الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تماما خصوصا إذا أمعنّا النظر في سياق كلامهم، فنجد عبارة «لمجرد مراعاة الفواصل» ، فهم على يقين بانسجام الشكل والمضمون، إلا أنهم يقدّمون المضمون على الشكل.
-
مناسبة الفاصلة لما قبلها:
غايتنا هنا البحث عن العلائق المعنوية التي تربط مفردة الفاصلة بما يسبقها من كلام، وهذا ما يمكن أن يسمى مراعاة النظير، فتكون المفردة تتويجا لما يسبقها، بحيث تناسب فحوى المعنى الوارد.
لقد بذل الخطيب الإسكافي جهدا كبيرا في المتشابهات في اللفظ، وذلك في كتابه «درّة التنزيل» الذي عني فيه بالآيات المتشابهات، قال تعالى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ «1» .
ففي تذييل الآية الأولى نجد كلمة الفاصلة «يتفكّرون» وفي تذييل الثانية كلمة «يعقلون» وفي تذييل الآية الثالثة «يذّكّرون» ، يقول الخطيب الإسكافي في هذا التنوع: «إن التفكير إعمال النظر، لتطلّب فائدة، وهذه المخلوقات التي تنجم من الأرض إذا فكّر فيها علم أن معظمها ليس إلا للأكل .. فهذا موضع تفكّر بعث الناس عليه، ليفضي بهم إلى المطلوب منهم، وأما تعقيب ذكر الليل والنهار، وما سخّر في الهواء من الأنواء بقوله لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فلأن متدبّر ذلك أعلى رتبة من متدبّر ما تقدم، إذ كانت المنافع المجعولة فيها أخفى وأغمض ..
وأما الآية الثالثة وهي لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ فلأنه لما نبّه في الأوّلين على إثبات الصانع، نبّه في الثالثة على أنه لا شبه له مما صنع» «2» .
لقد دلّ على تماسك كلمات القرآن، وربط معنى الفاصلة بالآية، بل إنه دلّ على ارتباط «يذكرون» بتنزيه الخالق كما ورد في أول السورة: سُبْحانَهُ
(1) سورة النّحل، الآيات: 11 - 13، ذرأ: خلق.
(2)
الإسكافي، محمد بن عبد الله، درّة التنزيل وغرّة التأويل، ص/ 258 - 259.
وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ «1» .
ونظير هذا ما ورد عند تملّي الزمخشري جمال آيات سورة الأنعام، فهو يقول عند الآية: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ «2» ، وعند الآية التي تتلوها قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ «3»:«فإن قلت: لم قيل: «يعملون» مع ذكر النجوم، و «يفقهون» مع ذكر إنشاء بني آدم؟ قلت: كان إنشاء الإنس من نفس واحدة، وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدقّ صنعة وتدبيرا، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقا له» «4» .
ومن هذا جاءت تسمية تفاصيل التشريع الإسلامي فقها، لأنه يعتمد الفهم لدقائق الأمور، مما يحتاج إلى دقّة وفهم واسع، كذلك فقه اللغة، والزمخشري لا يتعرض هنا للجانب الموسيقى، فكلا الفاصلتين على الواو والنون، وهو الأكثر في القرآن.
يضع ابن أبي الإصبع أمثال هذه الشواهد تحت عناوين متعددة هي التوشيح، أي دلالة أول الكلام على آخره، والتصدير الذي هو في الشعر ائتلاف القافية مع سائر كلمات البيت، والإيغال الذي هو تتميم المعنى، وما قد ذكره الزمخشري نجده تحت عنوان «التخيّر» فالتذييل ينتهي بقوله تعالى: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ «5» وهو يقول: «إن نفس الإنسان وتدبّر خلق الحيوان أقرب إليه من الأول، وتفكّره في ذلك مما يزيده يقينا في معتقده الأول، وكذلك معرفة جزئيات العالم من اختلاف الليل والنهار، وإنزال الرزق من السماء، وإحياء الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح تقتضي رجاحة العقل ورصانته» «6» .
وقد امتاز الخطيب الإسكافي والزمخشري بصفاء الذّهن والترفّع عن التعلّق
(1) سورة النّحل، الآية:1.
(2)
سورة الأنعام، الآية:97.
(3)
سورة الأنعام، الآية:98.
(4)
الزمخشري، محمود بن عمر، الكشّاف: 2/ 39، وانظر تفسير أبي المسعود:
3/ 166.
(5)
سورة الروم، الآية:24.
(6)
ابن أبي الإصبع، تحرير التحبير، ص/ 528.
بالمصطلحات والتفريعات، كما صنع ابن أبي الإصبع، إذ كان يردّد الشواهد نفسها تحت عنوان آخر، على الرغم من إدراكه جمالية تماسك آيات القرآن.
