المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

اللَّهَ فَاعْبُدْ} و {الفاء} فيه واقعة في جواب الشرط المحذوف، - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٥

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: اللَّهَ فَاعْبُدْ} و {الفاء} فيه واقعة في جواب الشرط المحذوف،

اللَّهَ فَاعْبُدْ} و {الفاء} فيه واقعة في جواب الشرط المحذوف، تقديره؛ لا تعبد ما أمرك الكفار بعبادته، بل إن عبدت فاعبد الله دون ما سواه من الأنداد والأوثان، فحذف الشرط، وأقيم المفعول مقامه، ووجه الرد: ما يفيده التقديم من القصر، قال الزجاج: و {الفاء} في {فَاعْبُدْ} للمجازاة، وقال الأخفش: زائدة، وقال عطاء ومقاتل: معنى {فَاعْبُدْ} : وحد؛ لأن عبادته لا تصح إلا بتوحيده. {وَكُنْ} يا محمد {مِنَ الشَّاكِرِينَ} ربك على إنعامه عليك بما هداك إليه من التوحيد والعبادة والدعاء إلى دينه، وكذا النبوة والرسالة الحاصلتان بفضله وكرمه، لا بسعيك وعملك.

وقرأ عيسى: {بل اللهُ} بالرفع، والجمهور: بالنصب.

واعلم: أن الشكر على ثلاث درجات (1):

الأولى: الشكر على المحابِّ، وقد شاركت المسلمين في هذا الشكر اليهود والنصارى والمجوس.

والثانية: الشكر على المكارهِ، وهذا الشاكر أول من يدعى إلى الجنة؛ لأن الجنة حفت بالمكاره.

والثالثة: أن لا يشهد غير المنعم، فلا يشهد النعمة ولا الشدة، وهذا الشهود والتلذذ به أعلى اللذات؛ لأنه في مقام السر، فالعاقل يجتهد في الإقبال على الله والتوجه إليه، من غير التفات إلى يمين وشمال.

‌67

- ثم أكد ما سلف بقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ؛ أي: ما عظموه سبحانه وتعالى حق تعظيمه، حيث جعلوا له شريكًا، وأمروا رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يكون مثلهم في الشرك، قال أبو حيان؛ أي: ما عظموه حق تعظيمه، وما قدروه في أنفسهم حق تقديره؛ إذ أشركوا معه غيره، وساووا بينه وبين الحجر والخشب في العبادة، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدره، ولما (2) كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حق معرفته، وقدّره في نفسه حق تقديره، وعظمه حق تعظيمه. قيل:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} .

(1) روح البيان.

(2)

النسفي.

ص: 71

وقرأ الأعمش (1): {حق قدَره} بفتح الدال، وقرأ الحسن وعيسى وأبو نوفل وأبو حيوة:{وما قدَّروا} بتشديد الدال، {حق قدره} بفتح الدال؛ أي: ما عظموه حقيقة تعظيمه، والضمير في {قَدَرُوا}: قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: إلى كفار قريش، كانت هذه الآية كلها محاورةً لهم، وردًّا عليهم، وقيل: نزلت في قوم من اليهود تكلموا في صفات الله وجلاله، فألحدوا وجسموا، وجاؤوا بكل تخليط.

روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد: إنا نجد في كتابنا أن الله عز وجل يجعل السموات على إِصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية.

وأخرج الشيخان والنسائي وابن ماجه في جماعة آخرين عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} وهو يقول هكذا بيده يحركها، يقبل بها ويدبر، يمجد الرب نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، حتى قلنا: ليَخِرَّنَّ به.

وفي "التأويلات النجمية"(2): ما عرفوا الله حق معرفته، وما وصفوه حق وصفه، وما عظموه حق تعظيمه، فمن وصفه بتمثيل أو جنح إلى تعطيل. فقد حاد عن الألسنة المثلى، وانحرف عن الطريقة الحسنى، وصفوا الحق بالأعضاء، وتوهموا في نعته الأجزاء، فـ {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} . انتهى.

ثم نبههم سبحانه على عظمته وجلالة شأنه، فقال:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا} : حال لفظًا، وتأكيد معنى، ولذا قال أهل التفسير: تأكيد الأرض بالجميع؛ لأن المراد بها الأرضون السبع، أو جميع أبعاضها البادية والغائرة؛ أي: الظاهرة وغير

(1) البحر المحيط.

(2)

التأويلات النجمية.

