الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
له من صاحبتها على ما هي موسومة به، حتى يقال: إن «رجلا» أدلّ على معناه من «فرس» على ما سمي به» «1» .
ويربط تمكّن المفردة بعلاقتها بأخواتها، ونراه يفنّد تعبير «لفظ متمكن» بعيدا عن النظم إذ يقول:«تجوزوا فكنّوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ ثم بالألفاظ بحذف الترتيب، ثم أتبعوا ذلك من الوصف والنعت ما أبان الغرض، وكشف عن المراد، كقولهم: «لفظ متمكن» يريدون أنه بموافقة معناه لمعنى ما يليه كالشيء الحاصل في مكان صالح يطمئنّ فيه» «2» .
-
حجج الدفاع عن المفردة:
مما لا شك فيه أن الجاحظ وأقرانه نظروا إلى المفردة نظرتهم إلى هيئتها المعجمية، فرأوا الجمال في تكاتفها مع غيرها في النسق القرآني، ويبدو أن بعضهم تعثّر في رأيه هذا، ولم ينتبه إلى إضفاء كلمة واحدة معاني جليلة على النص، إضافة إلى استخدام المادة الصوتية في صيغ جديدة ما عهدها العرب، كالحاقّة والصاخّة والقارعة وغير هذا.
وكذلك ينتقي القرآن كلمة «ربّ» في مكان احتياج الموقف إلى الرّبوبيّة، ولا يضع غيرها من أسمائه الحسنى عز وجل، فقد اطّرد ذكر هذه المفردة في حال الدّعاء حيث
يكون المرء في ضعف، ومثل هذه المراعاة كثير، فالمفردة في نظرهم شيء معجمي، ولم يتدبّروا مواءمتها للموضوع، وما تختصّ به من دلالة خاصة فريدة، فتتملك موضوعها تملّكا نوعيا.
وما يلفت الانتباه أن الجاحظ الذي أسس هذه النظرة والذي نحا الدارسون نحوه، هو أوّل من يبدي تأمّلا عميقا فاحصا في ملاءمة المفردة لموضوعها من خلال الفروق اللغوية، واحتواء المفردة لمخزون فكري خاص يعني أن الكلمات ليست متساوية في حجم المعنى وكيفيته، وهذا ما يفصّل القول فيه في موضع لا حق من البحث، ويهمنا أن نورد رأيه الذي ورد في «البيان والتبيين» إذ قال: «وقد يستخفّ الناس ألفاظا ويستعملونها، وغيرها أحقّ بذلك منها، ألا
(1) الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص/ 35.
(2)
المصدر نفسه، ص/ 51.
ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن الجوع إلّا في موضع العقاب، أو في موضع الفقر المدقع، والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السّغب، ويذكرون الجوع في حالة القدرة والسلامة، وكذلك ذكر المطر، لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث» «1» .
وتوثيقا لرأيه نورد بعض الآيات التي سدّد النظر إليها، وجعل منها معياره، بنظرة تشمل دقة الانتقاء القرآنى وبموافقة للوضع اللغوي السليم، يقول تعالى:
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ «2» ، فالصيغة القرآنية اختصت المطر لا الغيث، لأنه أقوى، وأغزر تدفق مياه، فناسب عقوبة المجرمين، وقد ذكره القرآن على سبيل الاستعارة في قوله عز وجل: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «3» .
وفي كلامه على نعمته في الأرض، قال عز وجل يدل البشر على سنّته في الكون في ترعرع النبات: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ «4» ، لأن النبات يريد رحمته التي تتجلّى في الماء الخفيف، فينتعش، ولذلك لم يذكر المطر الذي يغرقه.
ومن هذا القبيل الفرق بين الجوع والسغب، يقول عزّ شأنه: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ «5» ، فتطلّبت الإهانة والتهديد أقسى حاجة للطعام، فحقّ لهذه الكلمة أن تذكر في أصحاب النار، حيث يكون الجوع غاية الحاجة الفيزيولوجية للطعام، وفي أبشع طلب لهذه الحاجة.
