المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بين البدعة والسنة التركية - جامع تراث العلامة الألباني في المنهج والأحداث الكبرى - جـ ٨

[ناصر الدين الألباني]

فهرس الكتاب

- ‌الزواج في بلاد الكفروالزواج من كتابيات

- ‌الزواج في بلاد الكفر بنية الطلاق

- ‌الزواج من الكتابيات

- ‌باب منه

- ‌باب منه

- ‌‌‌باب منه

- ‌باب منه

- ‌ضابط الكتابي الذي يجوز مناكحتهوالأكل من طعامه

- ‌كيف تتزوج الفتاة في الدول الكافرة

- ‌الهجرة من بلاد الكفر

- ‌الهجرة من الدار التي يكثر فيها الفسق

- ‌الهجرة من البلاد التي تُحَارب فيها الدعوة

- ‌جواز الهجرة إلى بلاد الكفرإذا عدمت البلاد الإسلامية

- ‌الرجوع من بلاد الهجرة

- ‌الهجرة من بلاد الكفر

- ‌متفرقات في أبوابالولاء والبراء

- ‌استغابة وسب المشركين

- ‌الدعاء على الكفار

- ‌حكم الأكل من طعام أهل الكتابفي أعيادهم

- ‌معاملة محسني النصارى بالحسنى

- ‌حفر قبور للنصارى

- ‌حكم الجمع بين مقابر المسلمين والنصارى

- ‌اتباع جنائز أهل الكتاب

- ‌نصرانية حامل فأين تدفن

- ‌امرأة نصرانية يُشك في إسلامهافهل تدفن في مقابر المسلمين

- ‌امرأة نصرانية تريد أن تهب مالها لمسلمةمقابل أن تحفر لها قبرها وتزينه

- ‌رجل مات في بلاد الكفرفهل يدفن في التابوت

- ‌مصاحبة الأهل الكافرين إلى المقبرة

- ‌حكم الدفن في بلاد الكفار

- ‌حكم دخول الكنيسة لرؤية الآثاروزيارة المتاحف

- ‌حكم توصيل الناس إلى الكنيسة

- ‌العمل عند أهل الكتاب

- ‌العمل تحت إمرة كافر

- ‌حكم قول المسلم: أنا نصراني

- ‌كيفية مناقشة الكفار

- ‌مواساة أهل الكتاب لدعوتهم إلى الإسلام

- ‌الاستعانة بالمشركين

- ‌حكم التهرب من الخدمة العسكرية

- ‌حكم التجنس بجنسية بلد كافر

- ‌باب منه

- ‌الحصول على جواز سفر أجنبي

- ‌دار الإسلام ودار الكفر

- ‌الفرق بين دار الإسلامودار الكفر ودار الحرب

- ‌تطبيق الأحكام الشرعية في دار الكفر

- ‌هل النصارى في هذا العصر أهل كتاب

- ‌العمل في الشرطةوما شابهها في بلاد الكفر

- ‌القوانين في بلاد الكفر

- ‌تهنئة النصارى بأعيادهم

- ‌المسلمون ومدارس التنصير

- ‌حديث: فاضطروهم إلى أضيق الطرقات

- ‌حديث: اضطروهم إلى أضيق الطرق

- ‌الفرح ببعض أخبار الغربيين

- ‌السلام على النصارى

- ‌ذبائح أهل الكتاب

- ‌العمل بسفارة أجنبية

- ‌التحاكم إلى محاكم الكفار

- ‌إهداء المصحف لكافر

- ‌استقدام الخَدَم الأجانب إلى بلاد المسلمين

- ‌استقدام الأجانب إلى البلاد الإسلامية

- ‌عيد المعلم

- ‌حكم إقامة محاضرات عن المسيحعليه السلام في رأس السنة الميلادية

- ‌حكم تحية العَلَم

- ‌كتاب أصول البدع

- ‌التحذير من البدع

- ‌ذم البدع

- ‌التحذير من الابتداع في الدين

- ‌خطر الابتداع

- ‌خطر الابتداع

- ‌خطورة الإحداث في الدين

- ‌كلمة حول معنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم)(كتاب الله وسنتي) وخطورة الإحداث في الدين

- ‌حول ظاهرة مخالفة السنة

- ‌لا بدعة حسنة في الإسلام

- ‌خطورة الابتداع وبيان أنهلا بدعة حسنة في الإسلام

- ‌لا بدعة حسنة في الإسلام

- ‌خطورة الابتداع وبيان أنهلا بدعة حسنة في الإسلام

- ‌قول ابن عمر: من ابتدعبدعة فرآها حسنة

- ‌لا بدعة حسنة في الإسلام

- ‌لا بدعة حسنة في الإسلام

- ‌لا بدعة حسنة في الإسلام

- ‌الاستدلال بقول عمر: نعمت البدعةهي على البدعة الحسنة

- ‌لا بدعة حَسَنة في الإسلام

- ‌باب منه

- ‌قول عمر: نعمت البدعة هذه

- ‌هل في الدين بدعة حسنة

- ‌البدعة والمصالح المرسلة

- ‌المصلحة المرسلة والبدعة

- ‌متى يقال: فلان مبتدع؟ والكلام علىالفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة

- ‌ضابط المصالح المرسلة

- ‌المصالح المرسلة

- ‌متفرقات في أصول البدع

- ‌صاحب البدعة المكفرة

- ‌الرواية عن صاحب بدعة

- ‌ضابط البدعة

- ‌هل العادات تدخل في البدع

- ‌هل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:كل بدعة ضلالة من العام المخصوص

- ‌قاعدة: كل نص عام

- ‌الفرق بين العبادات المطلقة والمقيدة،وأثر ذلك في أبواب البدع

- ‌هل البدعة وصاحبها في النار

- ‌بين البدعة والسنة التركية

- ‌قول بعضهم: البدعة خاصةبالتغيير لا بالزيادة

- ‌الرد على أهل البدع

- ‌هل لأهل البدع توبة

- ‌هل تُترك سنة من السننإذا صارت شعارًا لأهل البدع

الفصل: ‌بين البدعة والسنة التركية

‌بين البدعة والسنة التركية

مداخلة: نسمع من بعض الدعاة أنه يصف بعض سنن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بأنها هيئات وكيفيات، فمن أول من أظهر هذا التفصيل أو هذا التقسيم في السنن؟ وما الرد العلمي عليه في ذلك. جزاك الله خير الجزاء؟

الشيخ: أما أول من سن هذا الاصطلاح ليس عندي علم، كل الذي أعلمه أنه اصطلاح تفردت به الشافعية دون أتباع المذاهب الأخرى.

أما الرد على هذا الاصطلاح فلست من الذين يتحمسون لمناقشة اصطلاح ما، سواء كان هذا أو كان غيره، إلا بعد أن نعرف مغزاه ومرماه، فإن كان المغزى يخالف حقيقة شرعية حينئذ تحمست للرد عليه والكشف عن عواره وعيبه، أما إن لم يكن فيه مثل هذه المخالفة فهاهنا نقول: لكل قوم أن يصطلحوا على ما شاؤوا.

هناك اصطلاحات كثيرة لم تكن معروفة في العصور السلفية الأولى، ثم حدثت.

أعود لأقول: لا مشاحة في أي اصطلاح حدث ما لم يكن مخالفاً للشرع.

