المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة فصلت سورة فصلت: وتسمى (1) سورة السجدة، وسورة حم السجدة، - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٥

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: ‌ ‌سورة فصلت سورة فصلت: وتسمى (1) سورة السجدة، وسورة حم السجدة،

‌سورة فصلت

سورة فصلت: وتسمى (1) سورة السجدة، وسورة حم السجدة، وسورة المصابيح: مكية، قال القرطبي: في قوله الجميع. وآيها: ثلاث أو أربع وخمسون آية. وكلماتها: سبع مئة وتسع وتسعون كلمةً. وحروفها: ثلاثة آلاف وثلاث مئة وخمسون حرفًا.

الناسخ والمنسوخ فيها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم - رحمه الله تعالى - في كتابه (2)"الناسخ والمنسوخ": سورة فصلت كلها محكمة، إلا آية واحدة، وهي قوله تعالى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} الآية (34) نسخت بآية السيف. اهـ.

مناسبتها لما قبلها: (3) أنهما اشتركتا في شيئين:

أحدهما: في تهديد قريش وتقريعهم، فقد توعدهم في السورة السابقة بقوله:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} إلخ. وهددهم هنا بقوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} .

وثانيهما: أن كلتيهما بُدِئت بوصف الكتاب الكريم.

وقال أبو حيان: مناسبة هذه السورة لما قبلها (4): أنه قال في آخر السابقة {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} إلى آخرها. فضمن وعيدًا وتهديدًا وتقريعًا لقريش، فأتبع ذلك التقريع والتوبيخ والتهديد بتوبيخ آخر، فذكر أنه نزل كتابًا مفصلًا آياته، بشيرًا لمن اتبعه، ونذيرًا لمن أعرض عنه، وأن أكثر قريش أعرضوا عنه، ثم ذكر قدرة الإله على إيجاد العالم العلوي والسفلي، ثم قال:{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} فكان هذا كله مناسبًا لآخر سورة المؤمن، من عدم انتفاع مكذبي الرسل حين التبس بهم العذاب، وكذلك قريش حل بصناديدها من القتل والأسر والنهب والسبي

(1) المراح.

(2)

الناسخ والمنسوخ.

(3)

المراغي.

(4)

البحر المحيط.

ص: 294

واستئصال أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حل بعاد وثمود من استئصالهم. انتهى.

ومن فضائلها: ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة السجدة أعطاه الله تعالى بكل حرف منها عشر حسنات" ذكره البيضاوي. ولكن لا أصل له.

ومما يدل على فضلها: ما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم، وصححه ابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في "الدلائل" وابن عساكر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: اجتمعت قريش يومًا فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا فليكلمه، ولينظر بم يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: ائته يا أبا الوليد، فأتاه فقال: يا محمد، أنت خير أم عبد الله، أنت خير أم عبد المطلب، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عتبة: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك .. فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم .. فتكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرًا، وأن في قريش كاهنًا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف، يا رجل، إن كان إنما بك الحاجة .. جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلًا، وإن كان إنما بك الباءة .. فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرغت قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} حتى بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} فقال عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا، قال:"لا" فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك، قال ما تركت شيئًا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته، قالوا: فهل أجابك قال: والذي نصبها بنيةً - يريد الكعبة - ما فهمت شيئًا مما قال، غير أنه أنذركم صاعقةً مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية وما تدري ما قال، لا والله ما فهمت شيئًا مما قال غير ذكر الصاعقة.

ومنه ما أخرجه أبو نعيم والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عمر قال: لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم علي بن ربيعة: {حم (1)} أتى أصحابه فقال: يا قوم، أطيعوني في هذا اليوم، واعصوني بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلامًا ما سمعت أذني

ص: 295

قط كلامًا مثله، وما دريْت ما أردّ عليه، وفي هذا الباب روايات كثيرة تدل على اجتماع قريش وإرسالهم عتبة بن ربيعة، وتلاوته صلى الله عليه وسلم أول هذه السورة عليه.

وعرض هذه السورة على عتبة بن ربيعة للرد عليهم مما يدل على فضلها وجزالتها وبلاغتها، وفي رواية أن عتبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعظم عليه أمر مخالفته لقومه، وليقبح عليه فيما بينَه وبينَه، وليبعد ما جاء به، فلما تكلم عتبة .. قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{حم (1)} ومر في صدرها حتى انتهى إلى قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} فأرعد الشيخ ووقف شعره، وأمسك على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وناشده بالرحم أن يمسك، وقال حين فارقه: والله لقد سمعت شيئًا ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي.

والله سبحانه وتعالى أعلم

* * *

ص: 296

بسم الله الرحمن الرحيم

{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)} .

ص: 297

المناسبة

المناسبة بين آخر السابقة وأول هذه السورة: أن السابقة ختمت بتهديد المعرضين عن آيات الله المكذبين بها، وهذه بدئت ببيان سبب إعراضهم بأن على قلوبهم أكنةً، وفي آذانهم وقر.

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ

} الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين (1) ما يذكر المشركون من الأسباب التي تحول بينهم وبين قبول دعوته .. أمر رسوله أن يجيب عن كلامهم بأنه لا يقدر على جبرهم على الإيمان، وحملهم عليه قسرًا، فإنه بشر مثلهم، ولا ميزة له عليهم، إلا بأن الله أوحى إليه ولم يودع إليهم.

ثم ذكر أن خلاصة الوحي علم وعمل، أما العلم فدعامته التوحيد، وأما العمل فأسُّه الاستغفار والتوبة مما فرط من الذنوب، ثم أردف ذلك بالتهديد لمن يشرك بالله، ولا يزكي نفسه من دنس الشح والبخل، وينكر البعث والجزاء والحساب يوم القيامة، وينصرف إلى الدنيا ولذاتها، وبعد أن ذكر وعيد الكفار أعقبه بوعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات، بأن لهم عند ربهم أجرًا دائمًا غير مقطوع ولا ممنوع.

قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ

} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه، لما أمر رسوله بأن يقول للمشركين: إن ما تلقيته بالوحي، أن إلهكم إله واحد، فاخلصوا له العبادة .. أردف هذا بما يدل على كمال قدرته وحكمته في خلق السموات والأرض، على أطوار مختلفة متعاقبة، وأكمل لكل منها ما هي مستعدة له، وزين السماء بالنجوم والكواكب الثوابت والسيارات، ولا عجب؛ فذلك تقدير العزيز الغالب على أمره، العلم بكل ما فيها، لا يخفى عليه شيء منهما، فكيف يسوغ لكم أن تجعلوا الأوثان والأصنام شركاء له، وليس لها شيء في خلقهما وتقديرهما تعالى عن ذلك.

قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً

} الآيات، مناسبتها لما

(1) المراغي.

ص: 298