المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌شكر واهداء

- ‌التقريظ بقلم الأستاذ الدكتور نور الدين عتر

- ‌المقدمة

- ‌مدخل في مفهوم الجميل عند العلماء المسلمين

- ‌الفصل الأول الجوانب الجمالية في المفردة القرآنية

- ‌1 - جمال المفردة في الأدب

- ‌ تجاوز المرحلة المعجمية:

- ‌ خصوصية المفردة القرآنية:

- ‌ الشكل والمضمون:

- ‌2 - المفردة والنظم في كتب الإعجاز

- ‌ مناهج الاهتمام بالمفردة القرآنية:

- ‌ نظرية النظم:

- ‌ حجج الدفاع عن المفردة:

- ‌3 - الترادف والفروق

- ‌ معنى الترادف:

- ‌ تأكيد الترادف:

- ‌ تأكيد الفروق:

- ‌4 - الأثر الموسيقى لمفردات القرآن

- ‌ في القرآن والحديث:

- ‌ شهادة معاصري نزول الوحي:

- ‌هذيان مسيلمة

- ‌ معارضة الشعراء للقرآن:

- ‌ الإجمال في التذوق السمعي:

- ‌الفصل الثاني إسهام المفردة القرآنية في الجمال البصري

- ‌1 - إسهام المفردة في التجسيم

- ‌ التجسيم لغة:

- ‌ التجسيم اصطلاحا:

- ‌ مع جهود القدامى:

- ‌ مع المحدثين:

- ‌2 - مفردات الطبيعة والأحياء

- ‌ الطبيعة في القرآن:

- ‌ مفردات الجماد والنبات عند القدامى:

- ‌ نظرة المحدثين:

- ‌ مفردات الجماد والنبات عند المحدثين:

- ‌ مفردات الأحياء:

- ‌3 - إسهام المفردة في التشخيص

- ‌ التشخيص لغة:

- ‌ التشخيص اصطلاحا:

- ‌ تشخيص المفردة عند القدامى:

- ‌ تشخيص المفردة عند المحدثين:

- ‌4 - جمالية الحركة في المفردة

- ‌ الحركة: القوية السريعة

- ‌ الحركة البطيئة:

- ‌ تصوير الحركة بالصوت:

- ‌الفصل الثالث إسهام المفردة القرآنية في الجمال السمعي

- ‌1 - الانسجام بين المخارج

- ‌فكرة الانسجام:

- ‌نظرة ابن سنان:

- ‌نظرة ابن الأثير:

- ‌2 - المفردات الطويلة في القرآن

- ‌ نظرة ابن سنان:

- ‌ نظرة ابن الأثير:

- ‌3 - مفهوم خفة المفردات

- ‌الذوق الفطري عند ابن الأثير:

- ‌ إضافة الرافعي على ابن الأثير:

- ‌ الخفّة عند البارزي:

- ‌ ضآلة التوضيح عند المحدثين:

- ‌4 - الحركات والمدود

- ‌ جمالية الحركات:

- ‌ جمالية المدود:

- ‌5 - مظاهر الأونوماتوبيا

- ‌ تعريف الأونوماتوبيا

- ‌ جذورها في تراثنا:

- ‌ منهج المحدثين:

- ‌الفصل الرابع ظلال المفردة والمعنى

- ‌1 - دلائل صيغ مفردات القرآن

- ‌ إشارة ابن جني:

- ‌ مع الزمخشري

- ‌ ما بعد الزمخشري:

- ‌ جهود المحدثين:

- ‌ إنصاف القدامى:

- ‌2 - الدلائل التهذيبية في مفردات القرآن

- ‌ في أمور النساء:

- ‌ نظرة جديدة:

- ‌ جوانب تهذيبية عامة:

- ‌ تأملات الزمخشري:

- ‌ ابن أبي الإصبع:

- ‌ مع المحدثين:

- ‌3 - سمة الاختزان في مفردات القرآن

- ‌ إشارة الجاحظ:

- ‌ الإيجاز عند الرماني والباقلاني:

- ‌ الاختزان في الصيغة:

- ‌ الاختزان في التهذيب:

- ‌4 - مناسبة المقام

- ‌ معيار اللغة والذوق الفني:

- ‌ الذوق الذاتي عند ابن الأثير:

- ‌ المفردة وغرابة الموقف:

- ‌ الفروق عند الزركشي:

- ‌ ظلال الدلالة الخاصة:

- ‌5 - تمكن الفاصلة القرآنية

- ‌ تعريف الفاصلة:

- ‌ السجع والفاصلة القرآنية:

- ‌ مناسبة الفاصلة لما قبلها:

- ‌ انفراد الفاصلة بمعنى جديد:

- ‌ رأي الدّاني في الفاصلة:

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس ترجمة الأعلام

الفصل: ‌ مفردات الأحياء:

أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ «1» ، وفي تصوير قساة اليهود: كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً «2» فقد وصف ورق الزّرع في سورة الفيل بأنّه مأكول، ليزيد من تصوير قبحهم، فقد أكلت الدّوابّ هذا الورق، وأتبع الرّماد بذكر الرّيح العاتية، وأضرب عن الحجارة، ليصمهم بأنّهم أقسى من الحجارة، وهذا ما يشدّ الانتباه، ويفسح المجال لتخيّل قلوب صلدة، وهذا الإحكام لا يقتصر على مفردات الجماد.

