الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أيًا كان مقهور لا محالة، ما يقال (1): إن أول ما خلق درة بيضاء، فنظر إليها بالهيبة فذابت وصارت ماء، وارتفع زبدها، فخلق الله منه الأرض فافتخرت الأرض وقالت: من مثلي، فخلق الله الجبال فجعلها أوتادًا في الأرض، فقهر الأرض بالجبال، فتكبرت الجبال فخلق الحديد، وقهر الجبال به، فتكبر الحديد فقهره بالنار، فتكبرت النار فخلق الماء فقهرها به، فتكبر الماء فخلق السحاب، ففرق الماء في الدنيا فتكبر السحاب فخلق الرياح، ففرقت السحاب فتكبرت الرياح، فخلق الآدمي حتى جعل لنفسه بيتًا وكنًا من الحر والبرد والرياح، فتكبر الآدمي فخلق النوم فقهره به، فتكبر النوم فخلق المرض فقهره به، فتكبر المرض فخلق الموت فقهره به، فتكبر الموت فقهره بالذبح يوم القيامة، حيث يذبح بين الجنة والنار، كما قال تعالى:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} ؛ يعني إذا ذبح الموت .. فالقاهر فوق الكل هو الله تعالى، كما قال تعالى:{وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} ثم إن الكبر من أشد صفات النفس الأمارة بالسوء، فلا بد من إزالته
28
- ولما استعاذ موسى عليه السلام بالله، واعتمد على فضله ورحمته .. فلا جرم صانه الله تعالى من كل بلية، وأوصله إلى كل أمنية، وقيض له إنسانًا أجنبيًا، حتى ذب عنه بأحسن الوجوه في تسكين تلك الفتنة، كما حكى الله تعالى عنه بقوله:{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ} كائن {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} فهو صفة ثانية لـ {رَجُلٌ} وقوله: {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} : صفة ثالثة، قدم الأول؛ أعني مؤمن، لكونه أشرف الأوصاف، ثم الثاني لئلا يتوهم خلاف المقصود، وذلك لأنه لو أخر عن {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} .. لتوهم أن {من} صلته، فلم يفهم أن ذلك الرجل كان من آل فرعون، وآل الرجل خاصته الذين يؤول إليه أمرهم للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين، وكان ذلك الرجل المؤمن من أقارب فرعون؛ أي: ابن عمه، وهو منذر موسى عليه السلام بقوله:{إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} ، كما سبق في سورة القصص، واسمه شمعان بالشين المعجمة بوزن سلمان، وهو أصح ما قيل فيه، قاله الإِمام السهيلي.
وقرأ الجمهور (2): {رَجُلٌ} بضم الجيم، وقرأ عيسى وعبد الوارث وعبيد بن عقيل، وحمزة بن القاسم عن أبي عمرو: بسكون الجيم، وهي لغة تميم ونجد،
(1) روح البيان.
(2)
البحر المحيط.
وقرىء: بكسر الجيم، وفي "تاريخ الطبري": اسمه جبر، وقيل: حبيب النجار، وهو الذي عمل تابوت موسى حين أرادت أمه أن تلقيه في اليم، وهو غير حبيب النجار صاحب يس، وقيل: خربيل بن نوحائيل أو حزقيل، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: حزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}، وحبيب النجار صاحب ياسين، وعلي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وهو رضي الله عنه أفضلهم" كما في "إنسان العيون" نقلًا عن "العرائس".
وقال ابن الشيخ في "حواشيه": روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصديقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل يس، ومؤمن آل فرعون، والثالث: أبو بكر الصديق وهو أفضلهم" انتهى. وقال صاحب "روح البيان": يمكن أن يقال لا مخالفة بين هاتين الروايتين لما أن المراد تفضيل أبي بكر في الصديقية، وتفضيل علي في السبق، وعدم صدور الكفر عنه، ولو لحظةً، فأفضلية كل منهما من جهة أخرى.
ثم إن الروايتين دلتا على كون ذلك الرجل قبطيًا، لا إسرائيليًا، وأيضًا أن فرعون أصغى إلى كلامه واستمع منه، ولو كان إسرائيليًا لكان عدوًا له، ولم يكن ليصغي إليه.
