المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ومن تبعه من اليهود يقتلهم عيسى والمؤمنون، بحيث لا ينجو - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٥

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: ومن تبعه من اليهود يقتلهم عيسى والمؤمنون، بحيث لا ينجو

ومن تبعه من اليهود يقتلهم عيسى والمؤمنون، بحيث لا ينجو منهم واحد، فمعنى قوله:{فَاسْتَعِذْ بِاللهِ} ؛ أي: من فتنة الدجال، فإنه ليس فتنة أعظم من فتنة الدجال.

‌57

- وقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تحقيق للحق وتبيين لأشهر ما يجادلون فيه، وهو أمر البعث؛ أي: لخلق السموات والأرض ابتداءً من غير مثال سابق مع عظمهن {أَكْبَرُ} ؛ أي: أعظم في النفوس، وأجل في الصدور {مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} مرةً ثانيةً، وهي الإعادة لعظم أجرامهما واستقرارهما من غير عمد وجريان الأفلاك بالكواكب من غير سبب، فمن قدر على خلق الأعظم الأقوى بلا أصل ولا مادة .. وجب أن يقدر على خلق الأذل الأضعف من الأصل والمادة بطريق الأولى، فكيف يقرون بأن الله خلق السموات والأرض، وينكرون الخلق الجديد يوم البعث؟ وقد جرت العادة في مزاولة الأفعال أن علاج الشيء الكبير أشقّ من علاج الشيء الصغير، فمن قدر على ذلك .. قدر على ما دونه، كما قال:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)} وقال أيضًا: {وَنُفِخَ في الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)} .

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} يعني الكفار {لَا يَعْلَمُونَ} أنّ الإعادة أهون من البداية، لقصورهم في النظر والتأمل، لفرط غفلتهم واتباعهم لأهوائهم؛ أي: ولكن هؤلاء المشركين لا يتدبّرون هذه الحجة ولا يتأملونها، ولا يعلمون أنّ الله سبحانه لا يعجزه شيء.

قال أبو العالية: المعنى: لخلق السموات والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظّمته اليهود، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعني اليهود الذين يخاصمون في أمر الدجال.

فصل في ذكر الأحاديث الواردة في الدجال

وعن هشام بن عروة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة، خلق أكبر من الدجال" أخرجه مسلم، معناه: أكبر فتنةً، وأعظم شوكة من الدجال.

وعن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال فقال: "إنه

ص: 225

أعور العين اليمنى، كأنها عنبة طافية" متفق عليه. ولأبي داود والترمذي عنه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم في الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال فقال: إني أنذركموه وما من نبي إلا وقد أنذر قومه، لقد أنذر نوح قومه، لكني سأقول لكم فيه قولًا لم يقله نبي لقومه، تعلمون أنه أعور، وأنّ الله ليس بأعور.

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر" متفق عليه. وفي رواية لمسلم: "بين عينيه كافر، ثم تهجّي ك ف ر، يقرؤه كل مسلم".

وعن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فذكر الدجال فقال:"إن بين يديه ثلاث سنين: سنة تمسك السماء ثلث قطرها، والأرض ثلث نباتها، والثانية تمسك السماء ثلثي قطرها، والأرض ثلثي نباتها، والثالث تمسك السماء قطرها، والأرض نباتها كله، فلا تبقى ذات ظلف ولا ضرس من البهائم إلا هلكت، ومن أشد فتنته أنه يأتي الأعرابي فيقول: أرأيت إن أحييت لك إبلك، ألست تعلم أني ربك، قال: فيقول: بلى، فيتمثل له الشيطان نحو إبله كأحسن ما تكون ضروعًا، وأعظمه أسمنةً، ويأتي الرجل قد مات أخوه ومات أبوه، فيقول: أرأيت إن أحييت لك أخاك وأباك .. ألست تعلم أني ربك، فيقول: بلى، فيتمثل له الشيطان نحو أخيه ونحو أبيه" قالت: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته ثم رجع والقوم في اهتمام وغمّ مما حدّثهم، قالت: وأخذ بلحمتي الباب فقال: "مه يا أسماء" فقلت: يا رسول الله، لقد خلعت أفئدتنا بذكر الدجال، قال:"إن يخرج وأنا حي .. فأنا حجيجُه، وإلا فإن ربي خليفتي على كل مؤمن" قالت أسماء: فقلت: يا رسول الله، والله. إنا لنعجن عجينًا فما نخبزه حتى نجوع، فكيف بالمؤمنين يومئذ؟ قال:"يجزيهم ما يجزي أهل السماء من التسبيح والتقديس" وفي رواية عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يمكث الدجّال في الأرض أربعين سنةً، السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كاضطرام السعفة في النار" هذا حديث أخرجه البغوي بسنده، والذي جاء في "صحيح مسلم" قال: قلنا: يا رسول الله، ما لبثه في الأرض قال:"أربعون يومًا، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم هذه" قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم كسنة، أتكفينا صلاة يوم، قال: "لا، أقدروا

