المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مبتدأ من الجانبين، بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٥

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: مبتدأ من الجانبين، بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة

مبتدأ من الجانبين، بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة المعبر عنها بالبين ولم يبق ثمة فراغ أصلًا، فيكون حجابًا قويًا عريضًا مانعًا من التواصل بخلاف ما لو قيل: بيننا وبينك، فإنه يدل على مجرد حصول الحجاب في المسافة المتوسطة بينهم وبينه من غير دلالة على ابتدائه من الطرفين، فيكون حجابًا في الجملة، لا كما ذكروا:

هذا فائدة زيادة من في قوله: {مِنْ بَيْنِنَا} شبهوا حال أنفسهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحال شيئين بينهما حجاب عظيم، يمنع من أن يصل أحدهما إلى الآخر ويراه ويوافقه، وإنما (1) اقتصروا على ذكر هذه الأعضاء الثلاثة؛ لأن القلب محل المعرفة، والسمع والبصر أقوى ما يتوسل إلى تحصيل المعارف، فإذا كانت هذه الثلاثة محجوبة .. كان ذلك أقوى ما يكون من الحجاب.

وقصارى ما يقولون (2): أن قلوبهم نابية عن إدراك ما جئت به من الحق وتقبله واعتقاده، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها، وأسماعهم لا يدخل إليها شيء منه، كأن بها صممًا، ولتباعد الدّينين وتباين الطريقين، كأن بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاب كثيف وحاجز منيع، ثم بارزوه بالخلاف، وشن الغارات الجدلية، بما لم يبق بعده مجال للوفاق، فقالوا:{فَاعْمَلْ} على دينك {إِنَّنَا عَامِلُونَ} على ديننا، وقال الكلبي (3): اعمل في هلاكنا، فإنا عاملون في هلاكك، وقال مقاتل: اعمل لإلهك الذي أرسلك، فإنا نعمل لآلهتنا التي نعبدها، وقيل: اعمل لآخرتك، فإنا عاملون لدنيانا، وقيل: فأعمل في إبطال أمرنا جهد طالتك، ونحن نعمل جاهدين في فض الناس من حولك، وتشتيت شمل من آمن بك، حتى تبطل دعوتك.

‌6

- ثم أمره سبحانه أن يجيب عن قولهم هذا فقال: {قُلْ} يا محمد، لهؤلاء المشركين، جوابًا لهم عما يقولون:{إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ؛ أي: إنما أنا كواحد منكم لولا الوحي، ولم أكن من جنس مغاير لكم حتى تكون قلوبكم في أكنة مما أدعوكم إليه، وفي آذانكم وقر، ومن بيني وبينكم حجاب، إلا أني يوحي إلى {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}؛ أي: ما إلهكم الذي يستحق العبادة منكم إلا إله واحد لا غيره،

(1) روح البيان.

(2)

المراغي.

(3)

الشوكاني.

ص: 304

وهذا تلقين للجواب عما ذكره المشركون.

وقرأ الجمهور: {قُلْ} على صيغة الأمر، وقرأ ابن وثاب والأعمش:{قال} بصيغة الماضي، وقرأ الجمهور:{يُوحَى} : بفتح الحاء مبنيًا للمفعول، وقرأ النخعي والأعمش:{يوحي} بكسرها مبنيًا للفاعل؛ أي: يوحي الله إلى.

والمعنى: أي إني لا أقدر على أن أحملكم على الإيمان قسرًا، فإني بشر مثلكم، ولا امتياز لي عنكم إلا أني أوحي إلى التوحيد والأمر به، فعلي البلاغ وحده، فإن قبلتم رشدتم، وإن أبيتم هلكتم.

وقبل المعنى (1): أني لست من جنس مغاير لكم، من ملك وجن حتى يكون بيني وبينكم حجاب وتباين مصحح لتباين الأعمال والأديان، كما ينبىء عنه قولكم:{فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} بل إنما أنا بشر وآدمي مثلكم، مأمور بما أمرتم به، حيث أخبرنا الله جميعًا بالتوحيد بخطاب جامع بيني وبينكم، فإن الخطاب في إلهكم محكي منتظم للكل، لا أنه خطاب منه صلى الله عليه وسلم للكفرة، كما في قوله:{مِثْلُكُمْ} ، وقد أوحي إلى دونكم، فصرت بالوحي نبيًا، ووجب عليكم اتباعي {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ}؛ أي: وجهوا استقامتكم وامتثالكم وطاعتكم إليه تعالى لا إلى غيره؛ أي: توجهوا إليه تعالى قلبًا وقالبًا، بالتوحيد وإخلاص العبادة، غير ذاهبين يمينًا وشمالًا (2)، ولا ملتفتين إلى ما يسول لكم الشيطان، من اتخاذ الأولياء والشفعاء؛ أي: توجهوا بالكلية إلى سبيلة لا إلى غيره، وهذا من جملة المقول (3)، و {الفاء}: لترتيب ما بعدها على ما قبلها، من إيحاء الوحدانية، فإن ذلك موجب لاستقامتهم إليه تعالى بالتوحيد، والإخلاص في الأعمال، وعدي فعل الاستقامة بإلى لتضمنه معنى توجهوا، والاستقامة: الاستمرار على جهة واحدة، وطريقة مستقيمة.

{وَاسْتَغْفِرُوهُ} تعالى مما كنتم عليه من الشرك وسوء العقيدة والعمل، وقال الحسن في معنى الآية: إن الله سبحانه علم رسوله صلى الله عليه وسلم كيف يتواضع بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ، ولهذا كان يعود المريض، ويشيع الجنازة، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد، وكان يوم قريظة والنضير على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه

(1) روح البيان.

(2)

النسفي.

(3)

روح البيان.

ص: 305