الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[4] باب أهمية إعطاء الدعاة الأولوية
للعقيدة في دعوتهم والرد على من ادعى
أن مشكلة المسلمين اليوم مشكلة خُلُقية لا عقدية
[قال الإمام في مقدمة " مختصر العلو"]:
(إني) أعتب أشد العتب على الكُتَّاب الإسلاميين اليوم - إلا القليل منهم - الذين يكتبون عن الإسلام كل شيء ما عدا العقيدة السلفية والطريقة المحمدية، وأخص بالذكر منهم أولئك الذين يتولون توجيه النشء الجديد إلى الإسلام وتربيتهم بتربيته وتثقيفهم بثقافته، فإنهم لا يحاولون مطلقا أن يوحدوا مفاهيمهم حول الإسلام الذي اختلف فيه أهله أشد الاختلاف لا كما يظن بعض المغفلين منهم أو المتغافلين أن الخلاف بينهم في الفروع فقط دون الأصول، والأمثلة في ذلك كثيرة يعلمها من كان له دراسة في كتب الفرق أو كان على علم بأفكار المسلمين اليوم، ويكفينا الآن مثالا على ما نحن فيه من البحث ألا وهو علو الله على خلقه، فنحن تبعاً للسلف نؤمن بها قاطعين جازمين وغيرنا ينكرها أو يشك فيها تبعا للخلف والشك مما ينفي الإيمان بها قطعا ومع ذلك فنحن جميعا مؤمنون بالله
…
فأين المؤمن حقيقة؟ أما الجواب فهو معروف لدى كل طائفة وإن كنا لسنا في صدده وإنما الغرض إبطال تلك الخرافة في الفروع فقط، والنصح بتثقيف الشباب المسلم في دينه أصولا وفروعا على ضوء الكتاب والسنة ونهج السلف الصالح.
وإني لن أنسى - ما حييت - تلك المناقشة التي كانت جرت منذ نحو عشر سنين في المدينة المنورة بيني وبين أحد الخطباء والوعاظ الذين يحبون أن
يتصدروا المجالس ويستقلوا بالكلام فيها فقد دخل علينا ونحن في سهرة لطيفة جمعت نخبة طيبة من طلاب العلم من السلفيين أمثالي فلم يقم له أحد من الجالسين سوى صاحب الدار مُرحباً ومستقبلاً فصافح الشيخ الجالسين جميعاً واحداً بعد واحد مبتدئا بالأيمن فالأيمن فأعجبني ذلك منه حتى انتهى إلي وكنت آخرهم مجلساً ولكني رأيت وقرأت في وجهه عدم الرضى بتركهم القيام له فأحببت أن ألطف وقع ذلك عليه فبادرته متلطفاً معه بقولي وهو يصافحني: عزيز بدون قيام يا أستاذ كما يقولون عندنا بالشام في مثل هذه المناسبة، فأجاب وهو يجلس وملامح الغضب بادية عليه - بما معناه:
لا شك أن القيام للداخل إكراماً وتعظيماً ليس من السنة في شيء وأنا موافق لك على ذلك، ولكننا في زمن أحاطت فيه الفتن بالمسلمين من كل جانب وهي فتن تمس الإيمان والعقيدة في الصميم. ثم أفاض في شرح ذلك وذكر الملاحدة والشيوعيين والقوميين وغيرهم من الكافرين فيجب أن نتحد اليوم جميعنا لمحاربة هؤلاء ودفع خطرهم عن المسلمين وأن ندع البحث والجدال في الأمور الخلافية كمسألة القيام والتوسل ونحوهما.
