المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ووجه ذلك: أن {السموات} معطوفة على {وَالْأَرْضُ}، وتكون {قَبْضَتُهُ} خبرًا - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٥

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: ووجه ذلك: أن {السموات} معطوفة على {وَالْأَرْضُ}، وتكون {قَبْضَتُهُ} خبرًا

ووجه ذلك: أن {السموات} معطوفة على {وَالْأَرْضُ} ، وتكون {قَبْضَتُهُ} خبرًا عن {الأرضُ} {وَالسَّمَاوَاتُ} وتكون {مَطْوِيَّاتٌ} حالًا أو تكون {مطويات} منصوبة بفعل مقدر، و {بِيَمِينِهِ} الخبر.

ثم نزه سبحانه نفسه فقال: {سُبْحَانَهُ} ؛ أي: تنزيهًا له تعالى عن كل ما ينسبونه إليه من الصاحبة والولد، {وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}؛ أي: وترفع عن شركة ما يشركونه به من المعبودات التي يعبدونها ويجعلونها شركاء له، مع هذه القدرة العظيمة، والحكمة الباهرة، أي: ما أبعد وما أعلى من هذه قدرته وعظمته عن إشراكهم، أو عما يشركونه به من الشركاء، فما على الأول مصدرية، وعلى الثاني موصولة.

‌68

- {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} ؛ أي: نفخ إسرافيل في الصور النفخة الأولى، التي هي للإماتة، فالمراد بها: النخفة الأولى، بقرينة النفخة الآتية، التي هي للبعث، والنفخ: نفخ الريح في الشيء، يقال: نفخ بفمه: أخرج منه الريح.

والنفخ في القرآن على خمسة أوجه (1):

الأول: نفخ جبرائيل عليه السلام في حبيب مريم عليها السلام، كما قال تعالى:{فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} ؛ أي: نفخ جبرائيل في الجيب بأمرنا، فسبحان من أحبل رحم امرأة، وأوجد فيها ولدًا بنفخ جبرائيل.

والثاني: نفخ عيسى عليه السلام في الطين، كما قال تعالى:{فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} وهو الخفاش، فسبحان من حول الطين طيرًا بنفخ عيسى عليه السلام.

والثالث: نفخ الله تعالى في طين آدم عليه السلام، كما قال تعالى:{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} ؛ أي: أمرت الروح بالدخول فيه، والتعلق به، فسبحان من أنطق لحمًا، وأبصر شحمًا، وأسمع عظمًا، وأحيا جسدًا بروح منه.

والرابع: نفخ ذي القرنين الحديد في النار، كما قال تعالى حكاية عنه:{قَالَ انْفُخُوا} الآية، فسبحان من حول قطعة حديد نارًا بنفخ ذي القرنين.

(1) روح البيان.

ص: 75

والخامس: نفخ إسرافيل عليه السلام في الصور، كما قال تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} فسبحان من أخرج الأرواح من الأبدان بنفخ واحد، كما يطفأ السراج بنفخ واحد، وتوقد النار بنفخ واحد، وسبحان من ردّ الأرواح إلى الأبدان بنفخ واحد، وهذا كله دليل على قدرته التامة العامة.

والصور: قرن من نور، ألقمه الله تعالى إسرافيل، وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى، وله جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، والعرش على كاهله، وإن قدميه قد خرجتا من الأرض السفلى، حتى بعدتا عنها مسيرة مائة عام، على ما رواه وهب، وعظم دائرة القرن، مثل ما بين السماء والأرض، وفي "الدرة الفاخرة" للإمام الغزالي: الصور: قرن من نور، له أربع عشرة دائرة، الدائرة الواحدة كاستدارة السماء والاْرض، فيه ثقب بعدد أرواح الخلائق، وباقي ما يتعلق بالنفخ والصور قد سبق في سورة الكهف والنمل، فارجع.

وقرأ الجمهور (1): الصور، بسكون الواو، وقرأ قتادة وزيد بن علي: بفتحها، جمع صورة، قال ابن عطية: والصور هنا: القرن، ولا يتصور هنا غير هذا المعنى، ومن يقول: الصور: جمع صورة، فإنما يتوجه قوله في نفخة البعث، انتهى.

{فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} ؛ أي: خرَّ (2) وسقط ومات جميع من في السموات السبع، وجميع من في الأرضين السبعة؛ أي: خروا أمواتًا من الفزع وشدة الصوت.

وقرىء: {فصُعق} بضم الصاد، والاستثناء في قوله:{إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} متصل وهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام، فإنهم يموتون من بعد، قال السدي: وضم بعضهم إليهم ثمانية من حملة العرش، فيكون المجموع اثني عشر ملكًا، وآخرهم موتًا ملك الموت، وروى النقاش: أنه جبريل، كما جاء في الخبر: "إن الله تعالى يقول حينئذ: يا ملك الموت، خذ نفس إسرافيل، ثم يقول من بقي، فيقول: بقي جبريل وميكائيل وملك الموت، فيقول خذ نفس ميكائيل، حتى يبقى ملك الموت وجبرائيل، فيقول تعالى: مت يا ملك الموت، فيموت، ثم

(1) الشوكاني.