وليس كالسّغب الذي اختير في مكان الرحمة، وبعث همّة المؤمنين لمساعدة الآخرين المحتاجين خصوصا إذا كانوا يتامى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي
(1) الجاحظ، البيان والتبيين: 1/ 12.
(2)
سورة الأعراف، الآية:84.
(3)
سورة الأنفال، الآية:32.
(4)
سورة الشّورى، الآية:28.
(5)
سورة النّحل، الآية:112.
مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ «1» .
ولا يبدو الجاحظ متناقضا، فهو يؤكّد طرفي الصياغة: المفردة والنظم، ويرى أن في المفردة محاسن تضاف إلى محاسن النظم، فهي الوحدة المشكّلة له.
لقد نوّه الجاحظ بجمالية أخرى للمفردة، يقول عن شكلها: «وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميّا سوقيا، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريبا وحشيا، إلا أن يكون المتكلم بدويا أعرابيا
…
إلا أني أزعم أنّ سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني» «2» .
هذه النظرية الوسطية في شكل المفردة تخلّصها من الابتذال والتوعّر، وهذا ما أسهب فيه ابن الأثير وغيره من الدارسين، وهنا يقترب الجاحظ من مصطلح اللفظ- المفردة، وليس الصياغة كلها التي يترك لها مصطلح الكلام، ونظريته تنصبّ في انتقائية صوتية، معيارها الذوق السمعي.
كذلك يطالعنا الخطابي في القرن الرابع بنظرات دقيقة في الفروق اللغوية عند ما دافع عن أسلوب القرآن، فقد أشار إلى فاعلية المفردة القرآنية من غير أن يدرجها في نطاق النظم، من استفهام وتقديم وتنكير وغيره، كما أراد بعده الجرجاني، وهو يختلف عن الجاحظ إذ قدم شواهد، وحلّلها عند ما نصّب نفسه للدفاع عن القرآن، وردّ تهمة اللّحن.
وخلاصة جهده هذا نفيه للترادف والتطابق التام بين دلالتين، وقد استعان بأساس اللغة العربية وفنونها، وتذوقه الشخصي، وتبحّره في ظلال المفردات.
وليست هذه الفروق التي يوردها مجرّد ملاحظات عابرة، فهو يحاول أن يقعّدها أحيانا بعبارة مطلقة، ومن ذلك قوله في تعليقه على الآية: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ «3» : «إن في الكلام ألفاظا متقاربة في المعنى، يحسبها أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب، كالعلم والمعرفة، والحمد
(1) سورة البلد، الآيتان: 14 - 15.
(2)
الجاحظ، البيان والتبيين: 1/ 80 - 81.
(3)
سورة الحشر، الآية:9.
والشكر» «1» .
وفي كلامه بعد نظر إلى ما أغفله الدارسون الذين تعاظموا مخالفة الجرجاني في مسألة النظم.
وإذا كان في تعليقه السابق يبيّن خروج الناس عن الجادّة المستقيمة في استعمال القرآن، فإنه في مكان آخر يوغل في كشف العامل النفسي، والبعد الإنساني لتفضيل مفردة على أخرى، فهو يقول بصدد الآية الكريمة: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ «2» : «وقولهم: إن المستعمل في الزكاة المعروض لها من الألفاظ الأداء والإيتاء والإعطاء، ونحوها كقولك: أدّى فلان زكاة ماله، وآتاها، وأزكى ماله، ولا يقال: فعل فلان الزكاة، ولا يعرف ذلك في كلام أحد، فالجواب أن هذه العبارات لا تستوي في مراد هذه الآية، وإنما تفيد حصول الاسم فقط، ولا تزيد على أكثر من الإخبار عن أدائها فحسب، ومعنى الكلام ومؤدّاه المبالغة في أدائها، والمواظبة عليه حتى يكون ذلك صفة لازمة لهم، فيصير أداء الزكاة فعلا لهم مضافا إليهم، يعرفون به، فهم له فاعلون» «3» .
