بيوسف عليه السلام (1)

قال وهبٌ وغيرَهُ من أهل السيَرِ والأخبار: إنَّ إخْوَةَ يُوسُفَ قالوا له: أما تشتاقُ أن تخرج معنا إلى مواشينا، فنَصِيد، ونستبقَ؟ قال: بلى، قالوا له: أنسأل أبَاكَ أن يرسلكَ معنا؟ قال يوسف: افعلوا، فدخلوا بجماعتهم على يعقوب، فقالوا: يا أبانا إنَّ يُوسُفَ قد أحبَّ أن يخرج معنا إلى مَوَاشِينا، فقال يعقوب: ما تقول يا بنيَّ؟ قال: نعم يا أبت إني أرى من إخْوَتي اللِّين، واللُّطْفَ، فأحب أن تأذن لي، وكان يَعْقُوبُ يكره مُفَارَقتَهُ، ويحب مرضاتَهُ فأَذِنَ له، وأرْسَلَهُ معهم.

فلمّا خَرَجُوا من عند يَعْقُوب، جعلوا يَحْمِلُونَه على رقابهم، ويَعْقُوبُ ينظر إليهم، فلما بعدوا عنه، وصَارُوا إلى الصحراء أَلْقَوْهُ على الأرض، وأظهروا له ما في أنْفُسِهم من العداوة، وأَغْلَظوا له القَوْل، وجعلوا يضربونه. فجَعَل كلَّما جاء إلى واحد منهم، واستغاث به ضَرَبه. فلمَّا فَطِنَ لما عزموا عليه من قتله جعل يُنادِي يا أبتَاه يا يعقوبُ، لو رأيتَ يُوسُفَ، وما نزل من إخوته، لأحْزَنَكَ ذلك، وأبكاك يا أبتاه ما أسْرَعَ ما نسُوا عَهْدَك، وضيَّعوا وصيَّتَك، وجعل يبكي بُكاءً شديدًا. فأَخَذَهُ روبيل وجَلَد به الأرضَ، ثم جَثَمَ على صدره، وأراد قَتْلَه فقال له يوسف: مهلًا يا أخي لا تَقْتُلني. فقال له: يا ابنَ راحيل أنت صاحبُ الأحلام، قل لرؤياك تخلِّصُك من أيدينا، ولَوَى عنقه، فاستغاث يوسف بيهوذا، وقال له: اتق الله فِيَّ وحل بيني وبينَ مَنْ يريد قتلي. فأدركته رحمة الأخوة ورَقَّ له، فقال يهوذا: يا إخوتي ما على هذا عاهدتموني ألا أدلكم على ما هو أَهونُ لكم وأرفقُ به؟ فقالوا: وما هو؟ قال: تلقونه في هذا الجبِّ إمَّا أنْ يَمُوتَ أو يلتقِطه بَعْضُ السيارة، فانطلقوا به إلى بئر هناك على غير الطريق، واسع الأسفل ضيق الرأس، فجعلوا يدلونه في البئر فتعَلَّقَ بشفيرها، فرَبطُوا يديه، ونَزعوا قَمِيصَهُ. فقال: يا إخوتاه ردوا عليَّ قميصي لأستتر به في الجبِّ، فقالوا: اُدْعُ الشمسَ والقمرَ

(1) الخازن.

ص: 334

والكواكبَ تخلصكَ، وتؤنِسُك. فقال: إني لم أرَ شيئًا، فألقوه فيها، ثُمَّ قال: يا إخوتاه أتدعوني فيها فريدًا وحيدًا. وقيل: جعلوه في دلو ثمَّ أرسلوه فيها. فلمَّا بَلَغَ نصفَها ألقوه إرادةَ أن يموت، وكان في البئر ماءٌ فسَقَطَ فيه، ثم آوى إلى صخرة كانت في البئر، فقام عليها. وقيل: نزل عليه مَلَكٌ فحَلَّ يديه، وأَخْرَج له صخرةً من البئر فأجلسه عليها. وقيل: إنهم لما ألقوه في الجبِّ جَعَل يبكي فَنَادَوْهُ، فظن أنَّها رحمة أدركتهم، فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة ليقتلوه فمَنَعهم يهوذا من ذلك، وقيل: إنَّ يعقوبَ لما بعثه مع إخوته أَخْرَجَ له قميص إبراهيم، الذي كساه الله إياه من الجنة، حين أُلقِيَ في النار، فجعله يعقوب في قصبة فضةٍ، وجعَلَها في عنق يوسف، فألبسه الملك إياه حينَ ألقِي في الجُبِّ فأضاءَ له الجُبَّ. وقال الحَسنُ: لمَّا ألقِيَ يُوسَفُ في الجب عذبَ ماؤُه، فكان يكفيه عن الطعام والشراب، ودَخَلَ عليه جبريل فأَنِسَ بِهِ. فلمَّا أمسى نهض جبريلُ ليذهب، فقال له: إذا خَرَجْتَ استَوْحَشْتُ. فقال له: إذا رهبتَ شيئًا فقل: يا صريخ المستصرخِين، ويا غَوثَ المستغيثين، ويا مفرِّج كرب المكروبين، قد ترى مكاني، وتعلم حالي، ولا يخفى عليك شيءٌ من أمري. فلما قالها يوسف حفَّته الملائكة، واستأنس في الجُبِّ.

وقال محمَّد بن مسلم الطائِفيّ: لما ألقي يوسف في الجُب قال: يا شاهدًا غَيْرَ غائب، ويا قريبًا غير بعيد، ويا غالِبًا غير مغلوب، اجعل لي فرجًا مما أنا فيه، فما بات فيه. وقيل: مكث في الجبِّ ثلاثَةَ أيَّامٍ، وكان إخْوَتُه يَرْعَوْنَ حَوْلَهُ، وكان يهوذا يأتيه بالطعام. وقيل (1): عَلَّم جبريلُ يوسفَ هذا الدعاء، أي في البئر:"اللهم يا كاشفَ كل كربة، ويا مجيبَ كل دعوة، ويا جابرَ كل كسير، ويا ميسرَ كل عسير، ويا صاحِبَ كل غريب، ويا مؤنس كل وحيد، يا من لا إلَه إلا أنت سبحانَكَ، أسألك أن تجعل لي فرجًا ومخرجًا، وأن تَقْذِفَ حُبَّكَ في قلبي حتى لا يكون لي هم ولا ذكر غيرك، وأن تَحْفَظني وترحمني يا أرحم الراحمين".

(1) روح البيان.

ص: 335