فقلت: رويدك يا حضرة الشيخ فإن لكل مقام مقالاً، فنحن الآن معك في مثل هذه السهرية الأخوية لم نجتمع فيها لبحث خاص ولا لوضع الخطة لمعالجة المسائل الهامة من الرد على الشيوعيين وغيرهم، وأنت ما كدت تجلس بعد، ثم إن طلبك ترك البحث في الأمور الخلافية هكذا على الإطلاق لا أظنك تقصده؛ لأن الخلاف يشمل حتى المسائل الاعتقادية وحتى في معنى شهادة أن لا إله إلا الله، فأنت تعلم أن أكثر المشايخ اليوم يجيزون الاستغاثة بغير الله تعالى، والطلب من الأموات، وذلك مما ينافي معنى شهادة التوحيد عندنا جميعا - أشير إلى أنه
في هذه المسألة معنا - فهل تريدنا أن لا نبحث حتى في تصحيح معنى الشهادة بحجة أن المسألة فيها خلاف؟ قال: نعم. حتى هذا يجب أن يترك موقتا في سبيل تجميع الصفوف وتوحيد الكلمة لدرء الخطر الأكبر: الإلحاد و
…
قلت: وماذا يفيد مثل هذا التجمع - لو حصل - إذا لم يقم على أساس التوحيد وعدم الإشراك بالله عز وجل. وأنت تعلم أن العرب في الجاهلية كانوا يؤمنون بالله تعالى خالقاً ولكنهم كانوا يكفرون بكونه الإله الحق (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) فلم يفدهم إيمانهم ذلك شيئاً ولم ينجهم من محاربة الرسول إياهم. فقال: نحن نكتفي اليوم بجمع الناس تحت كلمة لا إله إلا الله. قلت: ولو بمفهوم خاطئ؟ قال: ولو.
أقول: فهذه المناقشة تمثل لنا في الحقيقة واقع كثير من الدعاة المسلمين اليوم وموقفهم السلبي تجاه تفرق المسلمين في فهمهم للدين فإنهم يدعون كل من ينتمي إليهم على أفكاره وآرائه دون أن يحملوهم بالعلم والحجة من الكتاب والسنة على توحيدها وتصحيح الخطأ منها وجل اهتمامهم إنما هو في توجيههم إلى الأخلاق الإسلامية، وآخرون منهم لا شغل لهم إلا تثقيف أتباعهم بالسياسة والاقتصاد ونحو ذلك مما يدور عليه كلام أكثر الكُتاب اليوم حوله ونرى فيهم من لا يقيم الصلاة ومع ذلك فهم جميعاً يسعون إلى إيجاد المجتمع الإسلامي وإقامة الحكم الإسلامي. وهيهات هيهات! إن مجتمعا كهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا بدأ الدعاة بمثل ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الدعوة إلى الله حسبما جاء في كتاب الله وبينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن البديهي أن مثل هذه الدعوة لا يمكن النهوض بها بعدما دخل فيها ما
ليس منها من طريق الدس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسم الحديث، والدس على تفسير القرآن باسم التأويل، فلا بد من الاهتمام الجدي العلمي لتصفية المصدرين المذكورين مما دخل فيهما لنتمكن من تصفية الإسلام من مختلف الأفكار والآراء والعقائد المنتشرة في الفرق الإسلامية حتى ممن ينتسب إلى السنة منهم.
وأعتقد أن كل دعوة لا تقوم على هذا الأساس الصحيح من التصفوية فسوف لا يكتب لها النجاح اللائق بدين الله الخالد.
ولقد تنبه لهذا أخيرا بعض الدعاة الإسلاميين فهذا هو الأستاذ الكبير سيد قطب - رحمه الله تعالى - فإنه بعد أن قرر تحت عنوان (جيل قرآني فريد) أن هذه الدعوة أخرجت جيلاً مميزاً في تاريخ الإسلام كله وفي تاريخ البشرية جميعه وأنها لم تعد تخرج من ذلك الطراز مرة أخرى؛ تساءل عن السبب مع أن قرآن
هذه الدعوة لا يزال وحديث الرسول وهديه العملي وسيرته الكريمة كلها بين أيدينا كما كانت بين يدي ذلك الجيل الأول ولم يغب إلا شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فأجاب بأنه:
"لو كان وجود شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتمياً لقيام الدعوة وإيتائها ثمراتها ما جعلها الله دعوة للناس كافة وما جعلها آخر رسالة وما وكل إليها أمر الناس في هذه الأرض إلى آخر الزمان".
ثم نظر في سبب عدم تكرر المعجزة عدة عوامل طرأت أهمها ما أشرنا إليه من اختلاف في طبيعة النبع فقال:
"كان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن القرآن وحده فما كان حديث رسول الله وهديه إلا أثرا من آثار ذلك النبع فعندما سئلت عائشة رضي
الله عنها عن خلق رسول الله قالت: "كان خلقه القرآن"(1)، كان القرآن وحده إذن هو النبع الذي يستقون منه ويتكيفون به ويتخرجون عليه، ولم يكن ذلك كذلك لأنه لم يكن للبشرية يومها حضارة ولا ثقافة ولا علم ولا مؤلفات ولا دراسات؛ كلا فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوربا تعيش عليه أو على امتداده. وكانت هناك مخلفات الحضارة الإغريقية ومنطقها وفلسفتها وفنها وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم، وكانت هناك حضارة الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها كذلك وحضارات أخرى قاصية ودانية: حضارة الهند وحضارة الصين إلخ. وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تحفان بالجزيرة العربية من شمالها ومن جنوبها. كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة فلم يكن إذن عن فقر في الحضارات العالمية والثقافات العالمية يقصر ذلك الجيل على كتاب الله وحده .. في فترة تكونه
…
وإنما كان ذلك عن تصميم مرسوم ونهج مقصود. يدل على هذا القصد غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد رأى في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحيفة من التوراة وقوله:
«إنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني» (2).