فالأمر ليس مطابقة الدال للمدلول بقدر ما هو تأثير نفسي للكلمات وإيحائها بمعان سامية، وليس المقصود هنا المبالغة كما رأى، بل المقصود توصيل الشريعة الغراء للإنسان إلى أسمى المراتب، حتى تصبح المثالية الإنسانية طبعا فيه.
والمسألة ليست لغوية فحسب، وإنما هي وجود لما لم يكن موجودا، وبما أن «الفعل» عام، ومظهر لوجود المرء، وشكل لفاعليته في معاشه، فكأن الزكاة طبع في المسلم، وهو بذلك أرقى من غيره، والفعل يدلّ على الحركة، فيتجاوز الأقوال، ويدلّ على الحركة والعمل، ليكفي المرء نفسه، ويعمل على مساعدة الآخرين.
ومثل هذه الوقفات على الدّلالة النفسية كثيرة في «كشاف»
(1) الخطابي، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 26.
(2)
سورة المؤمنون، الآية:4.
(3)
الخطابي، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 41.
الزمخشري «1» ، وهو الذي أدرك جودة التعبير والإيحاء الذي يخرج بالكلمة من مجال الاستعمال اللغوي المادي، كما سنرى في الفصل الرابع من البحث.
لقد سبق أبو هلال العسكري «2» الجرجاني بزمن، ووضع كتابه «الفروق في اللغة» مما ينفي الترادف، وعلى الرغم من هذا لا يعترف الجرجاني بالفروق، فكأن التفاضل مرحلة أوّلية يجتازها إلى كلية النظم، ورعايته لما اختير، وهو يرى أن قوالب النحو أهمّ ممّا في القوالب.
ومن منطلق الفروق اللغوية انصبّت الانتقادات عليه، فالتنكير مثلا حين يكون في اسم ما داخل صياغة ينمّ على غموض وكثرة وتهويل، ولكن التنكير نفسه إذا وقع في اسم مغاير، ربّما يعطي تأثيرا أكبر، وتمكينا للمعنى المراد.
لقد حسب الدارسون أن الزمخشري طبّق ما جاء في كتابي الجرجاني «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» في تفسيره، يذكرون ذلك غير آبهين غالبا بانتباه الزمخشري إلى ما عاداه الجرجاني من جمالية المفردات وتراكيبها الداخلية، فلم يكن هناك دارس بمستوى غلوّه، كما تبين لنا من الجاحظ والخطابي، وإذا أنكروا إعجاز المفردة، فهم لم ينفوا عنها الفصاحة.
وبعض الدارسين يتحرّى جمال المفردات، وهو أقرب إلى النظم منه إلى المفردة، وذلك من دون تفريق، كما نجد عند ابن الأثير، فما موقع المفردة في الجملة إلا جزء من الصّياغة الكلية، وهي دائرة الجرجاني، يقول ابن الأثير:
«جاءت لفظة واحدة في آية من القرآن وبيت من الشعر، فجاءت في القرآن جزلة
(1) هو محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي، جار الله، من أئمة العلم بالدين والتفسير واللغة والآداب، ولد في زمخشر من قرى خوارزم، وجاور مكة زمنا، فلقب بجار الله، وكان معتزلي المذهب مجاهرا، شديد الإنكار على المتصوفة، توفي في جرجانية سنة 538 هـ، من كتبه:«الكشاف» و «أساس البلاغة» و «المفصل» في النحو، و «الفائق في غريب الحديث» ، انظر الأعلام: 3/ 1017.
(2)
هو الحسن بن عبد الله بن سهل، ولد في عسكر مكرم في الأهواز، عالم بالأدب واللغة، توفي ببغداد سنة 382 هـ، ومن تصانيفه:«جمهرة الأمثال» و «كتاب الصناعتين» و «النظم والنثر» و «ديوان المعاني» و «الفروق في اللغة» و «التفضيل بين بلاغتي العرب والعجم» وغيرها. انظر الأعلام: 1/ 229.