نحن نعلم مثلاً أن الفقهاء اتفقوا على تقسيم الأحكام الشرعية إلى خمسة أقسام، هذا الاصطلاح لم يكن معروفاً في قديم الزمان.

ولنقف الآن عند قسم من هذه الأقسام الخمسة وهي السنة، السنة في

ص: 395

الاصطلاح هي غير السنة في الشرع، وأعود لأقول: لا مشاحاة في الاصطلاح، ما دام أن المقصود بالاصطلاح ليس هو ضرب السنة الشرعية أو معاكستها أو نحو ذلك، وإنما بيان حقيقة شرعية.

قلت: السنة في اصطلاح الفقهاء هي غيرها في اصطلاح الشرع، في اصطلاح الفقهاء كلكم يعلم أنهم يعنون ما ليس فرضاً واجباً فهو السنة، هل يوجد في الشرع عبادة ليست فريضة؟ الجواب: نعم، إذاً لا بأس من مثل هذا الاصطلاح إذا أريد به ما ليس فرضاً، أما إذا أريد به ما كان ثابتاً في الشرع فرضاً فأرادوا هم أن يقولوا أنه ليس بفرض، فهنا نخطئهم في إطلاق اصطلاحهم هذا على ما ثبت في الشرع أنه فرض، أما إذا كانوا يطلقونه وهذا هو الغالب على ما ليس فرضاً فإذاً لا مشاحاة في الاصطلاح.

هذه السنة بهذا التعريف المصطلح عليه عند الفقهاء يسمى في لغة الشرع: تطوعاً، ولا شك أنه لو كان لي الخيرة وكان باستطاعتي أن أغير الاصطلاحات والمفاهيم بعد هذه القرون المديدة الطويلة لاستحسنت أن نضع التطوع مكان السنة؛ وذلك لأمرين اثنين:

الأمر الأول: أن هذا الاصطلاح وهو التطوع هو الذي كان معروفاً في عهد الرسول عليه السلام، وهو الذي أَقَرَّه حين سمعه من سائل له، ذلك السائل هو ذلك الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما فرض الله له، فقال له:«خمس صلوات في كل يوم وليلة، قال: هل علي غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوع» .

إذاً: لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكلم الناس بلغتهم، ومن لغتهم تسمية ما ليس فرضاً بتطوع؛ ولذلك لما سأل هذا السائل الذي بين له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله فرض عليه في كل يوم ليلة خمس صلوات، «قال: هل علي غيرهن؟ قال: لا، إلا أن

ص: 396

تطوع»، ما قال له: إلا أن تتسنن، فلا شك أن تعبير النبي صلى الله عليه وآله وسلم خير وأولى وأصح وأدق من أي تعبير آخر.

من أجل هذا وما سيأتي وهو الأمر الثاني: قلت: لو كان لي من الأمر شيء لوضعت لفظة التطوع بديل السنة، ولكن تغيير الاصطلاح الذي ران على عرف الناس وما عرفوا سواه حرب لا طائل تحتها؛ ولذلك نقر هذا الاصطلاح، أي: إطلاق السنة على العبادة التي ليست بفريضة.

أما الأمر الثاني: فهو ما أشرت إليه في مطلع جوابي هذا: أن الاصطلاح في الشرع لهذه الكلمة السنة لا تعني التطوع، وإنما تعني الشريعة بكاملها، بفرائضها وسننها وآدابها وأخلاقها ومعاملاتها، الشرع كله، وذلك صريح جداً في حديث الشيخين في صحيحيهما عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: أن رهطاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاؤوا إلى أزواجه فلم يجدوه عليه السلام، فسألوهن عن عبادته صلى الله عليه وآله وسلم، عن صيامه وقيامه وإتيانه لأزواجه، فكان جوابهن ما هو معروف في السنة، إنه عليه الصلاة والسلام يقوم الليل وينام، ويصوم ويفطر، ويتزوج النساء، انطلاقاً من قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110]، قال أنس: فلما سمعوا جواب نسائه عليه السلام عن عبادته صلى الله عليه وآله وسلم تقالوها، أي: وجدوها قليلة؛ ذلك لأنهم كانوا يتصورون بناء على عقيدتهم الحق أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو سيد البشر وأفضل البشر إذاً ينبغي أن يكون أعبد البشر، وهو كذلك، لكنهم تصوروا أنه لا يكون أعبد البشر إلا إذا كان متعبداً حسب تصورهم للعبادة، كانوا يتصورون العبادة أن يقوم الليل ولا ينام، وأن يصوم الدهر ولا يفطر، وألا يتزوج النساء؛ لأن النساء كما قال الوضاعين على رسول الله:«ضاع العلم بين أفخاذ النساء» ، فإذاً كيف رسول الله يتزوج؟ وكيف ينام الليل ولا يقوم الليل كله؟ وكيف يفطر

ص: 397

ولا يصوم الدهر كله؟ هكذا كانوا تخيلوا ليكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعبد البشر، وهو بلا شك أعبدهم وأكملهم، لكن ليس في حدود تصورهم للعبادة، وقد عبر عن تصورهم الخاطئ هذا قولهم أنهم وجدوها عبادة قليلة، فالرسول ينام الليل لا يصلي طوال الليل، والرسول يفطر ولا يصوم الدهر، والرسول يتزوج النساء ليست واحدة ولا اثنتين ولا أربع بل يجمع بين التسع وتزوج أكثر من تسعة، هذه عبادة قليلة، ثم عادوا إلى أنفسهم

ليعللوا مثل هذه العبادة التي تقالوها بعلة هي أقبح من المعلول، حيث قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لسان حالهم لسان معنى قالهم هذا يقول: لماذا الرسول عليه السلام يجهد نفسه؟ لماذا نحن نبتغي منه أن يقوم الليل كله وأن يصوم الدهر كله وألا يتزوج النساء، ما دام أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ويعيش أحدنا في هذه الحياة الدنيا أليس ليحظى بمغفرة الله عز وجل في الأخرى؟ بلى، إذاً: ما دام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر في وجهة نظرهم الخاطئة إذاً الرسول ما يقوم الليل كله، وو .. إلى آخر ما إلى ذلك مما قالوه خطأً.

فقالوا: أما نحن فليس عندنا وعد من الله أن الله قد غفر لنا، إذاً يجب أن نجتهد، وأن نعزم، وأن نجمع أمرنا، وأن نعبد الله ربنا كل العبادة، لعلنا نحظى بمغفرة الله تبارك وتعالى كما حظي بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقال أحدهم: أما أنا فأصوم الدهر، وقال الثاني: أما أنا فأقوم الليل ولا أنام، وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء.

وسرعان ما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهله فأخبرنه الخبر، خبر الرهط، فخطب عليه السلام في المسجد وقال يكني ولا يفصح عن القوم:«ما بال أقوام يقولون كذا وكذا وكذا» ، يعيد عبارتهم التي قالوها في حق الرسول أنه يقوم الليل وينام،

ص: 398

هذه عبادة قليلة .. إلى آخره، «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا عن رسول الله، وما بال هؤلاء يقولون عن أنفسهم» وهنا مفهوم من الحديث «أما أنا فأقوم الليل ولا أنام، أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر، أما أنا فلا أتزوج النساء، قال عليه السلام: أما إني أخشاكم لله وأتقاكم لله، أما إني أصوم وأفطر، وأقوم الليل وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» .