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد صنع جيل خالص القلب، خالص العقل، خالص التصور، خالص الشعور، خالص التكوين من أي مؤثر آخر غير المنهج الإلهي
(1) أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد عنها. [منه].
(2)
قلت: هو حديث حسن أخرجه الدارمي وأحمد وغيرهما وقد خرجته في " إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل "(1589). [منه].
الذي يتضمنه القرآن الكريم ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد ثم ما الذي حدث؟
اختلطت الينابيع صبت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم وأساطير الفرس وتصوراتهم وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم وعلم الكلام كما اختلط بالفقه والأصول أيضاً، وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل فلم يتكرر ذلك الجيل أبداً ".
ثم ذكر رحمه الله عاملين آخرين ثم قال (ص 17):
" نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم. كل ما حولنا جاهلية .. تصورات الناس وعقائدهم عاداتهم وتقاليدهم موارد ثقافتهم فنونهم وآدابهم شرائعهم وقوانينهم. حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية وتفكيراً إسلامياً
…
هو كذلك من صنع هذه الجاهلية، لذلك لا تستقيم قيم الإسلام في نفوسنا ولا يتضح تصور الإسلام في عقولنا ولا ينشأ فينا جيل ضخم من الناس من ذلك الطراز الذي أنشأه الإسلام أول مرة.
فلابد إذن في منهج الحركة الإسلامية: أن نتجرد في فترة الحضانة والتكوين من كل مؤثرات الجاهلية التي نعيش فيها ونستمد منها، لا بد أن نرجع ابتداء إلى النبع الخالص الذي استمد منه أولئك الرجال، النبع المضمون الذي لم يختلط ولم تشبه شائبة نرجع إليه نستمد منه تصورنا لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني ولكافة الارتباطات بين هذين الوجودين وبين الوجود الكامل الحق: وجود الله سبحانه
…
ومن ثم نستمد تصوراتنا للحياة وقيمنا وأخلاقنا ومفاهيمنا
للحكم والسياسة والاقتصاد وكل مقومات الحياة.
ثم لا بد لنا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي والتصورات الجاهلية والتقاليد الجاهلية والقيادة الجاهلية في خاصة نفوسنا
…
ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي ولا أن ندين بالولاء له فهو بهذه الصفة
…
صفة الجاهلية
…
غير قابل لأن نصطلح معه. إن مهمتنا أن نغير من أنفسنا أولا لنغير هذا المجتمع أخيراً.
وسنلقى في هذا عنتا ومشقة وستفرض علينا تضحيات باهظة ولكننا لسنا مخيرين إذا نحن شئنا أن نسلك طريق الجيل الأول الذي أقر الله به منهجه الإلهي ونصره على منهج الجاهلية "
من أجل ذلك كان لا بد للعاملين من أجل الدعوة الإسلامية أن يتعاونوا جميعاً على الخلاص من كل ما هو جاهلي مخالف للإسلام ولا سبيل إلى ذلك إلا بالرجوع إلى الكتاب والسنة كما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض» (1). فإذا هم فعلوا ذلك فقد وضعوا الأساس لقيام المجتمع الإسلامي وبدونه لا يمكن أن تكون لهم قائمة أو تنشأ لهم دولة مسلحة.
وإني لأعجب أشد العجب من بعض الكتاب والدكاترة الذين يؤلفون في معالجة بعض أمراض النفوس كمؤلف رسالة " باطن الإثم الخطر الأكبر في حياة المسلمين " ثم لا يقنع بذلك حتى يكشف عن جهل كبير بالخطر الحقيقي الذي يحيط بالمسلمين وهو ما أشار إليه الأستاذ سيد قطب - رحمه الله تعالى - في
(1)"صحيح الجامع"(رقم2937).