متينة، وفي الشعر ركيكة ضعيفة، فأثر التركيب فيها هذين الوصفين الضدين، فأما الآية فهي قوله تعالى: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ «1» ، وأما بيت الشعر فهو قول أبي الطيب المتنبي:
تلذّ له المروءة وهي تؤذي
…
ومن يعشق يلذّ له الغرام
وهذه اللفظة التي هي «تؤذي» إذا جاءت في الكلام، فينبغي أن تكون مندرجة مع ما يأتي بعدها متعلقة به» «2» .
وقد أتت الكلمة عند أبي الطيب عروضا للبيت، فهنالك وقفة، وقد تحدث ابن الأثير عن هذه الميزة في فصل جمال المفردة على الرغم من تعلق كلمة تؤذي بما بعدها، كما يقرّ هو. وقد اقتبس الشاهد مع موافقته في الرأي بعض المحدثين «3» ، وهم ممن نقدوا الجرجاني.
وقد وردت مآخذ كثيرة على الجرجاني، بل اقترح عليه محمد رجب البيومي اقتراحا أن يدخل جمال المقطع واللفظ مستعينا بشواهد الجرجاني نفسها أحيانا «4» .
وهذا يدلّ على شدة الهجوم على نظرية الجرجاني أو شدة تمسكه بمعاييرها التي تبعد جمال المفردة، إذ لا يليق أن يقترح معاصر على أديب قديم ما يراه بعد هذه الفترة الطويلة.
ومنهم من نقده بطرح بدائل للكلمات، ومنهم من جعل عماد دراسته ردا ضمنيا عليه، كعائشة عبد الرحمن، ولم تقدم كلّ ما هو جديد، إنما اتسمت
(1) سورة الأحزاب، الآية:53.
(2)
ابن الأثير، ضياء الدين نصر الله بن محمد، 1959، المثل السائر، ط/ 1 تح:
محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة مصطفى البابي، القاهرة:
1/ 145 - 146، وانظر المتنبي، أبو الطيب أحمد بن الحسين، العرف الطيب، ط/ 2، شرح ناصيف اليازجي، دار القلم، بيروت، ص/ 98.
(3)
انظر مثلا البيومي، د. محمد رجب، 1971، خطوات في التفسير، ط/ 1، دار النصر، القاهرة ص/ 240.
(4)
انظر البيومي، خطوات في التفسير، ص/ 225.
دراستها بمنهجية وإحاطة ويعدّ كل ما ذكره المحدثون من جمالية سمعية أو بصرية أو نفسية ردا ضمنيا على غلوّه.
وسوف نقتصر هنا على من نقد الجرجاني صراحة، يقول حفني محمد شرف:«إنني آخذ عليه إهماله موسيقا الألفاظ وفصاحتها مفردة ومركبة، وألتمس له العذر في ذلك، لأنّ نظرية الألفاظ وبلاغتها قد أعلنت الحرب شعواء على المعاني وبلاغتها، لذلك نجده قد جنّد نفسه لنصرة المعاني وبيان قيمها في نظم الكلام» «1» .
ولم يقع بين أيدينا فيما يخصّ الإعجاز ما كتب في نصرة الألفاظ لا المعاني والنظم، بدءا من الجاحظ حتى الجرجاني وعصرنا الحديث، فقد كانوا إذا استحبوا ألفاظا مدحوها خفية إن صحّ التعبير، وفي تطبيق مختصر، ولربما أدخلوا حسنها في نطاق النظم الذي جعلوه مناط إعجاز القرآن، إنما كان إكسير النحوية الجليّ من عند الجرجاني، فتحمّس للنظم من غير وجود منكرين له.