إذاً: السنة هنا ليس في معناها التي تقابل الفريضة كما اصطلح عليه الفقهاء، وإنما هي الشريعة بما فيها من فعل وهو عبادة، وما فيها من ترك وهو سنة.

هنا أردت أن أقف قليلاً ثم انصرفت؛ لأني تذكرت أنني إن وقفت عند الكلام عن السنة الفعلية والكلام عن السنة التركية سوف نمضي بعيداً وبعيداً جداً عن الإجابة عن أصل السؤال، وهو: الاصطلاح الشافعي في تسمية بعض الأفعال النبوية التي كان عليه السلام يفعلها خاصة في الصلاة بأنها من الهيئات.

فلكي لا نذهب بعيداً عن ختم الجواب عن هذا السؤال، أنصرف الآن عن الكلام الذي عرض لنا آنفاً من ضرورة بيان الفرق بين السنة الفعلية والسنة التركية، وبخاصة أن مثل هذا الاصطلاح أعرف أنه غريب، ولا غرابة في ذلك؛ لأننا نعيش في غربة عجيبة من العلم والبعد عن فقه الكتاب والسنة.

بعد هذا أقول إتماماً للجواب عن ذاك السؤال، ومعذرة فإني أرى وقد التأم الجمع وكثر وبورك فيه أن أعود إلى ما كنت أردت البحث فيه من التفريق بين السنة الفعلية والسنة التركية، لكن هذا بعد أن أختم الجواب عن ذاك السؤال.

فأعود للختم ثم أعود عوداً أحمداً إن شاء الله إلى الكلام عن السنة الفعلية والسنة التركية، سنة الرسول عليه السلام كما سنشرح في قريب من يأتي إن شاء الله، قسمان: سنة فعلية وسنة تركية.

ص: 399

أما الآن فقد كان السؤال عن اصطلاح بعض الفقهاء من المتأخرين على تسمية بعض أفعال الرسول عليه السلام بخاصة ما كان فيها بالصلاة بالهيئات.

فأجبنا بما لا ينبغي الآن إعادة الكلام فيه، وانتهينا إلى أن نقول: أن هذا اصطلاح، ولكل قوم أن يصطلحوا على ما شاؤوا بشرط: ألا يخالفوا في ذلك نصاً شرعياً.

لكني أستهل فأقول: إن تسمية بعض السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة بالهيئة، إذا كان المقصود بها أن هيئة تتعلق بالصلاة فقط لكنه لا ينبغي الاستهانة بها، فلا بأس من مثل هذا الاصطلاح، وأنا أذكر جيداً أن من كبار علماء الشافعية الذين تبنوا هذا الاصطلاح، أي: تسمية بعض السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأحاديث الصحيحة بل والمتواترة كرفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه، وكجلسة الاستراحة عند النهوض من السجدة الثانية إلى الركعة الثانية، هذه السنة أيضاً ثبتت في صحيح البخاري ويدخلونها تحت مسمى الهيئات، مع ذلك نجد الإمام النووي رحمه الله تبارك وتعالى يشدد ويؤكد في ضرورة المحافظة على هذه السنة وعلى تلك، وبخاصة هيئة النهوض من السجدة الثانية، فلا ينبغي أن ينهض فوراً وإنما يجلس السجدة مع أنه يسميها بالهيئة لكنه يؤكد بضرورة الاهتمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ثبت أنه كان يفعلها دون أن يتهاون بها.

إذاً: إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل سنة ولم يتركها فمن السنة أن نفعلها وألا نتركها، ولا علينا بعد ذلك هل سميناها سنة أم سميناها هيئة.

إذاً: لا مشاحاة في الاصطلاح لكن الحقيقة أن الأمر المهم إنما هو معرفة أن هذه الهيئة من أين جاءت؟ بأي حديث ثبتت؟ إن كان بحديث صحيح ويعطي دوام الرسول واستمراره على ذلك فنحن نستمر على ذلك ولا يضرنا بعد ذلك

ص: 400

أن يسميه بعض الفقهاء بأنها سنة وبعضهم يسمونها بأنها هيئة.

ختاماً أقول كما قلت في أول الكلام: لا ضرورة هناك للرد على هذا الاصطلاح، وإنما المهم فيه تماماً توجيه هذا الاصطلاح إلى ما يتطلبه من العمل بما يسمونه بالهيئة.

لعلني أجبت عن هذا السؤال إن شاء الله.

مداخلة: بارك الله فيك.

الشيخ: وفيك إن شاء الله.

مداخلة: قلتم

عليه.

الشيخ: أقول بالنسبة للسؤال انتهى أو لا، أما هذه سنعود إليها قلت آنفاً، وأنا ذاكر، وما أنا لي أن أنسى بعد. انتهى هذا

مداخلة: جزاك الله خير.

الشيخ: إذاً احفظ ما عندك من سؤال ثان وربما ثالث لأفي بوعدي السابق.

مداخلة: طيب.

الشيخ: وهو الكلام حول السنة الفعلية والسنة التركية.

هذا أيضاً اصطلاح ربما كثير من الحاضرين ما سمعوا عمرهم وحياتهم أن هناك سنة تركية، وإنما هذه السنن المعروفة سنن فعلية، لكن الحقيقة أن هذا الاصطلاح مهم جداً؛ لأنه يعني أن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يعني: أن هناك من العبادات التي يتوهمها كثير من الناس أنها من العبادات وهي ليست من العبادات، وهم مع ذلك يتقربون بها إلى الله عز وجل، لماذا؟

ص: 401

لأن السلف ونحن ندعي ونرجو أن نكون عند دعوانا أننا نتبع السلف؛ ذلك لأن أهل العلم يقولون: وكل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف، أقول: وذلك لأن بعض السلف في الأولين من الصحابة الموقرين الممجدين وعلى رأسهم حذيفة بن اليمان، صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول تأييداً لما قلناه آنفاً من أن السنة قد تكون تركية، أي: تركها الرسول عليه السلام وما فعلها، فنحن لا نفعلها، ولو كان مظهرها مظهر عبادة من العبادات، بل قد تكون هي حقيقة عبادة في ذاتها ولكن خرجت عن كونها عبادة حينما وضعت في غير الموضع الذي وضعها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بوحي من الله تبارك وتعالى، قال حذيفة بن اليمان:«كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله عليه وآله وسلم فلا تتعبدوها» أي: لا تتقربوا بها إلى الله عز وجل؛ ذلك لأنها ليست عبادة، أنتم تظنونها عبادة لكن الدليل على أنها ليست عبادة؛ لأنها لو كانت عبادة لجاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهنا حقيقة يحياها المسلمون جميعاً في قلوبهم ولكنهم مع ذلك الكثيرون منهم يميتونها ويحيونها بأفعالهم، ذلك أننا لولا بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ربنا إلينا ما كنا نعرف شيئاً من هذا الإسلام الذي أكرمنا الله به، وإذا كان الله تبارك وتعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فيقول له:{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى: 52]، ترى نحن كنا ندري ما الكتاب والإيمان لولا أن الله عز وجل أرسل إلينا رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن دراه ربنا وأعلمه وبين له وهداه، كما قال تعالى:{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7]، إذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة القرآن الكريم يخاطبه رب العالمين بلسان عربي مبين:{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7]، ترى نحن كيف كنا نكون لولا دعوة رسول الله

صلى الله عليه وآله وسلم إيانا؟ لولا أننا اهتدينا به بإرسال ربنا عز وجل إياه إلينا.