وهو يستشهد للتّصدير ببعض الآيات، ومن شواهده قوله تعالى: قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا، إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ «1» ..
ويعلق على هذا التذليل قائلا: «إنّ هذه الآية الكريمة لما تقدم فيها ذكر العبادة والتصرف في الأموال، كان ذلك تمهيدا تاما لذكر الحلم والرّشد، لأن الحلم: العقل الذي يصحّ به التكليف، الرّشد حسن التصرف في الأموال» «2» .
إنه يستعين بما يعرف في الشرع عن التكليف، وحقّ التصرف في الأموال، ويمكن أن يضاف هنا بعد التهكّم في الكلمتين.
ويستشهد للتّوشيح بقوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ، فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ «3» ، ويعرّفه قائلا:«سمّي هذا الباب توشيحا، لكون أوّل الكلام يدلّ على لفظ آخره، فيتنزّل المعنى منزلة الوشاح، ويتنزّل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح» «4» .
ونحن لا نرى هذا الفرق الذي يحدو به على تخصيص مكان للتوشيح، وآخر للتّصدير، فكلاهما يعني العلاقة القوية بين الأوّل والآخر، وكان يكفي الحديث عن التمكن من غير هذه التفريعات، إلا أن هذه التفريعات لا يخلو مضمونها من نظر ثاقب وتذوق رفيع مبدع.
ويتبع السيوطي خطا ابن أبي الإصبع، وينقل رأيه قائلا: لا تخرج فواصل القرآن عن أحد أربعة أشياء: التمكين والتصدير والتوشيح والإيغال» «5» .
ثم ينقل شواهده مع اختصار التّعليق الفني، وبعد هذا يذكر ما يحصل من
(1) سورة هود، الآية:87.
(2)
ابن أبي الإصبع، تحرير الحبير، ص/ 224.
(3)
سورة يس، الآية:37.
(4)
ابن أبي الإصبع، تحرير التحبير، ص/ 228.
(5)
السيوطي، جلال الدين، معترك الأقران: 1/ 23.
تقديم وتأخير وغيره لمراعاة الفاصلة، وينقل أحكام ابن الصّائغ «1» من كتابه «إحكام الرأي في أحكام الآي» «2» ، وكأنّ الأصل ليس على ما جاءت عليه الفواصل، إنما خولفت الأصول التي يريدها ابن الصائغ لأجل مراعاة لفظية.
وعند أبي السعود نجد تعدّدا لا يدل على تناقض، فهو يضيف إلى أهمية النظم- كما رأيناها عند الزمخشري تتخذ الأولوية- مراعاة الفواصل، ومن هذا ما جاء في تفسيره للآية الكريمة: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ «3» فهو يقول: والتقديم لمزيد الاهتمام والمسارعة إلى تحقيق مدار الإنكار والاستبعاد، والمحافظة على الفواصل» «4» .
والمحدثون لم يخصّصوا فصلا في أسفارهم لتمكّن الفاصلة، واحتوائها لمعناها صنيع القدامى، فذلك نجده منثورا في صفحات جمال اللفظة القرآنية بشكل كلي.
ولهذا يلفت الدارس نظرنا إلى جمال المفردة، فنجد أن هذا الجمال يشمل فصولا متعدّدة من بحثنا، ولا ريب في أنّ المفردة القرآنية تتّسم بتعدّد جوانب جمالها، فهناك الصوت الموسيقى، وهناك الإيجاز والتهذيب، ومناسبة المقام وإحكام الصورة، وغير هذا.
وقد خصصت عائشة عبد الرحمن جانبا لتمكّن الفاصلة، كما وجدنا سابقا، وكذلك في الفصل الأول، وسائر الدارسين المحدثين لم يبخلوا بعطائهم في إثبات تمكّنها وجمالها، لكنّهم ينظرون إليها على أنها مفردة، ولذلك مرّت بنا فواصل كثيرة في فقرات سابقة.
(1) هو محمد بن عبد الرحمن، شمس الدين الحنفي من أدباء مصر، درس بالجامع الطولوني، وولي في آخر عمره قضاء العسكر ودار الإفتاء توفي سنة 776 هـ، ومن كتبه «الغمر على الكنز» في فقه الحنفية»، و «المنهج القويم في فوائد تتعلق بالقرآن العظيم» و «المباني في المعاني» انظر الأعلام: 7/ 66.
(2)
السيوطي، جلال الدين، الاتقان: 2/ 214، وانظر السيوطي، معترك الأقران:
1/ 32.
(3)
سورة الأنعام، الآية:1.
(4)
أبو السعود العمادي، محمد بن محمد، إرشاد العقل السليم: 3/ 105.