المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌18 - {وَجَاءُوا}؛ أي: جاء إخوة يوسف {عَلَى قَمِيصِهِ}؛ أي: - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٣

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: ‌ ‌18 - {وَجَاءُوا}؛ أي: جاء إخوة يوسف {عَلَى قَمِيصِهِ}؛ أي:

‌18

- {وَجَاءُوا} ؛ أي: جاء إخوة يوسف {عَلَى قَمِيصِهِ} ؛ أي: فَوقَ قميص يوسف، فهو منصوب على الظرفية، من قوله:{بِدَمٍ} ؛ أي: جَاؤوا بدم فوقَ قميصه، أو على الحالية منه، والخلافُ في تقدُّم الحال على المجرور فيما إذا لم يكن الحال ظرفًا {كَذِبٍ} مصدر وصف به الدم مبالغةً كأنَّ مجيئَهم من الكذب نفسه، كما يقال للكذَّاب: هو الكذب بعينه، أو مصدرٌ بمعنى مفعول، أي مكذوب فيه؛ لأنه لم يَكُنْ دَمُ يوسف. وقرأ (1) الجمهور:{كذِبٍ} وَصْفًا للدم على سبيل المبالغة، كما قلنا آنِفا أو على حذف مضاف؛ أي: ذي كذب لمَّا كان دالًّا على الكذب وصف به، وإن كان الكَذِبُ صَادِرًا من غيره. وقرأ زَيْدُ بن علي:{كَذِبًا} بالنصب على الحال، فاحتمل أن يَكُونَ مصدرًا في موضع الحال، وأن يَكُونَ مَفْعُولًا لأَجْلِهِ. وقرأت عَائِشَةُ والحسن:{كَدِبٍ} بالدال المهملة، وفسِّر بالكدر. وقيل: الطَّرِيِّ. وقيل: اليابس.

روي (2) أنهم ذَبَحُوا سخلةً ولَطَخُوه بدمها، وزَالَ عنهم أن يمزِّقُوه فلَمَّا سمع يعقوبُ بخبر يوسف، صاح بأعلى صوته، فقال: أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه، وبكى حتى خَضِبَ وَجْهَه بدم القميص، قال: تالله ما رأيت كاليوم ذئبًا أحلم من هذا أَكَل ابني، ولم يمزِّقْ عليه قَمِيصَهُ. وقوله:{قَالَ} مستأنف استئنافًا بيانيًّا كأنه قيل: ما قال يعقوب؟ هل صدَّقهم فيما قالوا: أو لا؟ فقيل: {قَالَ} يعقوب جوابًا لهم لم يكن ذلك الذي أخْبَرْتُمُوه لي صدقًا {بَلْ سَوَّلَتْ} وزينتْ وسَهَّلَتْ {لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ} قاله ابن عباس رضي الله عنهما. والتسويل (3): تقدير شيء في الأنفس مع الطمع في إتمامه. قال الأزهري: كأن التسويلَ تفعيل من سؤال الأشياء، وهي الأمنية التي يطلبها فيزيَّن لطالبها الباطلُ وغَيْرُه. {أَمْرًا} من الأمور مُنْكرًا لا يُوصَفُ ولا يُعْرَفُ فصنعتموه بيوسف، استدلَّ يَعْقُوبَ على أنهم فَعلُوا بيوسف ما أرادوا، وأنهم كاذبون، بشيئين: بما عرف منْ حسدهم الشديد، وبسلامة القميص، حيث لم يَكُن فيه خرق ولا أثر نَاب؛ فقوله:{بَلْ سَوَّلَتْ} ردٌّ

(1) البحر المحيط.

(2)

روح البيان.

(3)

روح البيان.

ص: 338

لقولهم: {أكله الذئبُ} ، وبل للإعراض عمَّا قبله، وإثبات ما بعده على سبيل التدارك، نحو: جاء زيد بل عَمْرُو كما في "بحر العلوم"؛ أي: قال (1) يعقوب ليس الأمر كما تقولون: بل زيَّنَتْ لكم أنفسكم أمرًا غَيْرَ ما تَصِفُون. قيل: لَمَّا جاءوا على قميصه بدمِ جَدْيٍ ذهلوا عن خَرْقِ القميص. فلَمَّا رأى يعقوبُ القميصَ صحيحًا قال: كذبتم لو أَكَله الذئبُ لَخَرق قَمِيصَه. وقالَ بعضُهم: بل قَتَلَهُ اللُّصُّ. فقال: كيفَ قَتَلُوه وتَرَكُوا قَمِيصَه؟ وهم إلى قميصه أحْوَجُ منه إلى قَتْلِه. وقيل: إنهم (2) أتوه بذئب، وقالوا: هذا أكَلَه، فقال يعقوب: أيها الذِّئْبُ أنْتَ أكلت ولدي، وثمرة فؤادي، فأنطقه الله عز وجل وقال: والله ما أكلْتُ ولدَكَ ولا رأيته قطُّ، ولا يَحِلُّ لنا أن نأكل لُحومَ الأنبياء. فقال يعقوب: فكيف وَقَعْتَ في أرض كنعان، قال: جئت لصلةِ الرحم قرابة لي فأخذوني، وأتوا بي إليك فأطْلَقَه يعقوب.

{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} ؛ أي: فصبري صبر جميل، أو فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أولى من الجزع، والصبر الجميل: هو الذي لا شكوى فيه إلى أحد إلا إلى الخالق سبحانه وتعالى، وإلا فقد فقال يعقوب:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} .

واعلم (3): أنَّ الصَّبْرَ إذا لم يكن فيه شكوى إلى الخلق، يَكُونُ جميلًا، وإذا كَان فيه مع ذلك شكوى إلى الخالق يكون أجمل لِمَا فيه من رعاية حق العبودية ظاهرًا، حيث أمسك عن الشكوى إلى الخلق، وباطنًا حيث قصَّرَ الشكوى على الخالق، والتفويض جميل، والشكوى إليه أجملُ. وأما (4) الهجرُ الجميلُ فهو الذي لا إيذاء معه. وأما الصَّفْحُ الجميل فهو الذي لا عِتَابَ بعده، وقد تحقق بجميعها كل من يوسف ويعقوب.

{وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى هو {الْمُسْتَعَانُ} ؛ أي: المطلوب منه العونُ، وهو

(1) المراح.

(2)

المراح.

(3)

روح البيان.

(4)

الصاوي.

ص: 339