إذاً: الأمر كما قال أيضاً بعض السلف، أشك الآن هو أحد العبادلة إما عبد الله

ص: 402

بن عمر وإما عبد الله بن عباس، أو لعله غير هؤلاء العبادلة، يقول جواباً لسائل: ما بالنا نجهر في بعض الصلوات ونسر في بعض الصلوات الأخرى؟ قال: يا أخي نحن ما كنا ندري شيئاً، فنحن نفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نجهر حيث جهر ونسر حيث أسر، هذا وهو كمثال بسيط جداً، وهو مفهوم لكل مسلم مهما كانت ثقافته أو كان فقهه ضحلاً وقليلاً فهو يعلم أننا نجهر حين نجهر إنما نجهر لأن الرسول فعل، وحينما نسر ولا نجهر لأن الرسول ترك، إذاً: السنة سنتان، لكن هذه قاعدة يجب تعميمها في كل الأمور التي نريد أن نتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى، والأمثلة في ذلك كثيرة وكثيرة جداً، وهي معلومة فقهاً لكنها مجهورة فعلاً.

مثلاً: الصلوات الخمس يؤذن لها، والحمد لله لا تزال هذه السنة قائمة وشائعة ومعروفة في بلاد الإسلام كلها، الأذان للصلوات الخمس، وإن كان مع الأسف الشديد وأجد نفسي مضطراً شرعاً أن أقول وأن أذكر والذكرى تنفع المؤمنين، أن هذا الأذان الذي لا يزال معمولاً به في كل بلاد الإسلام، لكنه مع الأسف الشديد في عاصمة هذه البلاد وهي الأردن قد ضيق من دائرة الأذان، حيث جعلوه مع الأسف ولا أدري من يحمل وزر هذه البدعة التي بدعوها في هذا البلاد دون بلاد الإسلام كلها، حيث لا تسمع في مساجد البلد، وهذا البلد والحمد لله من أشهر البلاد الإسلامية في كثرة مساجدها، ومع ذلك لا تسمع إلا أذاناً واحداً، وأذاناً مذاعاً، ربما يكون من مؤذن فعلاً لكن يذاع بالإذاعة وقد يذاع في شريط، وهذا يكون أبعد عن السنة، فالشرع شرع لنا أن نؤذن في كل مسجد؛ لأن الأذان شعيرة من شعائر الله تبارك وتعالى، ولا أريد أن أطيل الكلام في هذه المسألة؛ لأن الغرض هو التذكير بأهمية هذه القاعدة، وهي: أن ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العبادات فهو قربة لنا وطاعة منا لربنا، وما تركه من العبادات فليس لنا أن نفعل

ص: 403

ذلك بدعوى أنها عبادة.

مثال: يؤذن للصلوات الخمس فهل يؤذن لصلاة العيدين؟

الجواب: لا، لماذا؟ وقد يقول عقل بعض الناس: والله والناس يوم العيد بحاجة إلى أن يسمعوا الأذان في وقت العيد أكثر من أيش وهو الأذان وقت الظهر أو العصر، مع ذلك لا أذان لصلاة العيدين، لماذا؟

ذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترك الأذان في العيدين فتركه المسلمون.

كذلك تنكسف الشمس في النهار والناس غارقون في أعمالهم .. في وظائفهم .. في دوائرهم .. في محالهم، فالعقل أي عقل؟ العقل اللاشرعي، أي: الذي لا ينظم عقله مع شرعه الذي دان لله به، هذا العقل مجرد عن اتباع الشرع يقول: يا أخي لماذا لا يشرع الأذان حينما تنكسف الشمس والناس منشغلون في أعمالهم؟

الجواب: لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما سنَّ لنا هذا الأذان لصلاة كسوف الشمس.

أكثر من هذا خسوف القمر في الليل، ينخسف القمر ربما في نصف الليل والناس غارقون في نومهم، مع ذلك لا يشرع ولا يسن للمسلمين، وإلى اليوم والحمد لله ما خطر في بال أحد من المسلمين أن يبتدع أذاناً لصلاة العيد أو صلاة كسوف الشمس أو خسوف القمر، لماذا؟

لأن معنى هذا التشريع لهذا الأذان في مثل هذه العبادات استدراك على الشارع الحكيم، استدراك كأن الله كان غافلاً عن تشريع مثل هذا الأذان في مثل هذه العبادات، أو أن الله عز وجل شرع لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم الأذان في هذه الصلوات الثلاث التي ذكرتها آنفاً لكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما بلغ أمته ذلك، هذا وذاك مستحيل، أما فيما

ص: 404

يتعلق بالله رب العالمين فالأمر كما قال في كتابه الكريم: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، أما بالنسبة للنبي عليه السلام لو فرض أن الله أمره بأن يبلغ الناس الأذان في هذه الصلوات الثلاث فهل كان لا يبلغ؟ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].

إذاً: المسلمون جميعاً يعلمون يقيناً كما أنهم ينطقون أن الأذان لهذه الصلوات ما سنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين؛ ولذلك ما ابتدعها المسلمون، تركوها كما تركها الرسول عليه السلام.

والأمثلة كثيرة وكثيرة جداً، حسبكم الآن لنذكركم بصحة هذه القاعدة بهذه الأمثلة التي ذكرتها آنفاً، ولكن ما ثمرة التذكير بهذه القاعدة؟

ثمرة التذكير: أن المسلم لا يتقرب إلى الله بما وجد عليه الناس، وإنما بما كان عليه سيد الناس، ألا وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحينئذ فينبغي للمسلمين كافة أن يكونوا على علم بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سواء ما كان منها سنة فعلية أو كانت سنة تركية، أنا أريد الآن أن أضرب لكم مثلاً من واقع المسلمين كيف أنهم يتركون سنناً فعلية ويفعلون سنناً تركية، قلبوا الحقيقة كما يقال ظهراً لبطن.

مثلاً: صلينا في هذا المسجد وفي كثير من مساجد هذه البلد أو البلدة والبلاد الإسلامية الأخرى فنجد الناس في غفلتهم ساهون، يصلون كيف ما اتفق لأحدهم، هناك عندنا سنة بل أقول فريضة وليس سنة اصطلاحية فريضة أو أمر واجب يخل به جماهير المصلين وأعني ما أقول، أي: أكثر المصلين يخلون بما أمر به الرسول عليه السلام وبما فعله أصحابه الكرام.

أختصر الآن على مثلين اثنين حتى نتوجه فيما بعد إن شاء الله للإجابة عن

ص: 405

بعض الأسئلة التي هي عند بعض إخواننا، وقد يحضر في أذهان بعض الحاضرين أسئلة أخرى.

