المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

{ثُمَّ} بعد الجر بالسلاسل إلى الحميم {فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ}؛ أي: - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٥

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: {ثُمَّ} بعد الجر بالسلاسل إلى الحميم {فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ}؛ أي:

{ثُمَّ} بعد الجر بالسلاسل إلى الحميم {فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} ؛ أي: يحرقون بالنار، وهي محيطة بهم، من سجر التنور: إذا ملأه بالوقود، ومن كانوا في النار وكانت هي محيطة بهم، وصارت أجوافهم مملوءة بها، لزم أن يحرقوا بها على أبلغ الوجوه، فهم يملؤون بالنار كائنين فيها ويحرقون، والمراد: بيان أنهم يعذبون بأنواع العذاب، وينقلون من لون إلى لون.

حكي: أنه توفيت النوارة - امرأة الفرزدق - فخرج في جنازتها وجوه أهل البصرة، وخرج فيها الحسن البصري، فقال الحسن للفرزدق: يا أبا فراس، ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة، فلما دفنت .. قام الفرزدق على قبرها وأنشد هذه الأبيات:

أَخَافُ وَرَاءَ الْقَبْرِ إِنْ لَمْ يُعَافِنِيْ

أَشَدَّ مِنَ القَبْرِ الْتِهَابًا وَأَضْيَقَا

إِذَا جَاءَنِيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَائِدٌ

عَنِيْفٌ وَسَوَّاقٌ يَسُوْقُ فَرَزْدَقَا

لَقَدْ خَابَ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ مَنْ مَشَى

إِلَى النَّارِ مَغْلُولَ الْقِلَادَةِ أَزْرَقَا

ومعنى الآية: أي فسوف يعلم هؤلاء المكذبون حقيقة ما نخبرهم به، وصدق ما هم به اليوم مكذبون من هذا الكتاب، حين تجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم، يسحبون بها في الحميم، فينسلخ كل شيء عليهم من جلد ولحم وعروق، ثم تملأ بهم النار، ونحو الآية قوله:{ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)} وقوله: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)} .

‌73

- ثم ذكر أنهم يسألون سؤال تبكيت وتوبيخ عن آلهتهم التي كانوا يعبدونها، فقال:{ثُمَّ} ؛ أي: بعد الإحراق {قِيلَ لَهُمْ} ؛ أي: يقال لهم على سبيل التوبيخ والتقريع، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق {أَيْنَ مَا}؛ أي: أين الشركاء الذين {كُنْتُمْ} في الدنيا على الاستمرار {تعبدون} هم

‌74

- {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ رجاء شفاعتهم ادعوهم ليشفعوا لكم ويعينوكم، وهو نوع آخر من تعذيبهم {قَالُوا}؛ أي: يقولون: {ضَلُّوا عَنَّا} ؛ أي: الشركاء؛ أي: غابوا {عَنَّا} ؛ أي: عن أعيننا، وإن كانوا قائمين؛ أي: غيرها لكين، من قول العرب: ضل المسجد والدار؛ أي: لم

ص: 263

يعرف موضعهما، وذلك (1) قبل أن يقرن بهم آلهتهم، فإن النار فيها أمكنة متعددة، وطبقات مختلفة، فلا مخالفة بينه وبين قوله تعالى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} أو ضاعوا عنا فلم نجد ما كنا نتوقع منهم، على أن يكون {ضل} بمعنى ضاع وهلك، تنزيلًا لوجودهم منزلة الضيفاع والهلاك، لفقدهم النفع الذي يتوقعونه منهم، وإن كانوا مع المشركين في جميع الأوقات.

ثم أضربوا عن ذلك، وانتقلوا إلى الإخبار بعدمهم، وأنه لا وجود لهم، فقالوا:{بَل} تبين لنا أنا {لَمْ نَكُنْ نَدْعُو} ونعبد {مِنْ قَبْلُ} ؛ أي: في الدنيا بعبادتهم {شَيْئًا} ينفع لما ظهر لنا اليوم، أنهم لم يكونوا شيئًا يعتد به، كقولك: حسبته شيئًا فلم يكن؛ أي (2): بل لم نكن نعبد من قبل هذا البعث شيئًا يضر وينفع، ويبصر ويسمع، وهذا اعتراف بأن عبادتهم الأصنام كانت باطلةً، قالوا ذلك: لما تبين لهم ما كانوا فيه من الضلالة والجهالة، وأنهم كانوا يعبدون ما لا ينفع ولا يضر. وليس هذا إنكار لوجود عبادتهم لها، بل اعتراف ببطلانها وعدم نفعها لم، أو المعنى: بل لم نكن نعبد من قبل هذا اليوم شيئًا من دون الله أصلًا، فيكون إنكارًا لعبادة الأصنام {كَذَلِكَ}؛ أي (3): مثل ضلال آلهتهم عنهم {يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} عن آلهتهم، حتى لو طلبوا الالهة أو طلبتهم الالهة .. لم يتصادفوا، وهذا بالنظر إلى التفسير الأول في قوله:{ضَلُّوا عَنَّا} ؛ أي: غابوا عن أعيننا، أو كما أضل الله هؤلاء المجادلين حيث لم يهتدوا في الدنيا إلى شيء ينفعهم في الآخرة، من العقائد الصحيحة، والأعمال الصالحة، يضل الله سائر الكافرين، الذين علم منهم اختيار الضلالة على الدين، وهذا بالنظر إلى التفسير الثاني في {ضَلُّوا عَنَّا} ، ومعنى إضلال الله سبحانه عبده: هو عدم عصمته إياه مما نهاه عنه، وعدم معونته وإمداده بما يتمكن به من الإتيان بما أمره به، أو الانتهاء عما نهاه عنه، كما في "تفسير الفاتحة" للشيخ صدر الدين القنوي رحمه الله.

والمعنى (4): أي ثم يسألون، ويقال لهم: أين الأصنام التي كنتهم تعبدونها من

(1) روح البيان.

(2)

المراح.

(3)

النسفي.

(4)

المراغي.

ص: 264