الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"الإحكام في أصول الأحكام".
"وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة"(ص3).
[48] باب نقض القول برد حديث الآحاد في العقيدة من وجوه عِدة
[قال الإمام]:
ذهب بعضهم إلى أنه لا تثبت العقيدة إلا بالدليل القطعي، بالآية أو الحديث المتواتر تواتراً حقيقياً، إن كان هذا الدليل لا يحتمل التأويل، وادعى أن هذا مما اتُفِق عليه عند علماء الأصول، وأن أحاديث الآحاد لا تفيد العلم (1)، وأنها لا تثبت بها عقيدة (2)!
وأقول: إن هذا القول وإن كنا نعلم أنه قد قال به بعض المتقدمين من علماء الكلام، فإنه منقوض من وجوه عديدة:
الوجه الأول: أنه قول مبتدع محدث، لا أصل له في الشريعة الإسلامية الغراء، وهو غريب عن هدي الكتاب وتوجيهات السنة، ولم يعرفه السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، ولم ينقل عن أحد منهم، بل ولا خطر لهم على بال! ومن المعلوم المقرر في الدين الحنيف: أن كل أمر مبتدع من أمور الدين باطل مردود،
(1) قلت: ومعنى ذلك عندهم: أنه يمكن أن يكون كذباً أو خطأً! [منه].
(2)
ومما ينبغي أن يُنتبه له: أن المراد بحديث الآحاد الحديث الصحيح، ولو جاء من عدة طرق صحيحة، لكنها لم تبلغ درجة التواتر؛ فمثل هذا الحديث يرده هؤلاء ولا يقبلونه في العقيدة! وللاطلاع على أهم التعريفات الحديثية المتعلقة بهذا الموضوع؛ راجع مقدمة رسالتنا السابقة «الحديث حجة بنفسه» [منه].
لا يجوز قبوله بحال.
الوجه الثاني: أن هذا القول يتضمن عقيدةً تستلزم رد مئات الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم لمجرد كونها في العقيدة، وهذه العقيدة: هي أن أحاديث الآحاد لا تثبت بها عقيدة، وإذا كان الأمر كذلك عند هؤلاء المتكلمين وأتباعهم، فنحن نخاطبهم بما يعتقدونه، فنقول لهم:
أين الدليل القاطع على صحة هذه العقيدة لديكم من آية أو حديث متواتر: قطعي الثبوت قطعي الدلالة أيضاً، بحيث إنه لا يحتمل التأويل؟
الوجه الثالث: أن هذا القول مخالف لجميع أدلة الكتاب والسنة التي نحتج نحن وإياهم جميعاً بها على وجوب الأخذ بحديث الآحاد في الأحكام الشرعية، وذلك لعمومها وشمولها لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ربه، سواء كان عقيدة أو حكماً.
الوجه الرابع: أن القول المذكور ليس فقط لم يَقُلْ به الصحابة، بل هو مخالف لما كانوا عليه رضي الله عنهم، فإننا على يقين أنهم كانوا يجزمون بكل ما يحدث به أحدهم عن حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يقل أحد منهم لمن حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خبرك خبر واحد لا يفيد العلم حتى يتواتر.
الوجه الخامس: قال الله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أُنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) (المائدة:67)، وقال: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} (النور:54)، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«بلغوا عني» متفق عليه، وقال لأصحابه في الجمع الأعظم يوم عرفة:«أنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، رواه مسلم.
ومعلوم أن البلاغ: هو الذي تقوم به الحجة على المبلَّغ، ويحصل به العلم، فلو كان خبر الواحد لا يحصل به العلم لم يقع به التبليغ الذي تقوم به حجة الله على العبد، فإن الحجة إنما تقوم بما يحصل به العلم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرسل الواحد من أصحابه يبلِّغ عنه، فتقوم الحجة على من بلغه، وكذلك قامت حجته علينا بما بلغنا العدولُ الثقات من أقواله وأفعاله وسنته، ولو لم يفد العلم، لم تقم علينا بذلك حجة، ولا على من بلغه واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو دون عدد التواتر، وهذا من أبطل الباطل.
الوجه السادس: أننا نعلم يقيناً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث أفراداً من الصحابة إلى مختلف البلاد ليعلِّموا الناس دينهم، كما أرسل علياً ومعاذاً وأبا موسى إلى اليمن في نوبات مختلفة، ونعلم يقيناً أيضاً أن أهم شيء في الدين إنما هو العقيدة، فهي أول شيء كان أولئك الرسل يدعون الناس إليه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ:«إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل» وفي رواية: «فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله» ، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات .... ) الحديث متفق عليه، واللفظ لمسلم.