أضرب لكم الآن مثلين من السنن الفعلية أعرض عنها جماهير المصلين، أما السنن التركية التي يفعلها المسلمون فحدث عنها ولا حرج فهي بالمئات بل بالألوف إن لم نقل بالملايين، يدخل المصلي إلى المسجد فيصلي، سواء تحية المسجد أو يقوم يصلي سنة الوقت السنة القبلية، فيصلي حيث هو، إذاً أين يصلي؟ ينبغي أن يصلي إلى سترة، ينبغي أن يصلي إلى جدار، إلى أي شيء منتصب أمامه، ذلك مما يسمى في لغة الشرع بالسترة، قال عليه الصلاة والسلام:«إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة لا يقطع الشيطان عليه صلاته» ، هذا أمره، وهناك أمر ثان يحدد الاقتراب من هذه السترة، آنفاً رأيتُ أحد إخواننا الحاضرين في هذه الجلسة والذي أظن به أنه من أنصار السنة ومن أتباع السلف الصالح، اقترب معنا إلى السترة؛ لأنه يعلم أنه لا بد من الاقتراب إلى السترة، لكنه لم يطرق سمعه أو لم يمر بصره على مثل الحديث الثاني وهو قال عليه الصلاة والسلام:«إذا صلى أحدكم فليدن من سترته» فهو دنا من السترة فعلاً لكن فاته الحديث الفعلي الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام يصلي يكون بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع بين قيامه وبين السترة ثلاثة أذرع. حديث آخر: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سجد كان بينه وبين السترة ممر شاة.

إذاً: لا ينبغي أن تلصق رأسك بالسترة، وهذا ما فعله الأخ المشار إليه آنفاً، وإنما يجب أن يضع فرجة فجوة بينه وبين السترة.

فالآن اليوم الناس على طرفي نقيض، جاء يصلي في منتصف المسجد وبينه وبين السترة بعد المشرقين، لماذا؟

ص: 406

لأنه جاهل بالسنة، يصلي كما وجد الآباء والأجداد يصلون، كيف ما اتفق، فاسمعوا قول نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم وفعله هذه السنة فعلية:«إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، إذا صلى أحدكم فليدن من سترته» ، لا تصلي كيف ما ترى، إذا صليت بالعراء لا ينبغي أن تصلي في العراء في الصحراء كيف ما اتفق لك، وإنما يجب أن تجد لك هدفاً شجرة أو صخرة أو حجراً ناتئاً من الأرض فتصلي إليه، كل هذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه السنة فعلية أصبحت بسبب جهل المسلمين سنة تركية، تركوها وأعرضوا عنها.

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سنته الفعلية أيضاً، وهذه السنة سنذكركم بها كانت في هذه البلدة إلى عهد قريب سنة تركية، وهي صلاة العيدين في المصلى خارج المساجد، كانوا من قبل عشر سنوات يصلون العيدين في المساجد كصلاة الجمعة والصلوات الخمس، أخيراً بسبب الدعاة إلى السنة عرف جماهير المصلين والدعاة الإسلاميين أن ما كانوا عليه من قديم هم كانوا قد أماتوا سنة فعلية، أي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعهد إطلاقاً أنه صلى صلاة العيدين في المسجد وإنما كان يصليهما في المصلى، في المصلى لا يوجد جدار ولا يوجد أي سترة، فكان عليه الصلاة والسلام يأمر بلالاً فيغرز عصاة له عليه السلام يغرزها على الأرض فيصلي إليها، هذا كله ثابت في صحيح البخاري وصحيح مسلم أيضاً.

والناس عن هذا كله هم كلهم أيضاً غافلون، فهذه يجب أن تنتبهوا لها، فإذا دخلتم المسجد وأردتم صلاة التحية أو السنة القبلية ألا تصلوا هكذا هنا في الوسط، لا، تقتربون إلى الجدار القبلي .. إلى عمود في المسجد لا بأس .. إلى شخص يصلي بين يديك فأنت تتخذه سترة، فلا يشكل على بعضكم كما سمعنا ذلك مراراً وتكراراً، كلهم توجهوا إلى الجدار القبلي والآخرون يستقبلون ماذا؟

ص: 407

يستقبلون الذين بين أيديهم، المهم أن يصلي إلى سترة. هذا هو الأمر الثاني الذي هو من السنن الفعلية صارت بسبب جهل الناس سنة تركية، فأعظكم أن تكونوا من الغافلين معرضين عن هذه السنة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمركم بها.

السنة الأخرى وهي من غرائب هذا الزمان، تعلمون جميعاً أن من السنة إذا كانت الصلاة جهرية، فإذا فرغ الإمام من قراءة الفاتحة فمن السنة أن يرفع صوته بآمين، وكذلك أن يؤمن من خلفه، وقد رتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وراء تأمين المقتدين مع الإمام أجراً عظيماً جداً، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا أمن الإمام فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» .

هذا الحديث لو تأملتم فيه لوجدتم أنفسكم في خطأ عجيب غريب جداً، هو عليه السلام يقول:«إذا أمن الإمام فأمنوا» ، وهذا الأمر على ميزان قوله:«إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا» ، سبحان الله! لا فرق بين ذاك الأمر وبين هذا الأمر، هذا الأمر يقول:«إذا كبر فكبروا» لا أحد والحمد لله من المقتدين يكبر قبل تكبير الإمام، سواء تكبيرة الإحرام أو تكبيرة الانتقال إلى الركوع أو السجود أو غير ذلك، وهذا والحمد لله تطبيق لهذا الأمر، «إذا كبر الإمام فكبروا» ، لكن ما الفرق بين هذا الأمر والأمر الأول:{إذا أمن الإمام فأمنوا} ؟

الآن تجد المؤمِّنين يسبقون الإمام بآمين، لماذا؟

لأنهم في غفلتهم ساهون، لا يلقون بالهم لقراءة الإمام، لا ينتبهون لقوله:{وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، ثم لا يدعونه يأخذ نفساً ليقول من بعد فراغه من قراءة:{وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] يقول: آمين، إلا ويكون هم سبقوه بآمين. ماذا

ص: 408

أصاب المسلمين بهذه المسابقة؟ !

أولاً: خسروا المغفرة التي لو عاشها المسلم حياة نوح عليه السلام وهو في طاعة الله وفي عبادة داود عليه السلام الذي شهد له نبينا صلوات الله وسلامه عليه بأنه كان أعبد البشر، لو عاش أحد من البشر وكان كداود أعبد البشر وعاش حياة نوح عليه السلام ليحظى بمغفرة الله عز وجل لكان الثمن قليلاً، فكم يكون فضل الله عز وجل على المسلمين حينما قال لهم: أيها المصلون، هذا شرح للحديث طبعاً، حينما قال للمصلين: أيها المصلون انتبهوا لقراءة إمامكم، واجعلوا عقولكم وبالكم في قراءة إمامكم، فإذا انتهى من قراءة:{وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فاحبسوا أنفاسكم حتى تسمعوا إمامكم قد شرع ليقول: آمين، فقولوا معه: آمين، فإنكم إن قلتم معه آمين قالت الملائكة الذين هم في المسجد معكم وفي السماء أيضاً يصلون بإمامكم يقولون أيضاً معكم آمين، فحينما تلتقي هذه الآمينات إذا صح التعبير، آمين الإمام .. آمين المقتدين .. آمين الملائكة المقربين، غفر الله لهؤلاء.

هذا ثمن قليل جداً بالنسبة لهذا الأجر العظيم من رب العالمين.

