الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جمع النظائر عن إمام من الأئمة
جمع النظائر عن إمام من الأئمة
إنَّ هذا العمل الذي وفقني الله تعالى للقيام به يندرج تحت نوعٍ من أنواع «فنِّ جمع النظائر» وهو جمع النظائر عن إمام من أئمة الإسلام.
والحق أن المتأمل في سير أئمة المسلمين على مَرِّ الزمان يلاحظ بجلاء اهتمام تلاميذ الإمام أو من جاء بعدهم -ولو بعصور- بجمع كلِّ أو -بعض- ما رُوي عن الإمام من مسائل ثم جمعها مع ضم النظير إلى نظيره والشبيه على شبيهه، ويعود ذلك في الغالب إلى كثرة المسائل التي تُروَى عن الإمام بحيث يُخشى عليها الضياع، أو قلة الانتفاع بها لتفرقها، فيقيد الله لها من يجمعها من كلام الإمام أو ممن أخذ عنه بعد موته.
ومن هذا الباب ما قام به الإمام الرحَّالة صاحب التصانيف، تلميذ تلامذة الإمام أحمد ابن حنبل أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلَّال المتوفى سنة (311هـ)، حيث صرف عنايته وأنفق عمره بجمع روايات مشايخه تلامذة الإمام أحمد بن حنبل عن الإمام أحمد بأخْبَرَنَا وحدَّثنا، ولم يكن قبله للإمام مذهبٌ مستقلٌّ حتى تتبع نصوص أحمد ودَوَّنها وبرهنها بعد الثلاثمائة، وحَصَلت له رواية قدر كبير من كتبهم في "مسائل الرواية عنه"، فطاف ورحل إلى: الشام، وطرسوس، وحلب، والجزيرة، وفارس، وكرمان، والمصيصة، وأنطاكية، ومصر.
وأسند عَمَّن لقيهم، وجمع ما رواه عنهم من علوم الإمام أحمد في: أصول الدين، وأصول الفقه، والحديث، والرجال، والتاريخ، والأخلاق، والآداب، وألَّف فيها كتباً منها في مسائل الفقه كتابه «الجامع الكبير» في نحو عشرين سفراً.
- ومن هذا الباب أيضاً ما فعله سحنون في «مُدوّنته» التي عمد فيها إلى جمع أقوال الإمام مالك بن أنس، وآرائه، إلى جانب أراء أصحابه، وتخريج ابن قاسم على أصول مالك، وغير ذلك.
- ومنه ما قام به محمد بن الحسن الشيباني في «المبسوط» من جمع طوائف من المسائل التي أفتى بها الإمام أبو حنيفة رحمه الله.
- ومنه ما فعله البرقاني مِنْ جمع الأحاديث التي تكلم الإمام الدارقطني عن عللها من رقاع أبي منصور الكرخي حيث كان يدفع رقاعَه للدارقطني ليعلم له على الأحاديث المعللة، فجمعها البرقاني وسأل الدارقطني عنها فأملى عليه كلاماً من حفظه، ثم رتبها البرقاني على المسند فكان "علل الدارقطني".
- ومنه ما فعله أبو العباس الأصم من جمع الأحاديث المسندة للشافعي من "الأم" فكان «مسند الشافعي» .
وهذا كثيرٌ في سير أئمة الإسلامُ لو رُحنا نجمعه لخرجنا بمصنف مستقل.
وممن لحظ أهمية هذا الفن - جمع النظائر عن الإمام - وماله من أهميةٍ في حفظ تراث الأئمة وتسهيل الانتفاع به؛ الشيخ الحاذق الناقد الصادق أحمد بن محمد بن مري الحنبلي تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذ أرسل رسالةً بليغة (1) إلى تلاميذ شيخ الإسلام بعد وفاته، يعزيهم بموته ويوصيهم فيها بالاعتناء بجمع تصانيفه وتواليفه، وضم النظائر في مكانٍ واحد، ونشر علم الإمام بين الناس.
(1) انظرها في "الجامع لسيرة شيخ الإسلام خلال سبعة قرون"(ص151 - 158).
وأنا أسواق هنا جزءًا كبيراً من هذه الرسالة لشدة تعلقها بعملي هذا، ولما حوته من حسنِ تعبير، وجودة تصوير لا مزيد عليهما في الكلام على ما نحن فيه.
