الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضابط المصالح المرسلة
أحد الحاضرين: فضيلة الشيخ سمعنا منكم كلاماً حول المصلحة المرسلة وهو أن الأمر الذي يُشْرَع لكونه مصلحة يُشْتَرط فيه أن يكون مستثنى في الأصل، نرجو بيان ذلك مع توضيح ضابط المصلحة التي تبيح ما كان غير مشروع لكون بعض الأمور فيه مصلحة ولكنه لا يشرع مثل استعمال الصور في المجلات لغاية تربوية أو غير ذلك.
الشيخ: أظن كمان عند صاحبنا شريط في هذا والا ما عندك.
أحد الحاضرين: ما فيه.
الشيخ: ما فيه؟ .
أحد الحاضرين: ما فيه.
الشيخ: كنا تحدثنا حول هذا بشيء من التفصيل.
أحد الحاضرين: في مكة
الشيخ: نعم، مكة؟
أحد الحاضرين: مكة
الشيخ: المصالح المرسلة يوجد خلاف بين العلماء فبعضهم يقول بها وبعضهم لا يقول بها ومن هذا البعض الذي يقول بها علماء المالكية وكذلك
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وقد تكلم الإمام الشاطبي عن هذه المسألة في كتابه الجليل «الاعتصام» وأنا أقول بهذه المناسبة أحض طلاب العلم على اقتناء هذا الكتاب لأنه كتاب فذ فرد لا مثل له في موضوعه وكل من ألف ممن جاء بعده في أصول البدع فإنما هو عالة عليه، لقد عالج هذا البحث فيه لأن له ارتباطاً وثيقاً بالبدعة من حيث أنه يلتقي مع البدعة في كون البدعة حادثة بعد أن لم تكن كذلك المصلحة المرسلة هي تكون حادثة أيضاً بعد أن لم تكن وللتمييز بين ما هو بدعة ضلالة وبين ما هو مصلحة مرسلة تطرق لهذا البحث العظيم في ذلك الكتاب الجليل.
وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تَطَرَّق لهذا الموضوع الخطير في كتابه العظيم «اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم» .
وخلاصة كلامهما أن الوسيلة التي حدثت ويراد الأخذ بها لتحقيق مصلحة للأمة هذه الوسيلة إما أن تكون كان المقتضي للأخذ بها قائماً في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومع ذلك لم يأخذ بها وإن كانت تحقق مصلحة ظاهرة [
…
].
ومن الأمثلة على ذلك أن الأذان إنما يُقْصَد به شرعاً الإعلام بدخول أوقات الصلوات الخمس ويُشْعِر كلٌ منا أن بعض الصلوات الأخرى التي لا تجب كل يوم وليلة إنما تجب في السنة مرة أو مرتين أو تجب بمناسبة ما كصلاة العيدين مثلاً فنحن نشعر بأن صلاة العيدين أحوج إلى الأذان بأذان الناس لوقتهما من الصلوات الخمس لأن المسلمين بسبب اعتيادهم للصلوات الخمس وتعرفهم على أوقاتها بسبب التمرن قد لا يحتاجون احتياجة كبرى إلى الأذان، وعلى العكس من ذلك الأذان للعيدين فهذه وسيلة كان المقتضي للأخذ بها في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأذان الناس بدخول وقت صلاة العيد، وإذ لم يأخذ عليه الصلاة
والسلام بهذه الوسيلة لتحقيق تلك المصلحة، ما هي المصلحة؟ الإعلام، فلا يجوز لنا أن نتخذ مثل هذه الوسيلة لتحقيق مصلحة لأن هذه الوسيلة كانت قائمة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومع ذلك لم يسن هذه الوسيلة، فإحداثها يعتبر إحداثاً في الدين، ويصدق عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» ، هذا إذا كانت الوسيلة قائمة مقتضاها في عهده عليه الصلاة والسلام ثم لم يأخذ بالمقتضى لها كالأذان مع صلاة العيدين.
أما إذا وجد المقتضي لإحداث وسيلة لم يكن المقتضي لإحداثها في عهد الرسول عليه السلام فهنا لا بد من التفصيل التالي هذا كله ليس من عندي إنما هذا من فضل علم الرجلين المذكورين آنفاً الإمام الشاطبي والإمام ابن تيمية الحراني؛ إذا كان الباعث على الأخذ بالوسيلة إنما هو الوسيلة التي تحقق مصلحة إذا كان الباعث على الأخذ بتلك الوسيلة منشؤه هو إهمال المسلمين لبعض أحكام دينهم فلا يجوز في هذه الحالة التمسك بهذه الوسيلة لأنها إنما ظنوا أنها تحقق مصلحة بسبب إعراضهم عن أمور شرعية بها تتحقق تلك المصلحة، فإيجاد هذه الوسيلة والأخذ بها لتحقيق المصلحة فيه صرف عملي للمسلمين عن الأخذ بالأسباب الشرعية لتحقيق تلك المصلحة، مثاله أموال الزكاة فهي كما نعلم جميعاً أمور شرعية قد أمرنا بها يعني أُمِرَ بها الأغنياء، ما هي ثمرة تطبيق هذا الأمر الواجب وهو الزكاة؟ لا شك أن في ذلك إملاء لخزينة الدولة تنفق هذه الأموال التي تجمعها على سنن معروفة تفصيلها في كتب الحديث والفقه لمعالجة وتحقيق مصالح المسلمين، ومن ذلك مثلاً أو من أهم هذه المصالح أنه إذا غُزِيَت بعض البلاد الإسلامية من عدوّ لهم وجب للحاكم المسلم أن يهيئ جيشاً لطرد العدو من بلاد المسلمين وهذا الجيش أو هذه التهيئة للجيش بلا شك يتطلب من النفقات الشيء الكثير والكثير جداً، ولذلك كان من
حكمة الحكيم العليم أن شرع للحكام المسلمين أن يجمعوا أنواعاً من أموال الزكاة يودعونها في بيت مال المسلمين لمعالجة مصالحهم ومنها إخراج العدو أو صد العدو إذا ما هاجم بلاد المسلمين، فإذا ما تقاعس الحكام المسلمون عن القيام بواجب جمع أموال الزكاة حينئذٍ لا تستطيع هذه الدولة أن تقوم بمصالح الأمة المسلمة فماذا يفعلون حينذاك يفرضون ضرائب لتحقيق تلك المصالح فهل يؤخذ بهذه الوسيلة؟
الجواب: لا، لأن هناك وسائل مشروعة فرضها رب العالمين لو تَبَنَّاها الحكام لحقق لهم المال الوفير ولامتلأت خزائن الدولة بأموال الزكاة، فلما قصروا في تطبيق شريعة الزكاة اضطروا إلى بديلها، وهذا البديل هو فرض الضرائب فلا يجوز تبني مثل هذه الوسيلة ولو كانت تحقق مصلحة للأمة لأن هذه الوسيلة سبب الأخذ بها تقصير المسلمين في تطبيق الوسائل الشرعية التي تجمع المال في بيت مال المسلمين.
