المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

"التبيان". وقد روي أنه قال: رأيتُ أني أَخْرجُ من مطبخ - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٣

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: "التبيان". وقد روي أنه قال: رأيتُ أني أَخْرجُ من مطبخ

"التبيان". وقد روي أنه قال: رأيتُ أني أَخْرجُ من مطبخ الملك، وعلى رأسي ثلاثُ سلال فيها خبز، والطير تأكل من أعلاه. {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ}؛ أي: أخبرنا بتفسير ما رأينا، وما يؤول إليه أمرُ هذه الرؤيا {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}؛ أي: من العالمين بتعبير الرؤيا. والإحسان هنا بمعنى العلم، أو من المحسنين إلى أهل السجن، فيسليهم، ويقول: اصبروا وأبشروا تؤجَروا، فقالوا: بارك الله فيك، يا فتى، ما أحسن وجهك، وما أحسن خلقك، لقد بورك لنا في جوارك، فمَنْ أنت يا فتى؟ فقال: أنا يوسف بن صفيِّ الله يعقوبُ بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم عليهم الصلاة والسلام. فقال له عامل السجنِ: لو استطعت خلَّيْتُ سبيلك، ولكني أُحْسِن جِوارَكَ فكن في أيِّ بيوت السجن شئت.

فلمَّا (1) قصَّا عليه رؤياهما كره يوسف أن يعبِّرها لهما حينَ سألاه، لما علم ما في ذلك من المكروه لأحدهما: وأعرض (2) عن سؤالهما، وأخذ في غيره من إظهار المعجزة، والنبوة والدعاء إلى التوحيد. وقيل: إنه عليه السلام أراد أن يبين لهما أنَّ دَرَجَتهُ في العلم أعلى وأعظم مما اعتقدَا فيه، وذلك أنهما طَلَبَا منه علم التعبير، ولا شكَّ أنَّ هذا العلم مبني على الظن، والتخمين، فأراد أن يعلمهما أنه يمكنه الإخبار عن الغيوب على سبيل القطع واليقين، وذلك مما يعجز الخلق عنه، وإذا قدَرَ على الإخبار عن المغيبات، كان أقْدَرَ على تعبير الرؤيا بطريق الأولى. وقيل: إنما عدل عن تعبير رؤياهما إلى إظهار المعجزة؛ لأنه علم أنَّ أحدهما سيصلب، فأراد أن يُدخِلَهُ في الإِسلام، ويخلِّصه من الكفر، ودخول النار، فأظْهَرَ له المعجزة لهذا السبب.

‌37

- {قَالَ} يوسف {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في اليقظة في منزلكما على حسب عادتكما، المطَّرِدَةِ {إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا} وأخبرتكما {بِتَأْوِيلِهِ}؛ أي: بقدَرَهِ ولونه، والوقت الذي يصل إليكما فيه، والاستثناء (3) مفرَّغ من أعمِّ الأحوال؛ أي: لا

(1) الخازن.

(2)

الخازن.

(3)

روح البيان.

ص: 419

يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلّا حالَ ما نبأتكما؛ أي: بينت لكما ماهيَتَهُ وكيفيته {قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} ؛ أي: قبل أن يَصِلَ إليكما، وأيُّ طعام أكلتم، وكم أكلتم؟ ومتى أكلتم؟

وهذا مِثْلُ معجزة عيسى عليه السلام، حيث قال:{وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} . فقالا ليوسف عليه السلام: هذا من علم العرَّافِينَ والكهنة، فمن أين لك هذا العلم؟ فقال: ما أنا بكاهن، ولا عرَّاف، وإنما ذلك مما علَّمنِيه رَبي، كما سيأتي بيانه. وقيل: أراد به في النوم، يقول: لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما إلا أخبرتكما خبره في اليقظة.

والمعنى (1): أي قال لهما لا يأتيكما طعام إلا أخبرتكما به، وهو عند أهله، وبما يريدون من إرساله، وما ينتهي إليه بعد وصولِهِ إليكما. روي أنَّ رِجَالَ الدولة كانوا يرسلون إلى المجرمين طعامًا مسمومًا، يقتلونهم به، وأنَّ يوسف أراد هذا من كلامه.