فقد أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يبلغهم قبل كل شيء عقيدة التوحيد، وأن يعرفهم بالله عز وجل، وما يجب له وما ينزه عنه، فإذا عرفوه تعالى بلغهم ما فرض الله عليهم، وذلك ما فعله معاذ يقيناً، فهو دليل قاطع على أن العقيدة تثبت بخبر الواحد، وتقوم به الحجة على الناس، ولولا ذلك لما اكتفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإرسال معاذ وحده وهذا بين ظاهر، والحمد لله.
الوجه السابع: أن القول المذكور يستلزم تفاوت المسلمين فيما يجب عليهم اعتقاده، مع بلوغ الخبر إليهم جميعاً، وهذا باطل أيضاً.
الوجه الثامن: ومِن لوازمه -أيضاً- إبطال الأخذ بالحديث مطلقاً في العقيدة من بعد الصحابة الذين سمعوه منه صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة، وهذا كالذي قبله في البطلان،
بل أظهر.
الوجه التاسع: إذا كان من الواجب قبول قول المحدث الواحد في الحديث: إنه متواتر، وهو يستلزم الأخذ به في العقيدة، فكذلك يجب الأخذ بحديث كل محدث ثقة، وإثبات العقيدة به، ولا فرق.
والتعليل باحتمال أن يكون وَهِمَ أو نسي أو كَذب في واقع الأمر -وإن كان ظاهره الثقة والعدالة- يقال مثله في المختص الذي قال بتواتر الحديث، ولا فرق أيضاً، فإما أن يصدق كل منهما فيما أخبر به، وإما أن لا يصدقا! والثاني باطل، فثبت الأول، وهو المراد.
الوجه العاشر: أن التصديق في مبدأ الأمر -وإن كان اختيارياً- ولذلك يقال للإنسان: صدِّق أو لا تُصدق-، ولكن المصدِّق حين يثق بالراوي يجد نفسه مقسورة على تصديقه، بحيث إنه لا يمكنه أن يكذبه أو يشك في خبره، كما يجد ذلك كل واحد منا مع صديقه الذي يثق به.
وحينئذٍ فتكليف المصَدِّقِ بوجوب تصديق الراوي الذي يثق به في الأحكام دون العقيدة هو أشبه شيء بالقول بـ: (تكليف ما لا يطاق).
الوجه الحادي عشر: أن التفريق بين العقيدة والأحكام العملية، وإيجاب الأخذ بحديث الآحاد في هذه دون تلك إنما بني على أساس أن العقيدة لا يقترن معها عمل، والأحكام العملية لا يقترن معها عقيدة، وكلا الأمرين باطل!
الوجه الثاني عشر: أن القائلين بهذه العقيدة الباطلة لو قيل لهم: إن العكس
هو الصواب، لما استطاعوا رده، فإنه من الممكن أن يقال: لما كان كل من العقيدة والعمل يتضمن أحدهما الآخر، فالعقيدة يقترن معها عمل، والعمل يقترن معه عقيدة على ما سبق بيانه آنفاً، ولكن بينهما فرقاً واضحاً من حيث أن الأول إنما هو متعلق بشخص المؤمن، ولا ارتباط له بالمجتمع، بخلاف العمل، فإنه مرتبط بالمجتمع الذي يحيا فيه المؤمن ارتباطاً وثيقاً، فيه تستحل الفروج المحرمة في الأصل، وتستباح الأموال والنفوس، فالأمور العملية من هذه الوجهة أخطر من الأمور الاعتقادية.
الوجه الثالث عشر: أن طرد قولهم بهذه العقيدة، وتبنيها دائماً، يستلزم تعطيل العمل بحديث الآحاد في الأحكام العملية أيضاً، وهذا باطل لا يقولون هم أيضاً به، وما لزم منه باطل فهو باطل.
الوجه الرابع عشر: أن دعوى اتفاق الأصوليين على ذلك القول دعوى باطلة، وجرأة زائدة، فإن الاختلاف معروف في كتب الأصول وغيرها، وبعض الكُتاب اليوم إنما قلد في ذلك بعض المعاصرين الذي لا يتثبتون فيما ينقلون، وإلا فكيف يصح الاتفاق المذكور، وقد نص على أن خبر الواحد يفيد العلم: الإمام مالك والشافعي، وأصحاب أبي حنيفة، وداود بن علي وأصحابه، كابن حزم (1)، ونص عليه الحسين بن علي الكرابيسي، والحارث بن أسد المحاسبي؟!