فإذاً: هؤلاء الذين يسبقون الإمام بآمين أولاً: خسروا هذه المغفرة، لو أنهم وقفوا عند هذه الخسارة لكانت المصيبة أقل، لكنهم أثموا وقعوا في الإثم .. وقعوا في الذنب؛ ذلك لأنهم سابقوا الإمام .. خالفوا أمر الرسول عليه السلام الذي يقول: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى جالساً فصلوا قعوداً أجمعين، كذلك إذا أمن فأمنوا، فالذي يسابق الإمام في شيء من هذه الأوامر فهو

ص: 409

آثم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام أو كما قال عليه السلام: مثل الذي يسجد قبل الإمام فهو كالحمار. يشبه الحمار البليد الذي لا ذهن له والعقل هذا الذي يسابق الإمام بسجوده، فيخشى على هذا السابق للإمام في سجوده أن يقلب الله وجهه وجه حمار، فإذاً: هؤلاء الجماهير من المصلين الذين يسبقون الإمام بآمين خسروا مرتين: المرة الأولى: ما حصلوا مغفرة الله، المرة الأخرى: وقعوا في معصية الله عز وجل، لماذا؟

لأن الناس في غفلتهم ساهون.

لذلك أنا أقول لكم مذكراً وناصحاً: يجب أن تعلموا أن شريعة الله عز وجل كاملة، وأنه لا مجال لأحد أن يستدرك عبادة واحدة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأنزل الله عز وجل عليه قوله تبارك وتعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3]، هذه الآية لو علم المسلمون قدرها لكانت دائماً متركزة ثابتة في قلوبهم، ولو أنها كانت كذلك لم يتجرأ أحد منهم أن يقول للعالم حينما يحذر المسلم من أن يتعبد وأن يتقرب إلى الله بسنة تركية لتورع ذلك المسلم لو كانت الآية ثابتة في قلبه أن يقول للعالم: يا أخي ماذا فيها؟ ماذا فيها؟ ! فيها أنك تزعم بلسان الحال ولو لم تقل بلسان المقال: أن الرسول عليه السلام ما نصحك، ما بلغ الأمانة والرسالة كاملة، وإلا كيف تتصور عبادة أنت تتعبدها وتتقرب بها إلى الله، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يفعلها.

هذه الآية لقد عرفها أهميتها رجل كان من كبار أحبار اليهود وعلمائهم الذين هداهم الله عز وجل للإسلام فأسلموا، وهو كعب الأحبار، جاء ذات يوم إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين! آية في كتاب الله لو

ص: 410

علينا معشر يهود نزلت لاتخذنا يوم نزولها عيداً، قال: ما هي؟ فذكر هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3]، قال عمر: أنا من أعلم الناس بذلك، لقد نزلت في يوم عيدين، رسول الله في عرفة وفي يوم الجمعة، نزلت هذه الآية ورسول الله على عرفات، أي: في حجة الوداع، وكان يوم عرفة يومئذ يوم جمعة، فكأنه يقول لذلك اليهودي الذي أسلم: أبشر بكل خير فذلك الذي تمنيته قد أجراه الله عز وجل، فأنزل هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة وهو في عرفة.

إذاً: معنى هذا الكلام: أن الله يمتن على عباده المسلمين بأن الدين كامل، لا يحتاج إلى أن يستدرك أحد ولو عبادة واحدة؛ لذلك قال عليه الصلاة والسلام كشرح وبيان وتفسير لهذه الآية:«ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به، وما تركت شيئاً يبعدكم عن الله ويقربكم إلى النار إلا ونهيتكم عنه» ، وكذلك يقول عليه السلام مبيناً أن هذا البيان ليس أمراً خاصاً برسولنا خاتم الرسل والأنبياء، بل ذلك كان واجب كل نبي؛ لأن الله عز وجل بعثه هداية للعالمين في كل زمان، أما رسولنا فبعثه هداية للعالمين حيث لا نبي بعده، فقال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم:«ما بعث الله نبياً إلا كان حقاً عليه أن يبين لأمته كل خير ما يعلمه» ، عليه الصلاة والسلام، سواء كان متقدماً أو متأخراً، «ما بعث الله نبياً إلا كان حقاً عليه أن يبلغ أمته ما يعلمه من الخير» ، ورسولنا صلى الله عليه وآله وسلم من هؤلاء الأنبياء الذي جاء برسالة كاملة لا رسالة بعدها ولا نبي بعده عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك لم يبق للمسلمين أن يجتهدوا في العبادات، أما الاجتهاد في المعاملات التي تتكرر وتجدُّ وتتنوع وتختلف من إقليم إلى إقليم ومن بلد إلى آخر، فهنا الاجتهاد، أما الاجتهاد في العبادات فقد كمل الأمر، فلا اجتهاد كما يقول الفقهاء في مورد النص، إذا علمتم هذه الحقيقة عرفتم أن دعوة الحق من

ص: 411

الدعوات الكثيرة التي تسمعون اليوم صياحات حولها كثيرة وكثيرة جداً، هي الدعوة التي تأمر المسلمين جميعاً إلى أن يرجعوا في دينهم إلى كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى منهج السلف الصالح الذين اهتدوا بهديه عليه الصلاة والسلام، وما زادوا عليه ولا قطميراً، ما زادوا عليه شيئاً لا كبيرة ولا صغيرة.

وأختم هذه التذكرة بالقصة التي رواها الإمام الدارمي في سننه المعروف بالمسند خطأ إنما هو السنن: روى بإسناده الصحيح: أن أبا موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه جاء صباح يوم إلى منزل عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، فوجد الناس ينتظرونه لينطلقوا معه إلى المسجد. وهنا لي وقفة بسيطة جداً: يدلنا هذا الأثر على حرص السلف في صحبة أهل العلم واغتنام الفرص التي قد لا يتمكنون من مصاحبة العالم في كل وقت يسمح لهم؛ ولذلك فكانوا يهتبلون الفرصة التي يمكنهم أن يصاحبوا العالم ولو من دراه إلى مسجده، لعلهم يقتطفون منه ثمرة من علمه.

أبو موسى حينما جاء إلى دار ابن مسعود وجد الناس ينتظرونه، قال: اخرج أبو عبد الرحمن؟ قالوا: لا، فجلس ينتظره حتى خرج، فقال أبو موسى وهو صحابي جدير كابن مسعود قال: يا أبا عبد الرحمن! هذه كنية عبد الله بن مسعود، لقد رأيت في المسجد آنفاً شيئاً أنكرته، ومع ذلك والحمد لله لم ير إلا خيراً. انظروا الآن في كلمتين ظاهرهما التباين، قال: شيء أنكرته ومع ذلك والحمد لله لم أر إلا خيراً. كيف يمكن أن يكون خيراً وكيف يمكن أن يكون منكراً؟

إذا عرفتم السنة التركية فهو المنكر، وهذا الذي سترونه في تمام هذه القصة.

قال ابن مسعود: ماذا رأيت؟ قال: إن عشت فستراه، رأيت في المسجد أناساً

ص: 412

حلقاً حلقاً، وفي وسط كل حلقة منها رجل يقول لمن حوله: سبحوا كذا، احمدوا كذا، كبروا كذا، وأمام كل رجل حصى يعد به التسبيح والتكبير والتحميد. ما كاد ابن مسعود يسمع هذا الوصف إلا وبادر إلى القوم مخاطباً أبا موسى فقال: ألا أنكرت عليهم؟ ماذا ينكر عليهم؟ التسبيح والتحميد وسبحان الله والحمد لله، جاء في أحاديث كثيرة جداً: أربع كلمات بعد القرآن هي أربع كلمات لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أفضل الكلام بعد القرآن أربع كلمات لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ماذا كان يفعل أصحاب الحلقات؟ كانوا يسبحون ويحمدون ويكبرون .. إلى آخره، كيف ابن مسعود يقول لأبي موسى: أفلا أنكرت عليهم؟

قال .. وهذا أدب العالم مع العالم، فكيف يكون أدب الطالب للعلم مع العالم؟ ! لا شك أنه سيكون أسمى وأعلى من هذا الأدب؛ لأن كلاً من الصحابيين علماء، ابن مسعود وأبو موسى، لكن أبو موسى يعترف بعلم ابن مسعود أنه أعلى وأسمى من علمه؛ ولذلك قال له: ما تجرأت على الإنكار لما رأيت مما يستحق الإنكار حتى آخذ رأيك.