وفي ذلك إيماء إلى أنه أُوتي عِلم الغيب، وهذا يجري مجرى قول عيسى عليه السلام:{وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} .

ومن هذا يعلم أن وحيَ الله جاءَهُ وهو في السجن، وبذلك تَحَقَّقَ قوله:{رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} . كما أنَّ وَحْي الإلهام جَاءه حين إلقائه في غيابة الجب، كما تقدم ذكره. وكأنه سبحانه جَعَلَ في كلَّ مِحْنَةٍ مِنْحَةً، وفي كلِّ ما ظاهره بلاءً نِعْمةً.

{ذَلِكُمَا} ؛ أي: ذلك الذي أنبأتكما به أيها الفَتَيان. {مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} ؛ أي: بعض ما علمني ربي سبحانه بوحي، وإلهام منه، لا بكهانة ولا عرافة، ولا يشبه ذلك من تعليم بشرى يلتبس به الحق بالباطل، ويَشْتَبِهُ فيه الصواب بالخطأ. وذلك (2) أنه لما نَبَّأَهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قَبْلَ أن يَأتِيَهُما ويَصِفُه لهما، ويقول: اليومَ يأتيكما طعام من صفته كيت وكيتَ، قالا هذا من

(1) المراغي.

(2)

روح البيان.

ص: 420

فعل العرافين، والكهَّان، فمن أيْنَ لك هذا العلم، فقال: ما أنا بكاهن؛ وإنما ذلك العلم مما علمني ربي.

وفيه دلالة على أنه له علومًا جَمَّةً ما سَمِعاه قِطْعةً من جملتها، وشعبة من دَوْحَتها.

وكأنَّه قيل: لماذا علمك ربُّك تلك العلوم البديعة؟ فقيل: {إِنِّي} ؛ أي: لأني {تَرَكْتُ} ؛ أي: رفضتُ من أول أمري {مِلَّةَ قَوْمٍ} ؛ أي: دينَ قوم؛ أيَّ قوم كانوا من قوم مصر وغيرهم {لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ؛ أي: لا يُصَدِّقُون بوحدانية الله تعالى. والمراد بالقوم (1) هنا: الكنعانيون وغيرهم من سكان أرض الميعاد، والمصريون الذين هم بينهم، فقد كانوا يعبدون آلهةً منها الشمس، وعجلهم، وفراعنتهم، وكان التوحيد خاصًّا بحكمائهم وعلمائهم. ومعنى تركها أنه تَركَ دخولها، واتباعَ أهلها من عبدة الأوثان على كثرة أهلها. وفي ذلك لفت لأنظارهما لأن يَتْرُكَا تلك الملةَ التي هم عليها.

والمعنى: إني بَرِئْتُ من ملة مَنْ لا يصدق بالله، ولا يقرُّ بوحدانيته، وأنه خَالِقُ السموات والأرض وما بينهما. وعبارة "روح البيان" هنا: والمراد (2) بتركها، الامتناع عنها رَأْسًا، لا تركها بعد ملابستها، وإنما عَبَّرَ بذلك لكونه أدخلَ بحسب الظاهر في اقتدائهما به عليه السلام.

{وَهُمْ بِالْآخِرَةِ} وما فيها من الجزاء {هُمْ كَافِرُونَ} ؛ أي: هم مختصون بذلك دون غيرهم، لإفراطهم في الكفر باللهِ تعالى. والمعنى: أي: وهم يكفرون (3) بالآخرة، والحساب، والجزاء على الوجه الذي دعا إليه الأنبياء، إذ أنهم كانوا يصورون حياةَ الآخرة على صور مبتدعةٍ، منها: أنَّ فراعنتهم يعودون إلى الحياة الآخرة بأجسادهم المحنطة، ويَرجع إليهم الحكم والسلطان، كما كانوا في الدنيا، ومن ثَمَّ كانوا يَضَعُونَ معهم في مقابرهم جواهرهم، وحليهم، ويبنون

(1) المراغي.

(2)

روح البيان.

(3)

المراغي.

ص: 421