كلامه المتقدم، فإن الدكتور المشار إليه لم تعجبه هذه الحقيقة فأخذ يغمز منها ومن المذكر بها تحت عنوان له في الرسالة المذكورة (ص 85):
"مشكلتنا أخلاقية وليست فكرية ". قال:
" ومعنى كل هذا الذي ذكرناه أننا نعاني من مشكلة تتعلق بالخلق والوجدان وليس لها أي تعلق بالقناعة أو الفكر "
كذا قال ثم تعجب من الناس الذين يشعرون بمشكلته ويتنبهون إلى ما سماه بالخطر الأكبر في حياة المسلمين ولكنهم بدلاً من أن يعالجوه بالسبل التي ذكرها هو في رسالته يعالجونه بمزيد من الأبحاث الفكرية
…
ثم قال مشيرا إلى كلام سيد قطب رحمه الله:
" فماذا يجدي أن نسهب في شرح (المجتمع الجاهلي) أو نتفنن في كشف المخططات العدوانية التي يسير عليها أعداء الإسلام وأرباب الغزو الفكري، أو نهتم بعرض المزيد من منهجية الفكر الإسلامي والدعوة الإسلامية وأن البلاء الذي يعانيه المسلمون ليس الجهل بشيء من هذا كله (!) وإنما هو المرض العضال الذي يستحكم بنفوسهم، ليس بالمسلمين حاجة بعد اليوم إلى أي مزيد من هذه الدراسات الفكرية؛ فالمسلمون على اختلاف ثقافاتهم أصبحوا يملكون من الوعي في هذه النواحي ما يتيح لهم الحصانة الكافية لو أن الأمر كان موكولاً إلى الوعي وحده وإنما هم بحاجة بعد اليوم إلى القوة الهائلة التي تدفع إلى التنفيذ، وهيهات أن يكون أمر التنفيذ بيد الفكر أو العقل وحده، والقوة الهائلة التي يحتاجوها إنما هي قوة الأخلاق ".
هكذا يقول الدكتور العليم (!) وفي كلامه من المغالطات والخطيئات ما لا
يتسع المجال لبسط القول في بيانها فإن أحداً من الإسلاميين لا يتصور أن يقول: أن الوعي والفكر وحده يكفي لحل المشكلة خلافاً لما أوهمه كلامه، ولكن المشكلة التي أنكرها الدكتور هي الأصل لقوة الأخلاق ألا وهو الإيمان والتوحيد الصحيح والعقيدة الصحيحة، ولذلك كانت الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم أول ما يبدؤون من الدعوة إنما هو توحيد الله عز وجل فلم يكونوا يعالجون بادئ الأمر المشاكل الأخلاقية ولا الاقتصادية وغير ذلك مما افتتن بمعاجلته كثير من الكتاب اليوم مع الغفلة عن المشكلة الأساسية وهي انحراف الكثير من المسلمين اليوم وما قبل عن العقيدة الصحيحة، ولكتب الكلام التي يسمونها بكتب التوحيد ضلع كبير في ذلك.
