الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[53] باب منه
[قال الإمام]:
(تقسيم) الأحاديث الصحيحة إلى قسمين:
قسم يجب على المسلم قبولها ويلزمه العمل بها وهى أحاديث الأحكام ونحوها، وقسم لا يجب عليه قبولها والاعتقاد بها وهي أحاديث العقائد وما يتعلق منها بالأمور الغيبية.
أقول: إن هذا تقسيم مبتدع لا أصل في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يعرفه السلف الصالح بل عموم الأدلة الموجبة للعمل بالحديث تقتضي وجوب العمل بالقسمين كليهما ولا فرق فمن ادعى التخصيص فليتفضل بالبيان مشكوراً وهيهات هيهات، ثم ألفت رسالتين هامتين جداًّ في بيان بطلان التقسيم المذكور الأولى:" وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة " والأخرى: " الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام ".
"تمام المنة"(ص79).
[54] باب منه
(سئل الإمام عن خبر الآحاد وهل يفيد العلم أم غلبة الظن، وهل يحتج به في العقيدة أم لا، فأجاب):
يجب على المسلم أن يرفع عن ذهنه بعض التفاصيل العلمية التي هي حصيلة خبرة واجتهاد الأئمة المختصين بعلم الحديث؛ لأن هذه التفاصيل لا تفيد عامة المسلمين، الذي يجب على كل مسلم أن يخضع لكل حديث صح بأي مرتبة من مراتب الصحة، سواء كان صحيحًا .. غريبًا .. فردًا .. أو كان صحيحًا مستفيضًا
أو مشهورًا أو متواترًا، لأن هذه المراتب يستفيد منها أهل الاختصاص والمعرفة والعلم، ويضيع بينها غيرهم؛ فلذلك لا ينبغي لعامة المسلمين أن يلجوا هذه المساحة، وإنما عليهم فقط أن يعرفوا صح الحديث عند أهل العلم
…
فإذا صح انتهى الأمر.
حديث الآحاد في واقع الأمر يفيد الظن الغالب، هذا هو الأصل في خبر الآحاد، لكن كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: خبر الآحاد إذا اقترنت به قرينة من قرائن أفاد بسبب انضمام هذه القرائن إليه العلم واليقين، وكما ترى من هو الذي يستطيع أن يميز حديث آحاد له قرينة أو قرائن من حديث آحاد ليس له قرينة، فالمرجع في ذلك إذًا إلى أهل العلم، ولكن لنقُل الآن: نأخذ أعلى درجة في الحديث، هو كما تعلمون الحديث المتواتر، فكون الحديث متواترًا عند زيد من الناس من أهل الاختصاص فيلزم منه أن يكون متواترًا عند عمر من أهل الاختصاص، والعكس بالعكس، فما بالكم إذا كان الحديث متواترًا عند زيد من أهل العلم فهل من الضروري أن يكون متواترًا عند غير أهل العلم؟
وقد قلت مرة، وكررت ذلك بمناسبة أو بأخرى: من جماعة حزب التحرير الذين نشروا هذه البلبلة في العصر الحاضر بين عامة المسلمين، وهي
…
أن الحديث الآحاد لا تثبت به عقيدة، قلت لهؤلاء: معنى ذلك أو لازم ذلك أنكم لا تتبنون عقيدة من حديث! ولو كان متواترًا، قالوا: كيف ذلك؟ فشرحت لهم الأمر بنحو ما ذكرت آنفًا: أن قضية التواتر قضية نسبية، قلت لهم مثلًا: حينما يجري النقاش في بعض المسائل الفقهية بين الحنفية الشافعية، أو بين الحنفية وأهل الحديث مثلًا، يتناقشون حول حديث صريح الدلالة لكنه ليس متواترًا، لأن من فلسفة مذهب الحنفية: أن النص الذي فيه الفرضية في الأحكام الفقهية يشترط فيه
شرطان: أن يكون قطعي الثبوت، وقطعي الدلالة، فإذا اختل أحد الشرطين نزل الحكم من الفرضية إلى الوجوب، والقول بالوجوب اصطلاح فقهي حنفي حيث يوجبون أشياء ولا يفرضونها، لأن الواجب عندهم وسط بين ما هو فرض وبين ما هو سنة، وحين يقولون في تعريف الفرض: هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، أما الواجب: فيثاب فاعله ويعاقب تاركه دون معاقبة تارك الفرض.
