المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أي (1): قالت الجلود: إن الله جعل فينا من الدلالات - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٥

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: أي (1): قالت الجلود: إن الله جعل فينا من الدلالات

أي (1): قالت الجلود: إن الله جعل فينا من الدلالات الفعلية ما يقوم مقام النطق؛ بل ما هو أفصح منها، فشهدنا عليكم بما فعلتم من القبائح، وفي "صحيح مسلم": عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضحك فقال:"هل تدرون ممّ أضحك؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، قال:"من مخاطبة العبد ربه، يقول: ألم تجِرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أُجير على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: يقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي فتنطق بأعماله، قال: ثمّ يخلَّى بينه وبين الكلام، قال: فيقول بعدًا لكن، وسحقًا. فعنكن كنت أناضل".

{وَهُوَ خَلَقَكُمْ} ؛ أي: والحال أنه سبحانه وتعالى خلقكم وأوجدكم أيها الكفرة {أَوَّلَ مَرَّةٍ} من العدم المحض {وَإِلَيْهِ} تعالى {تُرْجَعُونَ} ؛ أي: تردون فإن من قدر على خلقكم وإنشائكم أولًا، وعلى إعادتكم ورجعكم؛ أي: ردّكم إلى جزائه ثانيًا، لا يتعجّب من إنطاقه لجوارحكم، فهو لا يخالف ولا يمانع، وقد جعل فيكم دلائل واضحةً كخطوط اليد والإبهام والأصوات وألوان الوجوه وأشكالها، ولكن قليلًا من الناس من يفطن إلى ذلك، فمن قدر على خلقكم وإنشائكم ابتداءً .. قدر على إعادتكم ورجعكم إليه، ومن ثمّ قال:{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ؛ أي: وإليه مصيركم بعد مماتكم، فيجازي كل نفس بما كسبت، لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب، قيل: هذا من تمام كلام الجلود، وقيل: مستأنف من كلام الله تعالى

‌22

- {وَمَا كُنْتُمْ} أيها الكفرة {تَسْتَتِرُونَ} في الدنيا بنحو الحيطان عند الإقدام على الأفعال القبيحة مَخافة {أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} في الآخرة، وقوله (2):{أَنْ يَشْهَدَ} في موضع الجر على تقدير المضاف؛ أي: مخافة أن يشهد، أو في موضع النصب بإسقاط الخافض؛ أي: من أن يشهد لأنّ استتر لا يتعدّى بنفسه، و {لا}: في الموضعين زائدة لتأكيد النفي.

وهذه حكاية لما سيقال للأعداء يومئذ من جهته تعالى بطريق التوبيخ والتقريع، تقريرًا لجواب الجلود.

والمعنى: وما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم الفواحش، مخافة أن

(1) المراغي.

(2)

روح البيان.

ص: 330

تشهد عليكم جوارحكم بذلك، لأنها كانت أجسامًا صامتة غير ناطقة، ولم يكن في حسابكم ما استقبلكم، كما كنتم تستترون من الناس بالحيطان والحجب وظلمة الليل، مخافة الافتضاح عندهم، بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء رأسًا، فضلًا عن شهادة الأعضاء، وفيه تنبيه على أنّ المؤمن ينبغي أن يتحقق أن لا يمرّ عليه حال إلا وعليه رقيب، وأن الله معه أينما كان. وفي الحديث:"أفضل إيمان المرء: أن يعلم أن الله معه حيث كان".

وقيل: هذا من كلام الجلود، وبختهم على ما كانوا يفعلون في الدنيا، فقالت لهم:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} إلخ؛ أي (1): وما كنتم تستخفون حين تفعلون قبيح الأعمال، وترتكبون عظيم الفواحش بالحيطان والحجب، حذرًا من شهادة الجوارح عليكم، بل كنتم تجاهرون بالكفر والمعاصي، وتجحدون البعث والجزاء، قال عبد الأعلي بن عبد الله الشاميّ فأحسن:

الْعُمْرُ يَنْقُصُ وَالذُّنُوْبُ تَزِيْدُ

وَتُقَالُ عَثْرَاتُ الْفَتَى فَيَزِيْدُ

هَلْ يَسْتَطِيْعُ جُحُوْدَ ذَنْبٍ وَاحِدٍ

رَجُلٌ جَوَارِحُهُ عَلَيْهِ شُهُوْدُ

وَالْمَرْءُ يُسْأَلُ عَنْ سِنِيْهِ فَيَشْتَهِيْ

تَقْلِيْلَهَا وَعَنِ الْمَمَاتِ يَحِيْدُ

ولما كان (2) الإنسان لا يقدر على أن يستخفي من جوارحه عند مباشرة المعصية .. كان معنى الاستخفاء هنا ترك المعصية، وقيل: معنى الاستتار: الاتقاء؛ أي: ما كنتم تتقون في الدنيا، أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة، فتتركوا المعاصي خوفًا من هذه الشهادة {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ} عند استتاركم من الناس مع عدم استتاركم من أعضائكم {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه {لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} من المعاصي فاجترأتم على فعلها، قيل: كان الكفار يقولون: إن الله لا يعلم ما في أنفسنا، ولكن يعلم ما تظهر دون ما نسرُّ.

والخلاصة: أنكم كنتم في الدنيا تستترون عن الناس خوف الفضيحة والعار حين ارتكاب الذنوب، وما ظننتم أنَّ أعضاءَكم وجسمكم الأثيريّ الذي هو على صورة الجسم الظاهريّ قد سطّرت فيه جميع أعمالكم، كأنه لوح محفوظ، فلذلك ما

(1) المراغي.

(2)

الشوكاني.

ص: 331