وأنا أسأل الدكتور العليم سؤالاً واحداً: هل يمكن لفرد أو أفراد أو جماعة أو أمة أن يحظوا بالقوة الهائلة التي يحتاجونها اليوم وهي قوة الأخلاق إذا كانت عقيدتهم غير صحيحة؟ فإذا أجاب بعدم الإمكان، فنسأله فهل الذي يعلمه هو أن هناك أمة مسلمة لا تزال عقيدتهم صحيحة كما كانت عليه في عهد السلف على الرغم من أن فيهم من هو على عقيدة المعتزلة النفاة والجبرية وغلاة المتصوفة الذي منهم اليوم وفي بلدنا خاصة من يقول بأن المسلم ليس بحاجة إلى أن يتعلم الكتاب والسنة والعلوم التي تساعد على فهمهما، وإنما يكفي في ذلك تقوى الله ويحتجون من القرآن بما هو حجة عليهم لو كانوا يعلمون كقوله تعالى:{واتقوا الله ويعلمكم الله} ، وبناء على ذلك ينكرون كثيراً من الحقائق الشرعية كالشفاعة الثابتة للأنبياء والرسل وبخاصة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ونزول عيسى، وخروج الدجال، وغير ذلك كثير، وفي مصر والهند أناس يسمون بالقرآنيين الذين يفسرون القرآن دون الاستعانة على تفسيره بأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأقوال الصحابة والتابعين والأئمة
المجتهدين بل وبدون التزام للقواعد العلمية العربية؟
فإن أجاب الدكتور بأن عقيدة المسلمين اليوم هي كما كانت في عهد السلف، فنسأله هل هذا الذي ذكرته من العقائد الباطلة موجود اليوم وفي بلده خاصة؟ فإن أجاب بالإيجاب كما هو الظن به فيكف يتجرأ على القول المتقدم:"ليس بالمسلمين حاجة بعد إلى أي مزيد من هذه الدراسات الفكرية، فالمسلمون اليوم على اختلاف ثقافاتهم أصبحوا يملكون من الوعي في هذه النواحي ما يتيح لهم الحصانة الكافية "
وإذا كابر وجحد ورجع إلى القول بأن المسلمين فيهم الخير والبركة من هذه الحيثية سقطت مخاطبته لأن الأمر كما قال الشاعر:
وليس يصح في الأذهان شيء
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
وأخيرا لا بد من أن أوجِّه إلى حضرة الدكتور السؤال الذي يكشف له إن شاء الله عن خطئه الذي وضع له ذلك العنوان الخاطئ إن كان لم يتبين له حتى الآن، نحن نسألك بسؤال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للجارية: أين الله؟ فإن أجبت بالجواب الذي نؤمن به وجعله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دليل إيمان الجارية ألا وهو قولنا: في السماء، وفهمه على الوجه الذي فهمه السلف أنه تبارك وتعالى على العرش، فقد أصبت الحق واتفقت معنا في هذه المسألة التي علاقتها بالأفكار والعقائد وليس بالأخلاق، ولكنك في الوقت نفسه خالفت جماهير المسلمين حتى المشايخ والأساتذة والدكاترة الذين درست عليهم الشريعة فإنهم لا يوافقونك على هذا الجواب الحق وما عهدك بالكوثري وأبي زهرة ببعيد.
وإن أنت أنكرت توجيه هذا السؤال الذي سنه لنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأبيت أن
تجيب عليه بجواب إيجابي، أو أجبت بجواب المعتزلة: الله موجود في كل مكان. وهذا معناه القول باتحاد الخالق والمخلوق وهو الكفر بعينه أو تجيب بما في " الجوهرة " وحاشيتها وغيرها من كتب الكلام التي درستها وتثقفت بثقافتها حتى " أصبحت تملك من الوعي ما ينسج لك الحصانة الكافية " فقد خالفت الكتاب والسنة وإجماع الأمة كما سبق أن أشرنا إلى بعض النقول عن بعض الأئمة الموثوق بهم عندنا جميعاً، ونحن على مذهبهم في ذلك، وباختصار فسواء كنت معنا أو ضدنا في هذه العقيدة فكل من الطائفتين يمثل ملايين المسلمين منذ مئات السنين حتى اليوم وفي الطائفة التي تؤمن بالسؤال والجواب الوارد في الحديث المشار إليه آنفا شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقق ابن قيم الجوزية وجميع إخواننا الحنابلة اليوم الذين هم من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكل من الطائفتين هم بلا شك مما يشملهم ظنك الواسع الذي عبرت عنه بقولك في الرسالة السابقة (ص 9): " وما أظن إلا أننا جميعا مؤمنون بالله إلها واحدا لا شريك له بيده الخير
…
) وأما أنا فأعتقد أن كلا من الطرفين إذا تمسك بآداب الإسلام سيقول بلسان حاله أو قاله للطائفة المخالفة: {وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} .
والدكتور يعلم فيما أعتقد أن إحدى الطائفتين أيا كانت فهي على ضلالة وليس هي بلا شك من حيث الخُلُق وإنما من جهة الفكرة والعقيدة، وكلٌّ من الطائفتين يمثل ملايين المسلمين اليوم في هذه المسألة وغيرها من مسائل الاعتقاد أفليس هؤلاء المختلفون بحاجة يا دكتور إلى الدراسات الفكرية ولا أقول كما قلت:" إلى مزيد من الدراسات الفكرية "؛ لأن الإنسان العاقل يطمع في المزيد عندما يجد المزيد عليه، فيكف وهو مفقود أو في حكم المفقود، فهو يطمع فيه ثم في المزيد عليه، أليس هؤلاء جميعاً بحاجة ملحة إلى تلك الدراسات حتى يتبين