الوجه الخامس عشر: هب جدلاً أن الاتفاق المزعوم صحيح، ولكنه ليس على إطلاقه عند الأصوليين، بل هو مقيد بما إذا لم يكن هناك ما يشهد له.
(1) واحتج له بحجج كثيرة قوية، لا تجدها في كتاب آخر من كتب الأصول؛ فراجع «إحكام الأحكام» له (1/ 119 - 138)[منه].
الوجه السادس عشر: على أن هذا الاختلاف مسبوق بانعقاد الإجماع المعلوم المتيقن على قبول هذه الأحاديث، وإثبات صفات الرب تعالى والأمور العلمية الغيبية بها. قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
"فهذا لا يشك فيه من له خبرة بالمنقول، فإن الصحابة هم الذين رووا هذه الأحاديث، وتلقاها بعضهم عن بعض بالقبول، ولم ينكرها أحد منهم على من رواها، ثم تلقاها عنهم جميع التابعين من أولهم إلى آخرهم، ومن سمعها منهم تلقاها بالقبول والتصديق لهم، ومن لم يسمعها منهم تلقاها عن التابعين كذلك، وكذلك تابع التابعين مع التابعين، هذا أمر يعلمه ضرورة أهل الحديث، كما يعلمون عدالة الصحابة وصدقهم وأمانتهم ونقلهم ذلك عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم كنقلهم الوضوء والغسل من الجنابة، وأعداد الصلوات وأوقاتها، ونقل الأذان والتشهد والجمعة والعيدين، فإن الذين نقلوا هذا هم الذين نقلوا أحاديث الصفات، فإن جاز عليهم الخطأ والكذب في نقلها، جاز عليهم ذلك في نقل غيرها مما ذكرناه، وحينئذٍ فلا وثوق لنا بشيء نقل لنا عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم البتة، وهذا انسلاخ من الدين والعلم والعقل، على أن كثيراً من القادحين في دين الإسلام قد طردوه، وقالوا: لا وثوق لنا بشيء البتة، (قال): فهؤلاء أعطوا الانسلاخ من السنة والدين حقه، وطردوا كفرهم وخلعوا ربقة الإسلام من أعناقهم، وتقسمت الفرق قولهم هذا في رد الحديث"(1).
ثم ذكر أكثر من عشر طوائف وما أنكروه من السنة، وهم ما بين مستقل من ذلك، ومستكثر، ومنهم المفرقون بين أحاديث الأحكام وأحاديث الصفات،
(1)«الصواعق» (2/ 433 - 434)[منه].
فليراجع تمام كلامه من شاء، فإنه نفيس، ولولا خشية الإطالة لنقلته برمته.
فثبت مما تقدم أن خبر الآحاد الذي تلقته الأمة بالقبول يفيد العلم، فإذا كان كذلك، فالعقيدة تثبت به، ولا اعتداد بمن خالف في ذلك من المتكلمين، لمخالفتهم أدلة الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة ومن بعدهم من الأئمة.
الوجه السابع عشر: ثم هب أن أحاديث الآحاد لا تفيد العلم، واليقين، فهي تفيد الظن الغالب قطعاً باتفاقهم.
الوجه الثامن عشر: أن كون الدليل من الأمور الظنية أو القطعية أمر نسبي، يختلف باختلاف المدرِك المستدِل، ليس هو صفة في نفسه.
الوجه التاسع عشر: إن من لوازم هذا القول الباطل: الاقتصار في العقيدة على ما جاء في القرآن وحده، وفصل الحديث عنه، وعدم الاعتداد بما فيه من العقائد والأمور الغيبية، وفقاً لطائفة من الناس اليوم، يعرفون بـ "القرآنيين" لأنهم لا يدينون بالحديث إطلاقاً إلا ما وافق القرآن منه، ولذلك فصلاتهم غير صلاتنا (1)، وزكاتهم غير زكاتنا، وكل عبادتهم غير عبادتنا، وبالتالي فعقائدهم غير عقائدنا، وذلك يساوي طبعاً أنهم غير مسلمين، فهؤلاء الذين أشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله فيما صح عنه: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبع، ولا لُقطة معاهد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم
(1) ولقد طلبت من أحدهم أن يرينا صلاتهم، فصلى صلاة لا يدلّ عليها حتى القرآن نفسه؛ لأنها مركبة من أدعية وأذكار لا أصل لها فيه؛ فضلاً عن السنة!! [منه].