ص: 72

الظاهرة من باطنها وظاهرها ووسطها، وقوله:{وَالْأَرْضُ} : مبتدأ، خبره، قوله:{قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} والجملة الاسمية: حال من لفظ الجلالة في قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ} ؛ أي: ما قدروا الله وعظموه حق قدره وعظمته؛ أي: ما عظموه التعظيم اللائق به تعالى، حيث عبدوا معه غيره، حالة كون جميع الأرض مقبوضة، ومملوكة يوم القيامة؛ أي: في ملكه (1) وتصرّفه من غير منازع، يتصرف فيها تصرف الملاك في ملكهم، وأنها؛ أي: جميع الأرضين، وإن عظمن .. فما هنّ بالنسبة إلى قدرته تعالى، إلا قبضة واحدة، ففيه تنبيه على غاية عظمته، وكمال قدرته، وحقارة الأفعال العظام بالنسبة إلى قدرته، ودلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه على طريقة التمثيل والتخييل، من غير اعتبار القبضة حقيقةً ولا مجازًا على ما في "الإرشاد" ونحوه.

وقيل: القبضة (2) المرة من القبض بالكف، والكلام حينئذ على حذف مضاف.

والمعنى: والأرضون جميعًا قبضته؛ أي: ذوات قبضته يقبضهنّ قبضة واحدة؛ يعني أن الأرضين مع عظمهن وبسطهنّ، لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته، كأنه يقبضها قبضة واحدة بكف واحد، وإذا أريد معنى القبضة فظاهر؛ لأن المعنى أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة؛ أي: ما عظموه حق تعظيمه، والحال أنه متصف بهذه الصفة، الدالة على كمال القدرة، التي هي غاية العظمة والجلال، فالأرض مع سعتها وبسطها في قبضة الرحمن يوم القيامة.

وقرأ الجمهور: برفع {قَبْضَتُهُ} على أنها خبر المبتدأ، وقرأ الحسن: بنصبها، ووجهه ابن خالويه بأنه على الظرفية؛ أي في قبضته، وقدم الأرض لمباشرتهم لها ومعرفتهم بحقيقتها، ولما كان في دار الدنيا من يدعي الملك والقهر والعظمة والقدرة دون دار الآخرة فالأمر فيها لله وحده ظاهرًا وباطنًا .. قال {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} اهـ "خطيب".

وفي "القرطبي": إنما خص يوم القيامة بالذكر، وإن كانت قدرته عامة وشاملة لدار الدنيا أيضًا؛ لأن الدعاوى تنقطع ذلك اليوم، كما قال:{وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} . انتهى.

(1) روح البيان.

(2)

النسفي.

ص: 73

وقوله: {وَالسَّمَاوَاتُ} مبتدأ {مَطْوِيَّاتٌ} خبره {بِيَمِينِهِ} متعلق بـ {مَطْوِيَّاتٌ} ؛ أي: مجموعات وملفوفات ومدرجات بيمينه تعالى يوم القيامة؛ أي: والسموات على سعتها وعظمها مطويات بيمينه، من طويت الشيء طيًّا؛ أي: أدرجته إدراجًا.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما السموات السبع والأرضون السبع في يد الله، إلا كخردلة في يد أحدكم.

والمعنى: أن الأرض جميعًا تحت ملكه يوم القيامة، يتصرف فيها كيف يشاء، ولا يتصرف فيها سواه، والسموات مطويات طي السجل للكتب، بقدرته التي لا يتعاصى معها شيء، وفي هذا رمز إلى أن ما يشركونه معه في الأرض أو في السماء مقهور تحت سلطانه جل شأنه، روى البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض".

وقال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله به نفسه في كتابه، فتفسيره تلاوته، والسكوت عليه، وقال ابن كثير: وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية، والطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف.

وقال بعضهم: المعنى: والأرض جميعًا قبضته تعالى، يقبضها بشماله يوم القيامة، والسموات مطويات يطويها بيمينه، بدليل مقابلة السماء بالأرض، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقبض الله السموات بيمينه، والأرضين بيده الأخرى، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك أين ملوك الأرض". وفيه إشعار بطلاق اسم الشمال على اليد الأخرى، وهما صفتان ثابتتان لله تعالى، نثبتهما ونعتقدهما بلا تكييف ولا تمثيل، وخص يوم القيامة بالذكر، وإن كانت قدرته شاملة؛ لأن الدعاوى تنقطع فيه، كما قال تعالى:{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} كما مر. وقرأ الجمهور (1): {مَطْوِيَّاتٌ} بالرفع، على أنها خبر المبتدأ، والجملة في محل نصب على الحال، كالتي قبلها، وقرأ عيسى والجحدري؛ بنصب {مطويات} ،

(1) البحر المحيط.

ص: 74