يقول ابن مري الحنبلي بعد أن عَزَّى تلامذة الشيخ بموته:
«ومن أراد عظيم الأجر التام، ونصيحة الأنام، ونشر علم هذا الإمام، الذي اختطفه من بيننا محتوم الحِمام، ويخشى دروس كثير من علومه المتفرقة الفائقة، مع تكرر مرور الليالي والأيام، فالطريق في حقه: هو الاجتهاد العظيم على كتابة مؤلفاته الصغار والكبار على جليتها، من غير تصرف فيها ولا اختصار، ولو وُجد فيها كثير من التكرار، ومقابلتها وتكثير النسخ بها وإشاعتها، وجمع النظائر والأشباه في مكان واحد
…
ومن الله نسأل المعونة على جمع شمل هذه المصالح الجليلة بعد شتاتها، ونعوذ به من عوارض القواطع وآفاتها، لأن الفَوت صعب، وغائلة التفريط رديئة، وانتهاز الفرص من أهم الأمور وأجمعها لمصالح الدنيا والآخرة، وما يغفلها إلا العالمون، وسيندم المفرِّطون في استدراك بقايا هذه الأمور الكاملة والمقصرون، كما ندم المتخيلون بطول حياة الشيخ والمغترون
…
فإن يسر الله تعالى وأعان على هذه الأمور العظيمة صارت إن شاء الله تعالى مؤلفات شيخنا ذخيرة صالحة للإسلام وأهله، وخزانة عظيمة لمن يؤلف منها وينقُل، وينصر الطريقة السلفية على قواعدها، ويستخرج ويختصر إلى آخر الدهر إن شاء الله تعالى
…
وكما انتفع الشيخ بكلام الأئمة قبله فكذلك ينتفع بكلامه من بعده إن شاء الله تعالى.
فاتبعوا أمر الله، واقصدوا رضى الله بجمع كل ما تقدرون عليه من أنواع
المؤلفات الكبار، وأشتات المسائل الصغار، ومن نسخ الفتاوى المتفرقة، وسائر كلامه الذي قد ملئ، ولله الحمد، من الفوائد والفرائد والشوارد، فأيقظوا الهمم، وابذلوا الأموال الكثيرة في تحصيل هذا المطلب العظيم الذي لا نصير له، فهذا هو الذي يلزمنا من حيث الأسباب، والتمام على رب الأرباب ومسبب الأسباب وفاتح الأبواب، الذي يقيم دينه، وينصر كتابه وسنة نبيه على الدوام، ويثيب من يؤهله لذلك من أنواع الخاص والعام، وكلٌّ مجزيٌّ في القيامة بعمله، وما ربك بظلامٍ للعبيد.
وقد عُلِمَ أن الإمام أحمد بن حنبل كان ينهى في حالة حياته عن كتابة كلامه ليجمع القلوب على المادة الأصلية العُظمى، ولما توفي استدرك أصحابه ذلك الأمر الكبير، فنقلوا علمه وبينوا مقاصده، وشهروا فوائده، فانتصرت طريقته، واقتفيت آثاره لأجل ذلك، والوجود هو على هذه الصفة قديماً وحديثاً.
فلا تيأسوا من قبول القلوب القريبة والبعيدة لكلام شيخنا، فإنه ولله الحمد مقبول طوعاً وكرهاً، وأين غايات قبول القلوب السليمة لكلماته، وتتبع الهمم النافذة لمباحثه وترجيحاته، والله إن شاء الله ليقيم الله سبحانه لنصر هذا الكلام ونشره وتدوينه وتفهمه، واستخراج مقاصده واستحسان عجائبه وغرائبه، رجالاً هم إلى الآن في أصلاب آبائهم.
وهذه هي سنة الله الجارية في عباده وبلاده، والذي وقع من هذه الأمور في الكون لا يحصى عدده غير الله تعالى.
ومن المعلوم أن البخاري مع جلالة قدره أخرج طريداً، ثم مات بعد ذلك غريباً، وعوضه الله سبحانه عن ذلك بما لا خطر في باله ولا سنح في خياله، من عكوف الهمم على كتابه، وشدة احتفالها بها، وترجيحها له على جميع كتب
السنن، وذلك لكمال صحته، وعظمة قدره، وحسن ترتيبه وجمعه، وجميل نية مؤلفه، وغير ذلك من الأسباب.
ونحن نرجو أن يكون لمؤلفات شيخنا أبي العباس من هذه الوراثة الصالحة نصيب كثير إن شاء الله تعالى، لأنه كان بَنَى جملة أمروه على الكتاب والسنة، ونصوص أئمة سلف الأمة، وكان يقصد تحرير الصحة بكل جهده ويدفع الباطل بكل ما يقدر عليه، لا يهاب مخالفة أحد من الناس في نصر هذه الطريقة، وتبيين هذه الحقيقة.
وقد عُلِمَ أن لكتبه من الخصوصية والنفع والصحة، والبسط والتحقيق، والإتقان والكمال، وتسهيل العبارات، وجمع أشتات المتفرقات، والنطق في مضايق الأبواب، بحقائق فصل الخطاب، ما ليس لأكثر المصنِّفين، في أبواب مسائل أصول الدين وغيرها من مسائل المحققين.
وكان رحمه الله ورضي عنه يذب عن الشريعة ويحمي حوزة الدين بكل ما يقدر عليه، وكان كما عُلِمَ من حاله لا يخاف في هذا الباب لومة لائم، ولا ينثني عما يتحقق عنده، ولم يزل على ذلك إلى أن قضى نحبه، ولقي ربه، فقدس الله روحه، ونور ضريحه، ونصر مقاصده، وأيد قواعده، والله سبحانه يعلم حسن قصده، وصحة علومه، ورجحان دليله، وهو ناصر الحق وأهله، ولو بعد حين
…
» إلى آخر كلامه رحمه الله.
أقول: لله در ابن مري الحنبلي، وما أشبه اليوم بالبارحة، وما أشبه شيخ إسلام عصرنا، بشيخ إسلام كل العصور!!