(2)

روح البيان.

ص: 76

يقول يا جبرائيل من بقي، فيقول: تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام، وجهك الدائم الباقي وجبرائيل الميت الفاني، فيقول: يا جبرائيل لا بد من موتك، فيقع ساجدًا يخفق بجناحيه، فيموت، فلا يبقى في الملك والملكوت حي من إنس وجن، وملك وغيرهم، إلا الله الواحد القهار".

وقال بعض المفسرين: المستثنى الحور والولدان وخزنة الجنة والنار وما فيهما؛ لأنهما وما فيهما خلقًا للبقاء، والموت لقهر المكلّفين، ونقلهم من دار إلى دار، ولا تكليف على أهل الجنة، فتركوا على حالهم بلا موت، وهذا الخطاب بالصعق: متعلق بعالم الدنيا، والجنة والنار عالمان بانفرادهما، خلقا للبقاء، فهما بمعزل عما خلق للفناء، فلم يدخل أهلهما في الآية، فتكون آية الاستثناء مفسرة لقوله:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه} و {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وغيرهما من الآيات، فلا تناقض. انتهى.

قلت: وليس في القرآن ولا في صحيح الأخبار ما يدل على تعيين من استثناهم الله تعالى من الصعق والفزع، ومن ثم قال قتادة: لا ندري من هم.

فإن قلت (1): فما الفرق بين الصعق الذي في هذه الآية، وبين الفزع الذي في آية النمل، وهي قوله تعالى {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} ؟

قلت: لا شك أن الصعق بمعنى الموت غير الفزع، وكذا بمعنى الغشي، إذ ليس كل من له فزع مغشيًا عليه، هذا ما تيسر لي في هذا المقام، والله أعلم باسرار كتابه.

{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ} ؛ أي: في الصور نفخة {أُخْرَى} ؛ أي: غير الأولى، وهي النفخة الثانية، وهي نفخة البعث، {فَإِذَا هُمْ}؛ أي: جميع الخلائق {قِيَامٌ} جمع قائم؛ أي (2): قائمون من قبورهم على أرجلهم أو متوقفون، فالقيام بمعنى الوقوف والجمود في مكانهم لتحيرهم {يَنْظُرُونَ}؛ أي يقلبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين أو ينتظرون ماذا يُفعلُ بهم وقيل: ينظرون إلى السماء، كيف غيرت،

(1) روح البيان.

(2)

روح البيان.

ص: 77

وإلى الأرض كيف بدلت، وإلى الداعي كيف يدعوهم إلى الحساب، وإلى الآباء والأمهات كيف ذهبت شفقتهم عنهم، واشتغلوا بأنفسهم، وإلى خصمائهم ماذا يفعلون بهم.

وقرأ الجمهور: {قِيَامٌ} بالرفع على أنه خبر و {يَنْظُرُونَ} ، في محل النصب على الحال وقرأ زيد بن علي بالنصب على أنه حال، والخبر {يَنْظُرُونَ} والعامل في الحال ما عمل في {إِذَا} الفجائية، قال الكسائي: كما تقول: خرجت فإذا زيد جالسًا.

قال في "المدارك"(1): دلت الآية على أن النفخة اثنتان، الأولى: للموت والثانية: للبعث، والجمهور على أنها ثلاث، الأولى للفزع، كما قال:{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ} ، والثانية: للموت، والثالثة: للإعادة، انتهى. فإن كانت النفخة اثنتين يكون معنى {فَصَعِقَ}: خروا أمواتًا، وإن كانت ثلاثًا يكون معناه: مغشيًا عليهم، فتكون هذه النفخة؛ أي: الثالثة بعد نفخة الإحياء يوم القيامة، كما ذهب إليه البعض، هذا والذي (2) يظهر من "خريدة العجائب" أن نفخة الفزع هي أول النفخات، فإنه إذا وقعت أشراط الساعة، ومضت .. أمر الله صاحب الصور أن ينفخ نفخة الفزع، ويديمها ويطولها فلا يبرح كذا عامًا يزداد الصوت كل يوم شدةً، فيفزع الخلائق، وينحازون إلى أمهات الأمصار، وتعطل الرعاة السوائم، وتأتي الوحوش والسباع، وهي مذعورة من هول الصيحة، فتختلط بالناس، ويؤول الأمر إلى تغير الأرض والسماء عما هما عليه، وبين نفخة الفزع والنفخة الثانية أربعون سنة، ثم تقع النفخة الثانية والثالثة، وبينهما أربعون سنة، أو شهرًا أو يومًا أو ساعة.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين النفختين أربعون، قالوا: أربعون يومًا" قال أبو هريرة: أبيت، قالوا: أربعون شهرًا، قال أبو هريرة: أبيت، قالوا: أربعون سنةً، قال: أبيت، ثم ينزل من السماء ماء فينبتون، كما ينبت البقل، وليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عظم واحد، وهو عجيب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة، متفق عليه.

(1) النسفي.

(2)

روح البيان.

ص: 78