فإذا جاء النص متواترًا مثلًا ولم يكن قطعي الدلالة [لا يفيد] الفرضية وإنما يفيد الوجوب، والعكس بالعكس: إذا كان قطعي الدلالة ولم يكن قطعي الثبوت فكذلك، فلا بد من أن يتوفر في النص أن يكون قطعي الثبوت قطعي الدلالة، مثاله: قوله عليه السلام: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» لا يقولون بركنية الفاتحة، ولهم أجوبة على ذلك، فالذي يهمنا الآن هو قولهم: أن هذا حديث آحاد ليس قطعي الثبوت، لكن إمام أهل الحديث وأمير المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري يقول في أول رسالته: وجوب القراءة وراء الإمام: تواتر الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» .
فالآن: خبر من نأخذ، خبر الإمام وأمير المحدثين أو خبر الأحناف الذين يقولون: أن هذا حديث غير متواتر، نعم هو صحيح لكنه آحاد؟ فلو سلمنا للحنفية أنهم مخلصون وأنهم غير متعصبين وإلى آخره، وأنه لم يبلغهم الخبر على طريق التواتر، فنقول حينذاك: أن القضية قضية نسبية ..
فوصل بنا الكلام إلى قوله عليه السلام: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» فإن هذا الحديث أخذ منه جماهير الفقهاء في دلالته الظاهرة التي هي أن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة لا تصح الصلاة إلا به، فقد تأولوا الحديث
بمعنى: لا صلاة كاملة، لماذا؟ للسبب الذي ذكرته آنفًا وهو أنهم لا يثبتون فرضًا فضلًا عن أن يثبتوا ركنًا أو شرطًا، ولا يخفى أن الركن والشرط أقوى من الفرض، فإذا لم يثبتوا الفرض بحديث آحاد فمن باب أولى لا يثبتون ركنًا أو شرطًا بحديث آحاد، على ذلك فهم تأولوا الحديث بهذا التأويل؛ لأنه عندهم حديث آحاد، بينما علماء الحديث قد حكموا بهذا الحديث بأنه يفيد شرطية قراءة الفاتحة.
والرد على الحنفية الذين قالوا: بأنه حديث آحاد، يقال: أمير المؤمنين في الحديث يقول كما ذكرت آنفًا: تواتر الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» فإذًا: الحديث هنا عند الحنفية آحاد وعند البخاري متواتر، فالقضية قضية نسبية ما كان متواترًا عند هؤلاء لا ينبغي، أو لا يجب على الأقل أن يكون متواترًا عند أولئك.
كنت أتحدث عن حزب التحرير في هذا الزمان الذي أشاع هذه الفلسفة: أن حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة، فلما ناظرتهم وجادلتهم في هذه المسألة قلت لهم: ما ذكرته آنفاً: لازم هذا أنكم .. لا تتقربون إلى الله تبارك وتعالى باعتقاد ما في حديث؛ لأنه حديث آحاد، قالوا: كيف؟ شرحت لهم أن كون الحديث آحادًا أو متواترًا هي قضية نسبية كما ذكرت آنفًا.
والآن قلت لهم: أقول لكم: لو فرضنا أن الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله هو أكبر محدث على وجه الأرض، طبعًا وهم يعلمون أنه ليس كذلك، وكان الرجل من فقهاء العصر الحاضر وفقهه تقليدي ليس فقه على بصيرة كما ينبغي أن يكون عليه كل مسلم، وبخاصة إذا كان عالمًا، فقلنا لهم: أفترض أن الرجل أكبر عالم في الحديث، قال لكم: تواتر الحديث الفلاني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندي، فهو سيظل متواترًا عنده، أما عندكم كأفراد سيصبح آحادًا، لماذا؟ لأن علماء الحديث
حين اصطلحوا على تسمية حديث ما بالمتواتر يشترطون التواتر في كل طبقة، مع اختلافهم البالغ والكثير في عدد التواتر، فمن قائل: عشرة وعشرين وثلاثين إلى مائة شخص، أي: لنأخذ أقرب الأمثلة: الحديث المتواتر هو الذي رواه عشرة عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، عن رسول الله .. وعن هؤلاء العشرة عشرة من التابعين، وعن هؤلاء عشرة من أتباع التابعين، وهكذا إلى أن يصنف في الكتب كتب الحديث.
فأحدنا إذا أراد أن يكون الحديث عنده متواترًا فعليه أن يقف على هذا الحديث متواترًا عند عشرة من المحدثين، أن يكون البخاري رواه من عشرة طرق، ومسلم من عشرة طرق، وأبو داود، وإلى آخره حينئذٍ صار الحديث متواترًا عند الذي حصل هذه الطرق العشرة تواترًا في حجم كتب السنة، فإذا قال الشيخ تقي الدين: هذا الحديث متواتر، فقد انقطع التواتر بينكم وبين التواتر؛ لأنه هو خبره آحاد .. هو خبره آحاد، هو يقول: حديث متواتر، فأنت تأخذ المتواتر عن فرد انقطع به التواتر، إذًا: أنتم لا يمكن أن تعتقدوا بحديث أنه متواتر.
ونكتُّ عليهم مرةً النكتة التالية: قلت: زعموا أن أحد هؤلاء ذهب إلى اليابان للتبشير بالإسلام، والشيخ تقي الدين رحمه الله له كتاب سماه: طريق الإيمان، وذكر فيه هذه الفكرة الخاطئة، وهو أن العقيدة لا تثبت بخبر الآحاد، فهذا الداعية الحزبي أخذ يدرس عليهم طريق الإيمان، فجاء فيما دَرَّس: أن خبر الآحاد لا يفيد العلم،
…
فهناك شخص كيس ذكي قال لهذا المحاضر يومًا: يا أستاذ! أنت فيما مضى درست علينا كذا وكذا: أن العقيدة لا تثبت بخبر الآحاد، وأنت الآن تعلمنا الإسلام العقيدة، فإذاً يجب أن ترجع أدراجك وتأتي بالعدد هذا التواتر عشرة .. عشرين .. ثلاثين، ويشهدوا معك أن هذا هو الإسلام حينئذٍ نحن نقبل منك، أما
الآن فلا .. هذه من لوازم فلسفة حديث التواتر وحديث الآحاد.
أنا أريد أن أقول: إن التفريق بين حديث التواتر وحديث الآحاد بأقسامه المستفيض والمشهور، هذه حقيقة واقعة، لكن من الذي يكشفها؟ يكشفها أهل العلم، هل من مصلحة عامة المسلمين أن تدرس هذه الفلسفة عليهم؟ الجواب: لا؛ لأن هذا يلقي على عقيدتهم كثيرًا من الشك والريب.
ثم إذا رجعنا إلى السلف الصالح ولأمر ما نحن ننتسب إلى السلف الصالح، ونفهم كيف تلقوا الإسلام، نجد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسل أفرادًا وآحادًا إلى البلاد كبلاد اليمن وبلاد الشام ونحو ذلك يعلمون الناس العلم، وبخاصة من أشهر هؤلاء الرسل معاذ بن جبل، وعلي بن أبي طالب، وأبو موسى الأشعري، كل هؤلاء أرسلهم الرسول عليه السلام إلى اليمن كأفراد ولم يفعل كما يفعل التبليغيون اليوم حين يخرجون زرافات .. جماعات، وليس فيهم علماء، أرسل أفرادًا، وكان من جملة ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أرسل معاذًا إلى اليمن قال له:«ليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله» هذا أس العقيدة، أس التوحيد، [لكن] بزعم هؤلاء من علماء الكلام الذين جاءوا ببدعة حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة معناه -وقد قالوا هذا مع الأسف الشديد، -معناه: أن الرسول عليه السلام أرسل داعية لا تقوم به الحجة على المدعوين؛ لأنه فرد، وهذا لو نسب إلى شخص لكان عبثًا فكيف ينسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؟!
وهكذا كل الأخبار تترا بأن السلف الصالح لا يفرق بين خبر الآحاد وخبر اثنين أو أكثر إلى آخره، لكن لا شك أن هذا التفريق أمر واقع ما له دافع.
(فتاوى جدة -الأثر-" (3/ 00:04:02)