ص: 226

له قدرة" قلنا: يا رسول الله، وما إسراعه في الأرض، قال: "كالغيث استذرته الريح" وفي رواية أبي داود عنه: "فمن أدركه منكم .. فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، فإنها جواركم من فتنته" وفيه:"ثم ينزل عيسى عليه السلام عند المنارة البيضاء، شرقي دمشق، فيدركه عند باب لد فيقتله".

وعن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن مع الدجال إذا خرج ماءً ونارًا، فأما الذي يرى الناس أنه نار .. فماء بارد، والذي يرى الناس أنه ماء فنار محرقة، فمن أدرك ذلك منكم .. فليقع في الذي يرى أنه نار، فإنه ماء عذب بارد". متفق عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أحدّثكم حديثًا عن الدجال ما حدَّث به نبي قومه، إنه أعور، وإنه يجيء بمثال الجنة والنار، فالتي يقول: إنها الجنة هي النار، وإني أنذركم كما أنذر نوح قومه". متفق عليه.

وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: ما سأل أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدجال ما سألته، وإنه قال لي:"ما يضرّك" قلت: إنهم يقولون: إن معه جبل خبر ونهر وماء، قال:"هو أهون على الله من ذلك". متفق عليه. وسيأتي تفسير هذه الجملة الأخيرة إن شاء الله تعالى.

وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سمع الدجال .. فليتأمنه، فوالله إنّ الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات" أو قال: "لما يبعث به من الشبهات" أخرجه أبو داود.

وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، ليس نقب من نقابها إلا عليه الملائكة صافّين يحرسونها، فينزل السبخة، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافر ومنافق" متفق عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي المسيح من قبل المشرق وهمته المدينة، حتى ينزل مدبر أحد، ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام وهناك يهلك" أخرجه مسلم.

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

ص: 227

"الدجال يخرج بأرض بالمشرق، يقال لها: خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة" أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفًا، عليهم الطيالسة" أخرجه مسلم.

وعن مجمع بن جارية الأنصاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقتل ابن مريم الدجال بباب لد" أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

وقال النواوي - رحمه الله تعالى -: قال القاضي عياض: هذه الأحاديث التي وردت في قصة الدجال حجة للمذاهب الحق في صحة وجوده، وأنه شخص بعينه عورٌ، ابتلى الله تعالى به عباده، فأقدره على أشياء من المقدورات، من إحياء الميت الذي يقتله، ومن ظهور زهرة الدنيا، والخصب معه وجنته وناره، واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، ويقع كل ذلك بقدرة الله تعالى وفتنته، ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك، فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره، ويبطل أمره، ويقتله عيسى بن مريم عليه السلام، ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء، خلافًا لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة، وخلافًا للجبائي المعتزلي وموافقيه من الجهمية وغيرهم، في أنه صحيح الوجود، ولكن الأشياء التي يأتي بها زعموا أنها مخاريق وخيالات لا حقائق لها، وزعموا أنها لو كانت حقًا .. لضاهت معجزات الأنبياء، وهذا غلط من جميعهم؛ لأنه لم يدّع النبوة، فيكون ما معه كالتصديق له، وإنما يدعي الربوبية، وهو في نفس دعواه مكذب لها بصورة حاله، ووجود دلائل الحدوث فيه، ونقص صورته، وعجزه عن إزالة العور الذي في عينه، وعن إزالة الشاهد بكفره المكتوب بين عينيه، ولهذا الدلائل لا يغترّ بها إلا عوام من الناس لشدة الحاجة والفاقة، رغبةً في سد الرمق، أو خوفًا من فتنته، لأنّ فتنته عظيمةٌ جدًّا، تدهش العقول وتحير الألباب، ولهذا حذّرت الأنبياء من فتنته، فأما أهل التوفيق فلا يغترون به ولا يخدعون بما معه؛ لما سيق لهم من العلم بحاله، ولهذا يقول له الذي يقتله ثم يحييه: ما ازددت فيك إلا بصيرةً.

قوله في حديث المغيرة بن شعبة: قلت يا رسول الله: إنهم يقولون: إنّ معه

ص: 228