ومن هذه المآخذ ما ورد عند البيومي، إذ يقول:«ولكنه أغفل إغفالا تاما مكانة اللفظ، ومكان المقطع والفاصلة، مدّعيا أن شيئا من ذلك لا قيمة له، ما لم يراع النظام النحوي في تركيبه، وفي ذلك بعض الغلوّ الذي ندفعه بما نملك من رأي .. جعل مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض ب «يا» ، ثم بإضافة الكاف إلى الماء، ثم بنداء السماء وأمرها .. وعلى قياسه نستطيع أن نقول:
وقيل يا أرض اشربي ماءك، ويا سماء امنعي، وأزيل الماء، ونفّذ الأمر، واستقرت على الجودي، وقيل هلاكا للقوم الظالمين، فيتحقق بذلك ما جعله الجرجاني مبدأ العظمة وحده، ويوازي القول بالقول دون نقص، ولكن مهلا، فإن اختيار لفظ البلع دون الشرب، وكلمة «أقلعي» دون امنعي، وفعل «قضي» المبني للمجهول دون نفذ المبني للمجهول أيضا، واستوت على الجودي، دون استقرت، كل ذلك مما يرتفع بالآية إلى الإعجاز، وهو في صميمه راجع فيما يرجع إليه إلى اللفظ دون الإسناد» «2» .
(1) ابن أبي الاصبع، عبد العظيم بن عبد الواحد، تحرير التحبير، ط/ 1، تح: حفني محمد شرف، مكتبة نهضة مصر، المقدمة للمحقق، ص/ 54.
(2)
البيّومي، محمد رجب، خطوات في التفسير، ص/ 225.
لقد أهمل الجرجاني الجانب الموسيقى للمفردات ولمقاطع القرآن، واستبعد أن يكون فيهما الإعجاز، وفي هذا الصدد يقول درويش الجندي:
فالجرجاني عرض لأبيات شعرية يثقل نطقها بسبب تقارب المخارج أو تكرار حروف بعينها، وعند ما تأخذه الحيرة في أن يرفض هذه المراعاة، أو يدعها منتصرا للنظم، يقبل بها على أنها لا تضر بمنهجه، ويسلّم بأنها مما يفاضل به كلام على كلام، وبأنها داخلة في أحكام النظم «2» ، على الرغم من أنه لا علاقة للنحوية بهذا التلاؤم الموسيقى بين المخارج، إنما يدلّ هذا على عدله وذوقه، ويحسب له لا عليه.
ومما يستدعي الانتباه أن يسخر من المتشدّقين والمطنبين من الخطباء قائلا: «وأن يستعمل اللفظ الغريب والكلمة الوحشية» «3» ، فهو يقر بجمال المفردات المأنوسة لا الوحشية الوعرة. ولهذه السلبية التي يذكرها مقابل إيجابي في القرآن حريّ بالدراسة.
وهذه العبارة رآها المجذوب دلالة على تناقض الجرجاني يقول: «يؤخذ على عبد القاهر أن في كلامه نوعا من التناقض من حيث أنه يسلّم بأن الكلمات منها الغريب الوحشيّ، ومنها الذي يكدّ اللسان، ثم ينفي مع هذا كلّه أن تكون الكلمات متفاضلة غير متساوية قبل أن يشملها النظم» «4» .
ونخلص مما سبق إلى أن الجرجاني- فيما يبدو لنا- لم ينف مراعاة السمع
(1) الجندي، د. درويش، 1960، نظرية عبد القاهر، ط/ 1، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، ص/ 83.
(2)
انظر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص/ 46 - 47.
(3)
الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص/ 5.
(4)
المجذوب، د. عبد الله الطيّب، 1955، المرشد لفهم أشعار العرب وصناعتها، ط/ 1، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة: 2/ 10.