قال في "التكملة": فإن قلت: الآل قد يستعمل في غير القرابة بدليل قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ولم يرد إلا كل من كان على دينه من ذوي قرابته وغيرهم؟
فالجواب: أن هذا الرجل لم يكن من أهل دين فرعون وإنما كان مؤمنًا، فإذا لم يكن من أهل دينه .. فلم يبق لوصفه بأنه من آله إلا أن يكون من عشيرته. انتهى، وقيل: كان إسرائيليًا ابن عم قارون، أو أبوه من آل فرعون وأمه من بني إسرائيل، وقيل: كان عربيًا موحدًا ينافقهم لأجل المصلحة، {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}؛ أي: يستره ويخفيه من فرعون وملثه، لا خوفًا بل ليكون كلامه بمحل من القبول، وقيل: خوفًا، وكان قد آمن بعد مجيء موسى أو قبله بمئة سنة، وكتمه، فلما بلغه خبر قصد فرعون بموسى .. قال:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا} ؛ أي: أتقصدون قتله ظلمًا بلا دليل، والاستفهام إنكاري، {أَنْ يَقُولَ}؛ أي: لأن يقول أو كراهة أن يقول: {رَبِّيَ اللَّهُ}
وحده لا شريك له، وهو في موضع نصب بنزع الخافض، والحصر مستفاد من تعريف طرفي الجملة، مثل: صديقي زيد لا غير {و} الحال أنه {قَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} والمعجزات الظاهرة الواضحة التي شاهدتموها {مِنْ رَبِّكُمْ} لم يقل من ربه، لأنهم إذا سمعوا أنه جاءهم بالبينات من ربهم .. دعاهم ذلك إلى التأمل في أمره، والاعتراف به وترك المكابرة معه؛ لأن ما كان من قِبَلِ رَبِّ الجميع يجب اتباعه وإنصاف مبلغه.
وعن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: حدثني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أقبل عقبة بن أبي معيط، ورسول الله يصلي عند الكعبة، أو لقيه في الطواف، فأخذ بمجامع ردائه صلى الله عليه وسلم، فلوى ثوبه على عنقه وخنقه خنقًا شديدًا، وقال له: أنت الذي تنهانا عما يعبد آباؤُنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أنا ذاك"، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه فأخذ بمنكبيه صلى الله عليه وسلم والتزمه من ورائه، ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} رافعًا صوته، وعيناه تسفحان دمعًا أي: تجريان حتى أرسلوه، أخرج البخاري بمعناه. وفيه بيان أن ما تولى أبو بكر من رسول الله كان أشد مما تولاه الرجل المؤمن من موسى، لأنه كان يظهر إيمانه، وكان بمجمع طغاة قريش، وحكى ابن عطية في "تفسيره" عن أبيه: أنه سمع أبا الفضل بن الجوهري على المنبر، وقد سئل أن يتكلم في شيء من فضائل الصحابة رضي الله عنهم فأطرق قليلًا ثم رفع رأسه، فقال:
عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِيْنِهِ
…
فَكُلُّ قَرِيْنٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِيْ
ماذا ترون من قوم قرنهم الله تعالى بنبيه، وخصهم بمشاهدته، وتلقى الروح عنه؟ وقد أثنى الله تعالى على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأَسرَّهُ، فجعله في كتابه، وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر، وأين هو من عمر بن الخطاب رضي الله عنه! إذ جرد سيفه بمكة وقال: والله لا أعبد الله سرًا بعد اليوم، فكان ما كان من ظهور الدين بسيفه.
والمعنى (1): أي وقال رجل من آل فرعون بكتم إيمانه منهم، خوفًا على
(1) المراغي.
نفسه: أينبغي لكم أن تقتلوا رجلًا ما زاد على أن قال: ربي الله، وقد جاءكم بشواهد دالة على صدقه، ومثل هذه المقالة لا تستدعي قتلًا، ولا تستحق عقوبةً، فاستمع فرعون لكلامه، وأصغى لمقاله، وتوقف عن قتله.
وخلاصة ذلك: أترتكبون هذه الفعلة، القبيحة الشنعاء وهي قتل النفس المحرمة من غير روية ولا تأمل ولا اطلاع على سبب يوجب قتله، وما لكم علة في ارتكابها إلا كلمة الحق، وهي قوله: ربي الله، ثم أخذهم الرجل المؤمن بالاحتجاج من باب الاحتياط، بإيراده في صورة الاحتمال من الظن بعد القطع يكون قتله منكرًا، فقال:{وَإِنْ يَكُ} الرجل الذي تريدون قتله {كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} لا يتخطاه وبال كذبه وضرره، فيحتاج في دفعه إلى قتله؛ يعني: أن الكاذب إنما يقتل إذا تعدى ضرر كذبه إلى غيره، كالزنديق الذي يدعو الناس إلى زندقته، والمبتدع الذي يدعو الناس إلى بدعته، وهذا لا يقدر على أن يحمل الناس على قبول ما أظهره من الدين، لكون طباع الناس آبية عن قبوله، ولقدرتكم على منعه من إظهار مقالته ودينه {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا} في قوله فكذبتموه وقصدتم له بسوء {يُصِبْكُمْ} ويحل بكم {بَعْضُ} العذاب {الَّذِي يَعِدُكُمْ} ويخبركم بوقوعه عليكم، وهو عذاب الدنيا، فكان الأولى على كلا التقديرين إبقاءه حيًا.