قال: أفلا أنكرت عليهم وأمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، بدل ما يعدوا على الله يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم ألا يضيع من حسناتهم شيء؟ قال: لا، انتظار أمرك أو انتظار رأيك.

فرجع ابن مسعود إلى داره وخرج متلثماً؛ لكي لا يعرف، وذهب تواً إلى المسجد، وفعلاً رأى الحلقات التي وصفها له أبو موسى.

قال لهم: ويحكم ما هذا الذي تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! وكشف عن وجهه اللثام، قال: أنا عبد الله بن مسعود صحابي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما هذا الذي

ص: 413

تصنعون؟ قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن! حصى نعد به التسبيح والتكبير والتحميد، قال: عدوا سيئاتكم، وأنا الضامن لكم ألا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم ما أسرع هلكتكم، هذه ثيابه صلى الله عليه وآله وسلم لم تبل، وهذه آنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده أئنكم لأهدى من أمة محمد، أي: أصحاب محمد، والذي نفسي بيده أئنكم لأهدى من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو أنكم متمسكون بذنب ضلالة. هو يقول: أنتم بين أحد شيئين: إما أنكم أهدى من أصحاب الرسول وأنا منهم وهذا صاحبي أبو موسى منهم، وهذا بطبيعة الحال مستحيل، إذاً لم يبق لكم إلا الأخرى وهي: أنكم متمسكون بذنب ضلالة. وهذه من فصاحة اللغة العربية، ما قال لهم: متمسكون بضلالة، لو قال لهم ذلك فحسبهم، لكنه من باب التبكيت ومن باب شدة الإنكار قال لهم: أنتم لستم متمسكون بضلالة بل وبذنب ضلالة.

اسمعوا ماذا كان جوابهم لتتذكروا الآن أن هذا الجواب هو الذي يطرح في هذا الزمان أمام دعوة الحق دعوة اتباع الكتاب والسنة دون زيادة أو نقص.

قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. ألا تسمعون هذا الكلام كلما أنكر على إنسان بدعة قيل: يا أخي ماذا فيها نحن نريد ذكر الله .. نريد الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

فالجواب السلفي هو الذي ستسمعونه من كلام هذا الإمام السلفي الذي هو من السابقين الأولين الذين آمنوا بالله ورسوله، هو عبد الله بن مسعود، لما قالوا له: والله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير. قال -وهو العبرة-: وكم من مريد للخير لا يصيبه، وكم من مريد للخير لا يصيبه، {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 5]، كم من مريد للخير لا يصيبه، كون هذا خير وكون هذا شر، كون هذا فرض وهذا سنة، كون هذه سنة وهذه بدعة، ما هو طريق معرفة هذا من هذا،

ص: 414

تمييز هذا من هذا؟ أهو العقل أم الشرع؟

لا شك أن الجواب: هو الشرع؛ ولذلك فهو يرد عليهم: أنتم أردتم الخير لكنكم ما سلكتم طريق الخير، كم من مريد للخير لا يصيبه.

على وزان قول الشاعر الذي قال قديماً:

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها

إن السفينة لا تجري على اليبس

الذي يريد أن يجري السفينة لا بد أن يضعها في مجراها، يعني: في طريقها، يعني: في مائها، وليس في سهلها ووعرها .. ونحو ذلك.

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها

إن السفينة لا تجري على اليبس

قال ابن مسعود: وكم من مريد للخير لا يصيبه، إن محمداً. انظروا العبرة. إن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حدثنا:«أن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم» أي: لا يدخل إلى قلوبهم، «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» ، ما معنى هذا الحديث؟

هذا أيضاً بلسان سيد العرب والعجم عليه الصلاة والسلام، يقول:«إن ناساً من المسلمين يقرؤون القرآن بألسنتهم ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» ، إذا كان الرامي قوي العضلات ورمى حربته أو سهمه وأصاب فريسته فإنها تدخل وتخرج بسرعة إلى الطرف الثاني، هكذا يمرق الناس من الدين، قال ابن مسعود إنه سمع الرسول يقول:«إن أقواماً يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم» لا يصل إلى قلوبهم «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» .

قال الذي روى هذه القصة: فلقد رأينا أولئك الأقوام يقاتلوننا يوم النهروان.

ص: 415

انتهت القصة. العبرة من هذه القصة مما يناسب الكلمة السابقة التي أن الشريعة كلها إما فعل وإما ترك، وأن الفعل والترك ليس بعاداتنا ولا أهوائنا ولا تقاليدنا، وإنما هي أو هو باتباعنا لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم.

نجد في هذه القصة أن ابن مسعود أنكر على أصحاب الحلقات، الآن أريد أن أشرح لكم موضوع الإنكار، ليس هو التسبيح والتحميد والتكبير بذاتها، وإنما لأنها كيفت بكيفية لم تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

أول كيفية: أن شيخاً تريث، أي: نصب نفسه رئيساً وقائداً وأميراً، لأي شيء؟ لذكر الله، وما أسهل ذكر الله، وكل ما كان الإنسان بعيداً عن المجتمع وذكر الله خالياً، وهذا يذكرني بأنني أنسيت فقرة من الحديث الذي تلوته على ما مسامعكم آنفاً:«سبعة يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله» أنسيت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، أن أذكر من أولئك السبعة، وهو تمام رقم السبعة:«ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه» .

إذاً: ما في حاجة لشيخ من المشايخ يتمشيخ ويريس حاله على بعض الدراويش طيبين القلوب ويقول لهم: اذكروا كذا، احمدوا كذا، كبروا كذا، ما هو مُشَرِّع، رسول الله ليس مُشَرِّعاً إنما هو مبلغاً عن الله عز وجل، إنما هو سن لنا بوحي السماء كيف نعبد ربنا، فأول إنكار في هذه المظاهر التي أنكرها ابن مسعود هو أن هذا الشيء نصب نفسه كمشرع لهؤلاء الذين حوله، ولا ينبغي لمثله أن يفعل هذا؛ لأن ذكر الله أمر سهل، وأفضله أن يكون خالياً:«ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه» . هذا أول الإنكار في تلك القصة.

الشيء الثاني: أنهم جمعوا الحصيات، لماذا؟

حتى ما يضيع عليهم تسبيحة، هو يقول لهم مثلاً: احمدوا خمسين، لازم بقى

ص: 416

هذا الدرويش الذي هو من الدراويش الذين حول هذا الشيخ لازم ما يخطئوا العدد، لازم يكون خمسين، هو رسول الله، رسول الله قال لنا وصدقناه واتبعناه بإيمان خالص، «من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، ثم قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر» ، قال لنا رسول الله هذا واتبعناه.