كليا، بل جعل الأمر ثانويا، بالنسبة إلى ما أجهد نفسه في الدّفاع عنه، فقدّم حصيلة بيانية جيدة، ونحن نقرأ في رسالته الشافية، ما ينمّ على قانون ذوقي ذاتي لا يميل إلى الموضوعية كما في شرحه في النظم،- فقد قال:«واعلم أن لكل معنى نوعا من اللفظ هو أخصّ به وأولى، وضربا من العبارة، هو بتأديته أقوم، وهي فيه أجلى وما إذا أخذ منه كان إلى الفهم أقرب، وبالقول أخلق، وكان للسّمع أدعى، والنفس إليه أميل» «1» .
ونطرح جانبا مفهوم «اللفظ» الذي ربما نحا فيه نحو الجاحظ، فعنى به هنا الصّيغة الفنية كلّها، وما ندعوه في عصرنا بالشّكل، خصوصا أنه لم يقل: لفظة أو ألفاظ، ويبقى لنا من عبارته ما يكون «أدعى للسّمع» ، ولعله يريد الصورة الأولى من حيث حلاوة النغم والبناء الداخلي للمفردات، أي ما يتعلّق بالسمع قبل ميل النفس إلى جليل المحتوى، ولا نتكئ على قول عابر لنعبّر عن تزحزحه عن مزايا النظم وطواعيته للنحو.
لم يخرج المحدثون على نظرية عبد القاهر، ولم يحاولوا إبطالها، فقد أقرّوا بها، وبينوا الجوانب التي أغفلها، فلم يقدموا المفردة بديلا، بل أضافوا جمالها إلى السياق الكلي، ومعظمهم ينقده من الجانب الشكلي للمفردة، وهذا ما يتّضح لدى سردنا لجهود الدارسين في الجمال السمعي.
ومن الذين طبّقوا فكرتهم على شواهد الجرجاني أحمد بدوي، إذ جاء في كتابه الذي يذكر فيه الآية: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي «2» :
«وجاء بكلمة «بعدا» دون «هلاكا» مثلا، إشارة إلى أن هؤلاء القوم الظالمين، إنما قصد إبعادهم عن الفساد
…
وأحسّ في كلمة «بعدا» دلالة على الراحة النفسية التي شعر بها من في الكون بعد أن تخلّصوا من هؤلاء القوم الظالمين» «3» .
(1) الجرجاني، عبد القاهر، ثلاث رسائل في الإعجاز، «الرسالة الشافية» ، ص/ 107.
(2)
سورة هود، الآية:44.
(3)
بدوي، د. أحمد، 1950، من بلاغة القرآن، ط/ 3، مكتبة النهضة، القاهرة، ص/ 56.
فالجرجاني يقف على «بعدا» ويرى جمالها في التنكير فقط، لأنه يدل على الكثرة والتهويل والغموض، وهذا واضح، أما الدلالة التي أضافها بدوي فهي البعد النفسي في اختيارها هي لا الهلاك، فتصوّر الكلمة كرههم، وهم موتى كيفما كان هلاكهم، فهم في منطقة بعيدة، وهذا يريح النفس، ووجود «هلاكا» لا يخلّ بالنظم الذي رامه الجرجاني.
ولا يعني هذا أن البعد النفسي قد غاب عن الجرجاني، ولكن هذه المفردة «بعدا» تعني تملّك المفردة لموقف خاص، ففيها إيحاء نفسي واضح، ولكن انتبه الجرجاني إلى كون المفردة المعبرة عنه في حالة التنكير، وهذا ينطبق على الفرق بين «جفّفي .. و .. ابلعي» كما جاء عند البوطي.
ففي الآية نفسها يقول محمد سعيد رمضان: «أرأيت أنه لم يقل: «جفّفي ماءك» مثلا مع أنه هو التعبير المتفق مع طبيعة الأرض وشأنها، وإنما قال:
«ابلعي ماءك» ليصور لك بأن الأرض لما اتجهت إليها إرادة العزيز الخبير انقلبت مسامّها وشقوقها إلى أفواه فاغرة تبتلع بها المياه ابتلاعا: فهي لم تنفّذ الأمر بالطبيعة المألوفة لها، وإنما بالانقياد لأمر خالقها جل جلاله» «1» .