والحاصل: أن المقصود بيان أنه لا حاجة إلى قتله، بل يكفيكم أن تعرضوا عنه، وأن تمنعوه عن إظهار دينه.
أي (1): إن لم يصبكم كله فلا أقل من إصابة بعضه، وفي بعض ذلك كفاية لهلاكهم، فذكر البعض ليوجب الكل، لا أن البعض هو الكل، وحذفت النون من يكن في الموضعين؛ تخفيفًا لكثرة الاستعمال، كما قاله سيبويه، وهذا كلام صادر عن غاية الإنصاف وعدم التعصب، ولذلك قدم من شِقَّي الترديد كونه كاذبًا، وصرح بإصابة البعض دون الجميع، مع أن الرسول صادق في جميع ما يقوله، وإنما الذي يصيب بعض ما يعده دون بعض هم الكهان والمنجمون، ويجوز أن يكون المعنى: يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا، وهو بعض ما يعدهم، لأنه كان يتوعدهم بعذاب الدنيا والآخرة، كأنه خوّفهم بما هو ظهر احتمالًا عندهم. وفي "عين المعاني":
(1) روح البيان.
لأنه وعد النجاة بالإيمان والهلاك بالكفر، وقد يكون البعض بمعنى الكل، كما في قوله:
قَدْ يُدَرِكُ الْمُتَأَنِّيْ بَعْضَ حَاجَتِهِ
…
وَقَدْ يَكُوْنُ مَعَ الْمُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ
وقول الآخر:
إِنَّ الأُمُوْرَ إِذَا الأَحْدَاثُ دَبَّرَهَا
…
دُوْنَ الشُّيُوْخِ تَرَى فِيْ بَعْضِهَا خَلَلَا
وكما في قوله تعالى: {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} ؛ أي: جميعه، وفي قوله:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} ؛ أي: بكلها، كما في "كشف الأسرار" وقال أبو الليث:{بَعْضُ} هنا: صلة يريدُ يُصِبْكم الذي يعدم.
وعبارة "فتح الرحمن" هنا: وإن قلت: كيف قال المؤمن ذلك في حق موسى عليه السلام، مع أنه صادق عنده وفي الواقع، ويلزم منه أن يصيبهم جميع ما وعدهم لا بعضه فقط؟.
قلت: كلمة {بَعْضُ} : صلة، أو هي بمعنى كل، كما قيل به في البيتين السابقين وفي الآيتين، أو ذكر البعض تنزلًا وتلطفًا بهم، مبالغًا في نصحهم، لئلا يتهموه بميل ومحاباة، أو هي باقية على معناها، لأنه وعدهم على كفرهم الهلاك في الدنيا، والعذاب في الآخرة، فهلاكهم في الدنيا بعض ما وعدهم به.
والمعنى: أي إن كان كاذبًا في قيله: أن الله أرسله إليكم ليأمركم بعبادته، وترك دينكم الذي أنتم عليه .. فإنما إثم كذبه عليه دونكم، وإن يك صادقًا في قيله ذلك .. أصابكم الذي أوعدكم به من العقوبة على مقامكم على الدين الذي أنتم عليه مقيمون، فلا حاجة بكم إلى قتله فتسخطوا ربكم سخطين: سخطًا على الكفر، وسخطًا على قتل رسوله، وفي قوله:{بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} مبالغة في التحذير، فإنه إذ حذرهم من بعض العذاب .. أفاد أنه مهلك مخوف، فما بال كله إلى ما فيه من الإنصاف وإظهار عدم التعصب. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} وهذا من تمام كلام الرجل المؤمن، والمسرف: هو الذي يتجاوز الحد في المعصية، أو هو السفاك للدم بغير حق، والكذاب: هو الذي يكذب مرةً بعد أخرى، وقيل: هو الكذاب على الله سبحانه، لأن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، وهو احتجاج آخر ذو وجهين: