الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[45] باب يجب على المسلم أن يؤمن بكل حديث ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
-
[قال الإمام]:
يجب على المسلم أن يؤمن بكل حديث ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عند أهل العلم به سواء كان في العقائد أو الأحكام وسواء أكان متواتراً أم آحاداً، وسواء أكان الآحاد عنده يفيد القطع واليقين، أو الظن الغالب على ما سبق بيانه، فالواجب في كل ذلك الإيمان به والتسليم له، وبذلك يكون قد حقق في نفسه الاستجابة المأمور بها في قول الله تبارك وتعالى:{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأنه إليه تحشرون} .
"الحديث حجة بنفسه"(ص70)
[46] باب من الأدلة على وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة
[قال الإمام]:
[من الأدلة] على وجوب الأخذ بخبر الواحد في العقيدة:
الدليل الأول: قوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} .
فقد حض الله تبارك وتعالى المؤمنين على أن ينفر طائفة منهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم -
ليتعلموا منه دينهم ويتفقهوا فيه. ولا شك أن ذلك ليس خاصاً بما يسمى بالفروع والأحكام بل هو أعم. بل المقطوع به أن يبدأ المعلم بما هو الأهم فالأهم تعليماً وتعلماً، ومما لا ريب فيه أن العقائد أهم من الأحكام، ومن أجل ذلك زعم الزاعمون أن العقائد لا تثبت بحديث الآحاد، فيبطل ذلك عليهم هذه الآية الكريمة، فإن الله تعالى كم حض فيها الطائفة على التعلم والتفقه عقيدةً وأحكاماً حضهم على أن ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما تعلموه من العقائد والأحكام، و"الطائفة" في لغة العرب تقع على الواحد فما فوق. فلولا أن الحجة تقوم بحديث الآحاد عقيدة وحكماً لما حض الله تعالى الطائفة على التبليغ حضاً عاماً، معللاً ذلك بقوله:{لعلهم يحذرون} الصريح في أن العلم يحصل بإنذار الطائفة، فإنه كقوله تعالى في آياته الشرعية والكونية:{لعلهم يتفكرون} ، {لعلهم يعقلون} ، {لعلهم يهتدون} ، فالآية نص في أن خبر الآحاد حجة في التبليغ عقيدة وأحكاماً.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} أي لا تتبعه، ولا تعمل به، ومن المعلوم أن المسلمين لم يزالوا من عهد الصحابة يَقْفُون أخبار الآحاد، ويعملون بها، ويثبتون بها الأمور الغيبية، والحقائق الإعتقادية مثل بدء الخلق وأشراط الساعة، بل ويثبتون بها لله تعالى الصفات، فلو كانت لا تفيد علما، ولا تثبت عقيدة لكان الصحابة والتابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام كلهم قد قفوا ما ليس لهم به علم، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في (مختصر الصواعق- 2/ 396) وهذا مما لا يقوله مسلم.
الدليل الثالث: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} وفي القراءة الأخرى "فتثبتوا"، فإنها تدل على أن العدل إذا جاء بخبر ما فالحجة
قائمة به، وأنه لا يجب التثبت بل يؤخذ به حالاً، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله في "الإعلام" (2/ 394):
"وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد وأنه لا يحتاج إلى التثبت، ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمر بالتثبت حتى يحصل العلم.
ومما يدل عليه أيضاً أن السلف الصالح وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا، وفعل كذا وأمر بكذا، ونهى عن كذا، وهذا معلوم في كلامهم بالضرورة، وفي "صحيح البخاري": قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عدة مواضع، وكثير من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما سمعه من صحابي غيره، وهذه شهادة من القائل، وجزم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما نسب إليه من قول أو فعل، فلو كان خبر الواحد لا يفيد العلم لكان شاهداً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغير علم".
الدليل الرابع: سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه تدل على الأخذ بخبر الآحاد: إن السنة العملية التي جرى عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حياته وبعد وفاته تدل أيضاً دلالة قاطعة على عدم التفريق بين حديث الآحاد في العقيدة والأحكام، وأنه حجة قائمة في كل ذلك، وأنا ذاكر الآن بإذن الله بعض ما وقفت عليه من الأحاديث الصحيحة، قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في "صحيحه" - 8/ 132):
" باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام، وقول الله تعالى:{فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} ويسمى الرجل طائفة لقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} فلو اقتتل رجلان
دخلا في معنى الآية، وقوله تعالى:(إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) وكيف بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمراءه واحداً بعد واحد، فإن سها أحد منهم رد إلى السنة ".