ولا يجوز أن نعد كلام محمد سعيد رمضان البوطي ضربا من التأويل الخاص الذي يتخذ سمة دينية، لأن الحدث، كما يصوره المؤرخون الآن، ومنقبو الآثار، عظيم جدا، وقد كان خرقا للنواميس مصدره خالق هذه النواميس «2» .
وبهذا التأويل الجمالي تتحقق الغاية الدينية في صدق الصورة، وترسم الكلمة مشهد الطوفان الهائل، وما تبعه من ابتلاع، وليس التجفيف، الذي يدلّ على قلّة المياه، وهذا ما فات الجرجاني، لأن فعلي «جفّفي وابلعي» من جهة الإسناد متساويان فالمخاطب واحد، ولا إخلال بالنظرية المبنية على علم النحو.
(1) البوطي، د. محمد سعيد رمضان، 1970، من روائع القرآن، ط/ 2 دار الفارابي دمشق، ص/ 269.
(2)
انظر مثلا بوكاي، موريس، 1991، دراسة الكتب المقدسة، ط/ 1، دار دانية للطباعة والنشر، بيروت، ص 245.
ولربما يظن بعض ممن يقتبس من كتاب ابن الأثير حول المفردة، أن الرجل قد سفّه نظرية الجرجاني، فابن الأثير، رأى أنّ الخطوة الأولى في البلاغة انتقاء المفردات، فتحدّث عن محاسنها ومعايبها، ثم تحدث في مكان أوسع عن جمال التركيب مقتفيا أثر ابن سنان في «سرّ الفصاحة» ، إنه يقول:
فالمفردة هي جزئيات النظم، وقد اعترف ابن الأثير بجمال الطرفين:
المفردة والنظم، بمعياره الذوقي المتعلق بالجانب الموسيقى.
وفي هذا الصدد يقول عز الدين إسماعيل: «وإذا كان ابن الأثير يشير إلى اختيار الألفاظ من حيث هو الخطوة الأولى للتأليف، فليس معنى هذا أنه تحوّل عن فهمه هذا» «2» .
لذلك نراه أولاها اهتماما بالغا، فمحّص في موسيقاها مستقلة من خلال مخارج الحروف، وعدد الحروف، واشتراكها مع غيرها في الإيقاع الكلي، ومكانها بين الكلمات، وذلك توسيعا لما نقله عن ابن سنان والرماني.
لم يكن بعد الجرجاني من هو مغال غلوّه في النظم، فكلهم قال به، فكانوا متسامحين غير متشددين في النظم وحده، ويبدو أنهم استوعبوا ما قاله، وما قاله غيره أيضا، فنثروا تأملاتهم الرفيعة في بطون كتبهم مع أن القول الأساسي للنظم، يقول زغلول سلام:«ضياء الدين لم يتأثر بالقول بالنظم والتأليف عن طريق عبد القاهر ولا الخطّابي، بل عن طريق الجاحظ والرماني» «3» .
(1) ابن الأثير، ضياء الدين، المثل السائر، 1/ 147.
(2)
إسماعيل، د. عز الدين، 1968، الأسس الجمالية في النقد العربي، ط/ 2، دار النصر، القاهرة، ص/ 236.
(3)
سلام د. محمد زغلول، 1954، ضياء الدين بن الأثير، ط/ 1، مكتبة نهضة
ومثل هذا صحيح إلا في مساواة الخطابي بعبد القاهر، لأن الأول عني بدقّة اختيار القرآن لمفرداته في مواضع كثيرة من رسالته على ضآلة حجمها، مشيرا إلى الفروق والإيحاءات، وسوف نجد أمثال نظرات الخطّابي في الفصل الرابع.
