المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

صاروا إليه من سوء العاقبة. ثمّ بيّن سبحانه أن تلك الأمم - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٥

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: صاروا إليه من سوء العاقبة. ثمّ بيّن سبحانه أن تلك الأمم

صاروا إليه من سوء العاقبة.

ثمّ بيّن سبحانه أن تلك الأمم كانوا فوق هؤلاء في الكثرة والقوة، فقال:{كَانُوا} ؛ أي: تلك الأمم {أَكْثَرَ} عددًا {مِنْهُمْ} ؛ أي: من قومك {قُوَّةً} في الأبدان والعدد {وَآثَارًا} باقية بعدهم {فِي الْأَرْضِ} من الأبنية والقصور والمصانع وهي جمع مصنعة بفتح النون وضمها شيء كالحوض يجمع فيه ماء المطر، ويقال له: الصهريج وأكثر بلاد العرب محتاجة إلى هذا لقلة الماء الجاري والآبار فيها؛ أي: كانوا أكثر منهم عددًا، وأقوى منهم أجسادًا، وأوسع منهم أموالًا، وأظهر منهم آثارًا في الأرض بالعمائر والمصانع والحرث {فَمَا أَغْنَى} ودفع {عَنْهُمْ}؛ أي: عن تلك الأمم المهلكة {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ؛ أي: كسبهم أو مكسوبهم من الأموال والأولاد شيئًا من عذاب الله تعالى حين جاءهم؛ فإذا لم تفدهم تلك المكنة العظيمة إلا الخبيبة والخسار .. فكيف هؤلاء الفقراء المساكين، ويجوز أن تكون {مَا} الأولى استقهامية؛ أي: أيّ شيء أغنى عنهم، أو نافية؛ أي: لم يغن عنهم، و {مَا} الثانية: يجوز أن تكون موصولة، وأن تكون مصدرية، وهذه {الفاء}؛ أعني: قوله: {فَمَا أَغْنَى} لبيان عاقبة كثرتهم وشدة قوتهم، وما كانوا يكسبون بذلك، زعمًا منهم أنَّ ذلك يغني عنهم، فلم يترتب عليه إلا عدم الإغناء، فهذا الاعتبار جرى مجرى النتيجة، وإن كان عكس الغرض ونقيض المطلوب، كما في قولك: وعظته فلم يتعظ؛ أي: لم يترتب عليه إلا عدم الاتعاظ، مع أنه عكس المتوقع.

وحاصل معنى الآية (1): أي أفلم يسر هؤلاء المجادلون في آيات الله من مشركي قريش في البلاد، فإنهم أهل سفر إلى الشام واليمن، فينظروا فيما وطئوا من البلاد إلى ما حلّ بالأمم قبلهم، ويشاهدوا ما أحللنا بهم من بأسنا حين تكذيبهم رسلنا، وجحودهم بآياتنا، وكيف كانت عاقبة أمرهم، وقد كانوا أكثر منهم عددًا، وأشد بطشًا، وأقوى جندًا، وأبقى في الأرض أثرًا؛ لأنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتًا، ويتخذون مصانع، ويبنون أهرامًا ضخمة، فلما جاءهم بأسنا، وحلّت بهم نقمتنا .. لم يغن ذلك عنهم شيئًا، ولا ردّ عنهم العذاب الذي حل بهم.

‌83

- و {الفاء} في قوله (2): {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} ؛ أي: بالمعجزات

(1) المراغي.

(2)

روح البيان.

ص: 273

والدلالات الواضحة تفسيرية وتفصيلية لما أبهم وأجمل من عدم الإغناء، إذ التفسير يعقب المفسّر، وقد كثر في الكلام مثل هذه الفاء ومبناها على التفسير بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ}؛ أي: أظهروا الفرح بذلك، واستحقروا علم الرسل، والمراد بعلمهم: ما لهم من العقائد الزائفة، والشبه الباطلة، كما قالوا: لا نبعث ولا نعذّب، وما أظنّ الساعة قائمة ونحو ذلك، وتسميتها علمًا مع أنّ الاعتقاد الغير المطابق للواقع حقّه أن يسمّى جهلًا؛ للتهكُّم بهم، فهي علم على زعمهم لا في الحقيقية، أو المراد: علمهم بأمور الدنيا، ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} .

فلما (1) جاءتهم الرسل بعلوم الديانات، وهي أبعد شيء من علمهم، لبعثها على رفض الدنيا، والإعراض عن الملاذّ والشهوات .. لم يلتفتوا إليها، وصغّروها واستهزؤوا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم، ففرحوا به، أو المراد: علم الفلاسفة والدهريين، وهو علم الطبائع والتنجيم، فإن الحكماء كانوا إذا سمعوا بوحي الله .. دفعوه، وصغّروا علم الأنبياء بالنسبة إلى علمهم، ويكتفون بما يكسبونه بنظر العقل، ويقولون: نحن قوم مهتدون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا، كما قال سقراط لما ظهر موسى عليه السلام: نحن قوم مهذّبون، لا حاجة بنا إلى من يهذّبنا، وكان أبو جهل يكنى في الجاهلية بأبي الحكم؛ لأنهم يزعمون أنه عالم ذو حكمة، فكناه النبيّ صلى الله عليه وسلم بأبي جهل، لأنه لو كان له علم حقيقة .. لآمن بالرسول عليه السلام، وقيل: الذين فرحوا بما عندهم من العلم هم الرسل، وذلك أنه لما كذّبهم قومهم .. أعلمهم الله تعالى بأنه مهلك الكافرين، ومنجي المؤمنين ففرحوا بذلك، أو المراد فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه، واستهزاء به، كأنه قال: استهزؤوا بالبينات وبما جاؤوا به من علم الوحي، فرحين به مرحين، ويدل عليه قوله:{وَحَاقَ بِهِمْ} ؛ أي: نزل بالكفار وأصحابهم {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} ؛ أي: وبال استهزائهم بالأنبياء، واستحقارهم لعلومهم، وما أخبروا به من العذاب ونحوه، فلم يعجزوا الله في مراده منهم.

والمعنى (2): أي فلما جاء هذه الأمم المكذّبة للرسل من أرسلوا إليهم بالأدلة

(1) النسفي.

(2)

روح البيان.

ص: 274