الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانياً: جمع النظائر باعتبار
لا يخفى أن " الاعتبار" المذكور في (أولاً) وهو "الموضوع" اعتبارٌ (مطاط) قابل للتوسيع إلى ما شاء الله، كما أنه قابل للتضييق على حَدٍّ سواء، كما أن التوسيع والتضييق أمرٌ نسبي؛ فالضيقُ ضيقٌ بالنسبة لما هو أوسع منه، كما أن الواسع واسع بالنسبة لما هو أضيق منه!
وبالمثال يتبين المقال:
فقد ذكرنا في "أولاً" أن من يصنف في الفقه يَعْمَدُ إلى جمع مسائل تندرج تحت موضوع واحد هو: المسائل المتعلقة بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، وهذا التعريف ينطبق على كتاب «الإنصاف في معرفة الراجح من مذاهب الخلاف» لعلاء الدين على بن سليمان المرداوي المتوفى سنة (885هـ) مصحح مذهب الحنابلة ومنقحُه.
وهذا الكتاب من أوسع ما صُنِّفَ في المذهب الحنبلي لكونه استوعب ما أمكن من الروايات في المذهب، مع مصادرها، كما ضَمَّنهَ مُصنفُه ما سَبَقَ من أمهات كتب المذهب متناً وشرحاً وحاشيةً، بالإضافة إلى اختيارات الشيوخ المعتمدين في المذهب، كما حرر المذهب روايةً وتخريجاً وتصحيحاً، إلى آخر ما التزامه في مقدمته له (1) مما يقضي للكتاب بأنه من أوسع ما صُنِّفَ في جمع
(1)(1/ 15 - 27، ط. إحياء التراث).
النظائر الفقهية على مذهب الحنابلة على الإطلاق.
وبالمقارنة بين هذا الكتاب وبين نوعية أخرى من الكتب المصنفة في مذهبِ الحنابلة يتبين لنا بجلاء ما قدمناه من الكلام على الاتساع والضيق، بيان ذلك:
أن الحنابلة بعد أن فَرَّعُوا الفقه إلى المسائل الفرعية وألفوا في ذلك كتباً - جمع أكثرها المرداوي في «الإنصاف» كما تقدم - قاموا بإفراد بعض النظائر عن هذه الكتب:
1 -
فأفردوا لما فيه خلاف لأحد الأئمة فنًّا وسموه فن الخلاف، ويطلقون عليه أحياناً " المفردات".
2 -
وضموا المتناسبات فألحقوها بأصولٍ استنبطوها من فن أصول الفقه، وسموا فَنَّها بـ " القواعد".
3 -
وجعلوا للمسائل المشتبهة صورةً، المختلفة حكماً ودليلاً وعلةً، فناًّ، سموه بالفروق.
4 -
وعمدوا إلى الإحكام التي تتغير بتغير الأزمان، مما ينطبق على قاعدة المصالح المرسلة فأسسوها وسموها بالأحكام السلطانية.
5 -
ثم عمدوا إلى جمع الأحاديث التي يصح الاستدلال بها فجمعوها ورتبوها على أبواب كتب فقههم وسمُّوا ذلك فن الأحكام (1).
كما صنفوا في مسائل الألغاز في المذهب، وفي لغة فقهاء، والاختيارات الفقهية، وغير ذلك.
كما صنف الحنابلة كتباً مفردة في كلٍّ من الصلاة، والزكاة، والصيام،
(1) انظر " المدخل: لابن بدران (ص 230 - 231).
والمناسك، والنكاح، والأضاحي، والجهاد، والحسبة، والأحكام السلطانية، والبيوع، الطلاق، والفرائض، والرضاع، والجنايات، والحدود، وسائر كتب الفقه (1).
وكلُّ ما قدمناه من مصنفاتٍ في الفقه الحنبلي تندرج كذلك تحت موضوع واحد وهو جمع النظائر الفقهية على مذهب الحنابلة، إلا أنها افترقت باعتبار اتساع آلية الجمع لِتشملَ كلَّ شاردةٍ وواردةٍ في المذهب وعلى جميع أبواب الفقه كما فعل المرداوي في "الإنصاف"، وباعتبار تضييق آلية الجمع لتقتصر على جمع النظائر في "باب واحد من أبواب الفقه" أو الاقتصار على جمع مسائل وأحكام معينة كالاقتصار على جمع المسائل المشتبهة صورةً المختلفة حكماً، أو الأحكام التي تتغير بتغيُّر الأزمان كما تقدم.
ثم إن كتاب " الإنصاف" هذا الذي قدمنا أنه من أوسع ما صنف داخل المذهب لو قارنَّا بينه وبين كتاب "المغني" لا بن قدامه مثلاً، لوجدنا أن آلية "جمع النظائر" عند ابن قدامة قد تخطت حواجز المذهب ليجمع أقوال المذاهب المعتبرة الأخرى في كل مسألة مع سوق أدلتها وغير ذلك مما يحكم لكتاب المغني بأنه أوسع -من هذه الحيثية- من كتاب "الإنصاف"، فيكون كتاب الإنصاف أوسع بالنسبة لكتب الفروع والقواعد والمفردات في المذهب، وفي الوقت ذاته أضيق بالنسبة لكتاب المغني لابن قدامة.
ولعلَّهُ إلى هنا قد ظهر للقارئ الكريم بجلاء ما قدمناه من أن فن "جمع النظائر" فنُّ لا تنتهي
(1) انظر " المدخل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل"(ص2/ 826 - 892).
أنواعه ولا يُحَدُّ بحد، لارتباطه بآلية التوسيع والتضييق النسبية التي لا تنتهي.
وَحُذ -كتمرينٍ ذهني- مسألة: جمع المسائل التي اختلف فيها إمام من أئمة المذاهب مع غيره من أئمة الفقه ثم ضم النظير إلى نظيره لتخرجَ بكتابٍ من كتب "فن الخلاف".
ثم ضَيِّق آلية جمع النظائر لتكتفي بجمع المسائل التي اختلف فيها إمام المذهب مع إمامٍ واحد، كما فعل أبو يوسف القاضي في كتابه" اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى".
ثم وسع آلية جمع النظائر من جديد بجمع المسائل التي خالف فيها إمامُ المذهب فقهاء َمصر من الأمصار، كما فعل محمد بن الحسن في "الحجة على أهل المدينة".
أَوْ قُم بجمع المسائل الفقهية المتعلقة بكتاب الطهارة على مذهب الحنابلة مثلاً.
ثم وسع آلية الجمع بإضافة أقوال الشافعية.
ثم ضيق آلية الجمع لتكتفي بجمع المسائل الفقهية الخاصة بالغُسْلِ فقط.
ثم وسع آلية الجمع من جديد بإضافة كتاب الوضوء إلى كتاب الغسل.
وهكذا توسيع ثم تضييق ثم توسيع ثم تضييق إلى ما لا نهاية، في أي نوع من أنواع المصنفات وفي أي فنٍّ مِن الفنون.