وقد عجب الباحث زغلول سلام من شمول نظرة ابن الأثير التي ترى المفردة والنظم كلّا متكاملا، وذلك عند ما رآه ينتقل من باب جمال المفردة إلى باب جمال التركيب، فيقول:«ومنه يتضح أن ضياء الدين لا يأخذ بالرأي القائل بفصاحة المفردة دون النظم، وهو مع ذلك لا يرده، ويبدو من قوله هنا، وفي مواضع اخرى، أنه متردّد مضطرب بين رأي ابن سنان، ورأي عبد القاهر الجرجاني» «1» .
لكننا نرى ابن الأثير عادلا، وليس مترددا، إنما هو تكامل يدلّ على رحابة صدر، فإذا أخذنا برأي زغلول سلّمنا بتردد من كان على شاكلة ابن الأثير كالزمخشري والسيوطي، بيد أنهم كانوا منصفين، وإذا كانت نسبة تأكيدهم على النظم أكبر من عنايتهم بالمفردة، فهذا لأن الوسائل متوفرة في دراسة النظم، لأن النحو يحيط بهم أكثر من فن نغم الكلمات، وأكثر من علم النفس الأدبي الذي يقدم الإيحاءات جلية.
وهذا التكامل استمر حتى القرن العاشر الهجري، فالسيوطي في أسلوبه النّقلي يبسط آراء سابقيه، ويبيّن مفهومهم عن وجه الإعجاز المتمثل في النظم، ومن ثم يقول هو بنظم الحروف والكلمات محتذيا بمنهجهم، وعلى الرغم من هذا لا ينسى أن يدلي برأي عادل إذ يقول:«اعلم أن المعنى الواحد قد يخبر عنه بألفاظ بعضها أحسن من بعض، وكذلك كل واحد من جزأي الجملة، قد يخبر عنه بأفصح ما يلائم الجزء الآخر، واستحضار هذا متعذّر على البشر في أكثر الأحوال» «2» .
مصر، القاهرة ص/ 38.
(1)
سلام، د. محمد زغلول، ضياء الدين بن الأثير، ص/ 81.
(2)
السيوطي، جلال الدين، الاتقان: 2/ 269.
والمقارنة بين الألفاظ- فيما يريد السيوطي- هي البحث في المادة الصوتية لألفاظ متقاربة المعاني، فيفضّل ما هو أفصح، وأحق بالموضوع، وأحلى نغما، وهذا متحقّق في القرآن الكريم بجانبيه: الشكل والمضمون، وسنقع على تأملات للسيوطي وغيره في تطبيقات نسردها في مكانها تعدّ بمنزلة إضافات جمالية إلى نظرية النظم.
إن الجرجاني كان مدركا للجماليات التي تتضمنها المفردة، وقد تجاوزها على أنها مرحلة أولى تسبق النظم أو تتبعه، وصبّ عنايته على النّسق الكلي، وله عبارات تدلّ على اعترافه بقيمة الكلمة المفردة، لكنه يعبّر عن ذلك بقوله:
«في مكانها» وهو يقترب قليلا مما نبتغي منه، يقول عن آية سورة هود:«إن شككت فتأمل! هل ترى لفظة منها، بحيث لو أخذت من بين أخواتها، وأفردت، لأدّت من الفصاحة ما تؤدّيه، وهي في مكانها من الآية؟ قل «ابلعي» واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها. وكذلك فاعتبر سائر ما يليها» «1» .
وعبد القاهر عند ما يقول إن الكلمة المفردة ليست بليغة فهو لا ينفي عنها فصاحتها وهذا يعني إدراكه لجمال شكلها، وهذه التفرقة لم ينتبه إليها المعاصرون، ولهذا وصمه بعضهم بالتناقض، فحاربوه في معركة لم يكن موجودا فيها، والكلمة وحدها لا تكون بليغة، ونحن معه في هذا الرأي، وجمال النظم يضيف إليها من المحاسن الكثير بعد الجمال في دقة الاختيار، فيجب ألا نتجنب السياق الذي يشتمل على المفردات.
(1) الجرجاني، عبد القاهر، دلائل الإعجاز، ص/ 37.