أما أن يأتي شيخ بل فريخ ويأتي يقول: سبح كذا، نقول له: آمين، نصدقه، معناه: أنه جعلناه شريكاً مع الله، والله عز وجل أنكر بنص القرآن الكريم على الضالين والمغضوب عليهم من اليهود والنصارى والمشركين فقال في حقهم أجمعين:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31]، فاليهود عبدوا المسيح من دون الله، ليس فقط لأنهم جعلوه قسماً من ذات الله عز وجل، بل وزعموا بأنه كان يشرع مع الله، وما هو إلا رسول من الله تبارك وتعالى، اليهود كذلك؛ ولهذا وجدنا اليهود والنصارى شريعتهم دائماً في تجدد في تغير؛ لأنها ليست كما أنزلت، وإنما غيروا فيها وبدلوا، لكن الله عز وجل صان شريعته التي أنزلها على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتعاهد بحفظها بقوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، بمثل هذه القواعد التي ذكرناكم ببعضها عن السلف، وجاء عن هذا السلفي الأول عبد الله بن مسعود لينكر على هؤلاء المبتدعة الذين اتخذوا هيئات لذكر الله، هذه الهيئة هي التي أنكرها ابن مسعود، وليس لذات التسبيح والتحميد والتكبير.

فذكرنا أولاً: أن هذا الشيخ نصب نفسه موجهاً ليذكروا الله، وليسوا هم بحاجة بعد بيان الرسول عليه السلام لذكر الله.

ص: 417

ثانياً: جمعوا حجارة ليعدوا على الله؛ ولذلك قال لهم: عدوا سيئاتكم، وأنا الضامن لكم ألا يضيع لكم من حسناتكم شيء.

الشيء الثالث والأخير لعله: أعرضوا عن العد، وهذه مصيبة لا تزال موجودة بين المسلمين اليوم، أعرضوا عن عد الذكر المشروع بالأنامل، الآن تجدون الدراويش وأمثال الدراويش من المشايخ يعدون التسبيح دبر الصلوات بالسبحة، السبحة هذه تطورت مع الزمن من حجارة أولئك الخوارج، العبرة بعد ما كملت.

هؤلاء إذاً عرفنا أن ابن مسعود أنكر عليهم ليس لخصوص الذكر من تسبيح وتحميد وتكبير، وإنما لما أحاط بهذا الذكر من إحداث ومن ابتداع لم يكن في عهد الرسول عليه السلام؛ لذلك قال لهم منكراً عليهم أشد الإنكار: والذي نفسي بيده أئنكم لأهدى من أمة محمد، الذي لم يكن فيه مثل هذه الحلقات، أو إنكم متمسكون بذنب ضلالة.

هذا هو الشرح موضع الإنكار، من ابن مسعود فلا يقولن غافل من الغافلين ماذا فعل هؤلاء يا أخي؟ ما ابتدعوا شيئاً إنما هو التسبيح والتكبير والتحميد؟

لا لقد ابتدعوا كيفية، هذه الكيفية هي التي أنكرها ابن مسعود.

أما العبرة أقول: اقتباس من هذه القصة قولاً قياساً على قول الفقهاء والعلماء يقولون: الصغائر بريد الكبائر، الصغائر، الذنوب الصغائر بريد الكبائر، أي: من اعتاد أن يواقع المعصية الصغيرة فسيتدرج معها إلى المعصية الكبيرة؛ لأن المعاصي ليس لها حدود مادية مجسمة بحيث الإنسان يقف عندها ثم لا يجر من ورائها إلا معصية كبيرة.

ولذلك نهى الرسول عليه السلام المسلمين أن يستحقروا وأن يتهاونوا ببعض المعاصي من الذنوب الصغائر، قال عليه السلام: «إياكم ومحقرات الذنوب؛

ص: 418

فإنها إذا اجتمعت أحرقت» أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

الشاهد: فكما يقول الفقهاء: من الذنوب الصغائر هي بريد الكبائر، فأنا أقول اقتباساً من قصة ابن مسعود ومما وقع لأولئك المبتدعة: أن البدعة الصغيرة هي بريد للبدعة الكبيرة، هؤلاء أصحاب الحلقات الدراويش هؤلاء ماذا كانوا يفعلون؟

عرفنا بدعتهم كيفية ليست ذكرية؛ لأن هذا الذكر منقول عن الرسول عليه السلام، إلى أين أدت بهم هذه البدعة؟

إلى البدعة الكبرى وهي الخروج على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، حيث قال راوي القصة: فلقد رأينا أولئك الأقوام يقاتلوننا يوم النهروان. يوم النهروان هي المعركة التي وقعت بين علي رضي الله عنه وهو الخليفة الراشد الرابع وبين الخوارج الذين خرجوا على أميري المؤمنين، فقاتلهم علي رضي الله عنه مضطراً؛ لأنهم بدؤوا هم القتال، كيف صار هذا؟

البدعة الصغيرة تؤدي إلى البدعة الكبيرة بطريق أيسر من إيصال الذنب الصغير إلى الذنب الكبير؛ ذلك لأن الذنب الصغير والذنب الكبير يعرف بالنص، أما البدعة الصغيرة والبدعة الكبيرة لا يعرف بالنص وإنما يعرف بالقاعدة:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» ، «كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» .. إلى آخره.

فلما يستصغر الإنسان بدعة صغيرة أو يفتح الطريق له إلى بدعة أخرى، وهو ليس عنده ما يميز بين البدعة الصغيرة والكبيرة؛ ولهذا هؤلاء الدراويش الذين كانوا يجتمعون على ماذا؟ على ذكر الله، وإذا بهم في النهاية في نهاية المطاف يجتمعون على الخروج على الخليفة الراشد ألا وهو علي بن أبي طالب.

ص: 419

هنا العبرة الكبرى من هذه الحادثة، العبرة التي قبلها: أنه أنكر عليهم أشياء نحن نراها اليوم موجودة ولا نكير لها، بل إذا أنكرناها نحن أتباع السنة الفعلية والسنة التركية، قالوا: ماذا فيها؟ ما فيها شيء، لماذا؟

لأنهم حكموا عقولهم كما فعل أولئك الدراويش قالوا: ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لا يصيبه، إن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حدثنا:«إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» .

لذلك أنا ناصح لكم إن شاء الله

عليكم أن تعرفوا السنة التي فعلها الرسول عليه السلام فتفعلونها والتي تركها فتجتنبونها؛ وبذلك تكونون قد قمتم بحق الشهادتين: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ لأن الشهادة الأولى تعني: ألا تعبد إلا الله، والشهادة الأخرى تعني: ألا تعبد الله إلا بما جاءك به رسول الله، فهما شهادتان وهما توحيدان. هذا أيضاً اصطلاح ولا مؤاخذة، توحيدان: توحيد الله في العبادة، وتوحيد الرسول في الاتباع، فكما أننا لا نعبد مع الله أحداً ولا نشرك به شيئاً كذلك لا نتخذ مع نبينا متبوعاً آخر، فهو متبوعنا لا سواه، وهو ربنا لا نعبد غيره.

وبهذا القدر كفاية، والحمد لله رب العالمين.

(الهدى والنور / 650/ 33: 01: 00)

(الهدى والنور / 650/ 14: 20: 01)

ص: 420