ثم يختلف الأمر فيما إذا كانت الحكومة الإسلامية تقوم بواجب جمع الزكوات في كل عام ولكن لما فرضنا أن عدواً ما هاجم طرفاً من بلاد المسلمين نظر المسلمون الموظفون على خزينة الدولة فوجدوا المال المجموع بالطرق المشروعة التي أشرنا إليها آنفاً فوجدوا أن هذه الأموال الموجودة في خزينة الدولة لا تكفي لصد غائلة العدو فهنا يجوز للحاكم المسلم أن يفرض ضرائب موقتة زمنياً ليجمع الأموال التي تكفي لصد العدو المهاجم لبعض بلاد الإسلام في هذه الصورة تختلف تماماً أن هذه الوسيلة واجبة لأنها تحقق مصلحة زمنية طارئة لكن هذه الوسيلة لم تنتج من تقصير المسلمين في تطبيقهم للوسائل المشروعة وإنما نتجت لأن المقتضي الذي طرأ وهو مهاجمة العدو الكثيف
عدده والكثير سلاحه يستوجب مالاً أكثر من الموجود في الخزينة.
فإذاً هذه المصلحة لابد من إحداث وسيلة لم تكن من قبل فإذا تحققت المصلحة انتفت هذه الوسيلة وبقي الحاكم المسلم يجمع الأموال على الطريقة الإسلامية، وإذا كانت الوسيلة إذاً تارة وهي محدثة يكون الباعث عليها تقصير المسلمين فهي غير مشروعة وتارة لا يكون الباعث عليها تقصيرهم فتكون مشروعة.
خرجنا بثلاثة أنواع من هذا الكلام، من الوسائل بعضها يُشرَع وبعضها لا يشرع.
الوسيلة التي لا تشرع هي التي وُجِدَ المقتضي للأخذ بها في عهد الرسول عليه السلام ثم لم يأخذ بها فهي غير جائزة وغير مشروعة وتلحق بالبدعة الضلالة.
ويلحق بها أيضاً الوسيلة التي تحقق مصلحة لكن السبب الحامل عليها هو تقصير المسلمين بتطبيق أحكام الدين فهذه أيضاً تلحق بالوسيلة الأولى فلا تشرع وتكون من المحدثات في الدين.
والوسيلة الثالثة والأخيرة هي التي توجبها المصلحة الزمنية ولكن لم تكن الوسيلة أولاً قائمة في عهد الرسول ووُجِدَ المقتضي للأخذ بها ولا أوجب الأخذ بها تقصير المسلمين في بعض الأحكام الشرعية هذه الوسيلة هي التي تدخل في باب المصالح المرسلة.
فإذاً المصلحة المرسلة تلتقي تارة مع البدعة الضلالة وتارة تنفصل عنها تلتقي مع البدعة الضلالة في الصورتين الأوليين وتختلف عنها في الصورة الثالثة.
وجماع الأمر في التفريق بين المصلحة المرسلة وبين البدعة الضلالة أن المصلحة المرسلة إنما يؤخذ بها لتحقيق مصلحة جماعية للأمة ولا يقصد بها زيادة التقرب إلى الله، بينما البدعة الضلالة إنما يأخذ بها عامة الناس دائماً وأبداً من باب زيادة التقرب إلى الله تبارك وتعالى وهذا الباب قد سَدَّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببيانه للآية الكريمة:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ} [المائدة: 3]، حيث قال عليه الصلاة والسلام:(ما تركت شيئاً يُقَرِّبكم إلى الله إلا وأمرتكم به وما تركت شيئاً يبعدكم عن الله ويقربكم إلى النار إلا ونهيتكم عنه) بذلك جاءت الآثار عن سلفنا الصالح تترا في الأمر في اتباع السنة والنهي عن الابتداع في الدين من ذلك قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «اقتصادٌ في سنة خيرٌ من اجتهادٍ في بدعة» ، هذا ما يحضرني الآن من الكلام حول المصلحة المرسلة.
(فتاوى جدة- أهل الحديث والأثر (20) /01: 58: 26)