ثم ساق الإمام البخاري أحاديث مستدلاً بها على ما ذكر من إجازة خبر الواحد، والمراد بها جواز العمل والقول بأنه حجة فأسوق بعضاً منها:
الأول: عن مالك بن الحويرث قال:
" أتينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن شببه (1) متقاربون، فأقمنا عنده نحواً من عشرين ليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحيماً رفيقاً، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا، أو قد اشتقنا سألنا عمن تركنا بعدنا، فأخبرناه، قال: ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي ".
فقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم كل واحد من هؤلاء الشببة أن يعلم كل واحد منهم أهله، والتعليم يعم العقيدة،
بل هي أول ما يدخل في العموم فلو لم يكن خبر الآحاد تقوم به الحجة لم يكن لهذا الأمر معنى.
الثاني: عن أنس بن مالك:
أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إبعث معنا رجلا يعلمنا السنة والإسلام. قال: فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: «هذا أمين هذه الأمة «أخرجه مسلم (7/ 29) ورواه البخاري مختصراً.
قلت: فلو لم تقم الحجة بخبر الواحد لم يبعث إليهم أبا عبيدة وحده،
(1) جمع شاب. [منه].
وكذلك يقال في بعثه صلى الله عليه وآله وسلم إليهم في نوبات مختلفة، أو إلى بلاد منها متفرقة غيره من الصحابة رضي الله عنهم كعلي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأبي موسى الأشعري، وأحاديثهم في "الصحيحين" وغيرهما، ومما لا ريب فيه أن هؤلاء كانوا يعلمون الذين أرسلوا إليهم العقائد في جملة ما يعلمونهم، فلو لم تكن الحجة قائمة بهم عليهم لم يبعثهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفرداً، لأنه عبث يتنزه عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا معنى قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في "الرسالة" (ص412):
"وهو صلى الله عليه وآله وسلم لا يبعث بأمره، إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان قادراً على أن يبعث إليهم فيشافههم، أو يبعث إليهم عدداً، فبعث واحداً يعرفونه بالصدق".
الثالث: عن عبد الله بن عمر قال:
" بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة " رواه البخاري ومسلم.
فهذا نص على أن الصحابة رضي الله عنهم قبلوا خبر الواحد في نسخ ما كان مقطوعاً عندهم من وجوب استقبال بيت المقدس، فتركوا ذلك واستقبلوا الكعبة لخبره، فلولا أنه حجة عندهم ما خالفوا به المقطوع عندهم من القبلة الأولى. قال ابن القيم:
"ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل شكروا على ذلك ".
الرابع: عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفاً البكالي يزعم أن
موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل، فقال ابن عباس: كذب عدو الله، أخبرني أبي بن كعب قال: خطبنا رسول الله، ثم ذكر حديث موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى عليه السلام صاحب الخضر. أخرجه الشيخان مطولاً، والشافعي هكذا مختصراً (442/ 1219):
وقال الشافعي: يثبت العقيدة بخبر الواحد:
"فابن عباس مع فقهه وورعه يثبت خبر أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يكذب به امرءاً من المسلمين، إذ حدثه أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما فيه دلالة على أن موسى بني إسرائيل صاحب الخضر".
قلت: وهذا القول من الإمام الشافعي رحمه الله دليل على أنه لا يرى التفريق بين العقيدة والعمل في الاحتجاج بخبر الآحاد، لأن كون موسى عليه السلام
هو صاحب الخضر عليه السلام هي مسألة علمية وليست حكماً عملياً كما هو مبين، ويؤيد ذلك أن الإمام رحمه الله تعالى عقد فصلاً هاماً في "الرسالة"
تحت عنوان "الحجة في تثبيت خبر الواحد" وساق تحته أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، (ص401 - 453) وهي أدلة مطلقة، أو عامة، تشمل بإطلاقها وعمومها أن خبر الواحد حجة في العقيدة أيضاً، وكذلك كلامه عليها عام أيضاً، وختم هذا البحث بقوله:
"وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث يكفي بعض هذا منها، ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذه (1) السبيل.
وكذلك حكى لنا عمن حكى لنا عنه من أهل العلم بالبلدان".
(1) خبر لم يزل. [منه].