لقد تناولنا هنا بعض النماذج المقتبسة من كتب المحدثين، وهي تعدّ تأكيدا لأهمية مفردات الطبيعة، وتصديقا لعموم الطبيعة وتأثيرها على مرّ العصور، فقد اعتمد القرآن على ما هو مستمر دائم مثل الحجر والمطر والجبال والنّبات، لتكتسب الصورة البصرية عموم التأثير واستمراره، وتبين لنا أن سيّد قطب وأحمد بدوي استطاعا أن يبرزا الشّحنة النفسية في استعمال مفردات الجمادات ومناسبتها للمواقف الشعورية، مضيفين إلى نظرة الأسلاف زيادة التأكيد على الإيحاء.

-‌

‌ مفردات الأحياء:

الأحياء جزء من المشاهدات اليومية التي خلقها الله عز وجل، وهذا لا يقتصر على البيئة العربية، وقد ذكرت الأحياء في سياق توضيح نعمة الله، ليسير المرء في موكب الحياة، فمنها ما يؤكل ومنها ما يركب، ومنها المحلّل، ومنها المحرّم، قال تعالى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها، لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ «3» .

وجاء ذكر الأحياء في الصورة الفنية مخصّصا بشكل دائم لمقام التّوبيخ وإظهار بشاعة الكافرين، ولهذا اختير من الحيوان الجانب السلبيّ والقبح وقلة الفائدة والجمال، فقد كرّم الله الحيوان، وبيّن أن كلّ حيوان ينتسب إلى جماعة هي أمّة قائمة بذاتها، لما يطّرد فيها من أسلوب العيش، وهذه الأمم شبيهة بالأمم الإنسانية، قال عز وجل: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ

(1) سورة إبراهيم: الآية: 18.

(2)

سورة البقرة، الآية:74.

(3)

سورة النحل، الآيتان: 5 - 6.

ص: 131

بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ «1» .

وقد ركّزت الصّورة الفنية على خصوصية الطابع الحيواني، فالحيوان لا يملك إرادة الكفّ والمنع شأن الإنسان، ولا يستطيع أن يضبط نوازعه، ولا أن يفكر، فكلّ تصرفاته آليّة اندفاعيّة تعمل بدافع من غرائزه.

ففي الصورة البيانيّة الجانب القبيح من الحيوان، إنّنا نقرأ عن لهاث الكلب، لا عن وفائه، وغباء الحمار، لا صبره، والطابع البهيمي الغرائزي عند الأنعام، لا فائدتها في الرّكوب والأكل.

ويجدر بنا هنا أن نتوقف مليّا، ونتلمّس جمالية انتقاء الطبيعة في كتاب «الحيوان» للجاحظ، فعلى الرغم من أنه موسوعة علمية، ولا يختصّ بالبلاغة القرآنية فإننا لا نعدم شذرات رائعة ذات نظرة اختصاصية بأمور الحيوان، وذلك في أماكن ذكر الحيوانات الواردة في القرآن، نقول هذا تمشّيا محقّا مع البيّومي الذي قال:«إن الجاحظ أستاذ علم الأحياء، ليتهكّم خفيّا بالمعترض حين يقول: «على أننا ما نرمي بأبصارنا إلى كلابنا، وهي رابضة وادعة، إلا وهي تلهث من غير أن تكون هناك إلّا حرارة أجوافها، والذي طبعت عليه من شأنها» «2» .

وهو يريد قوله تبارك وتعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ، أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ «3» ، وهنا تنتقى حالة خاصّة من تصرفات الكلب، لتمثل ديمومة شناعة المرتدين المنافقين، وطول ألسنتهم، وتلاعبهم بالكلمات.

ولعلّ هذه الانتقائية تستمدّ قوّتها من تصوير المنافق المرتدّ، وهو يدلّي لسانه كالكلب نتيجة ضرام نار الحقد في دخيلته، ويلهث وراء الدمار، وذلك في حال الأمن والخوف على السواء، فالتودّد لا يجدي معه، ويقول الجاحظ أيضا: «فكان ذلك دليلا على ذمّ طباعه، والإخبار عن تسرّعه وبذائه، وعن

(1) سورة الأنعام، الآية:38.

(2)

البيومي، محمد رجب، خطوات في التفسير، ص/ 89، وانظر الجاحظ، الحيوان: 3/ 38.

(3)

سورة الأعراف، الآية:176.

ص: 132

وعن جهله في تدبيره، وتركه وأخذه» «1» .

ونظرته التخصصية بمنزلة مفتاح لتصوّر هؤلاء الكفرة، وقد قرنوا بالكلب من جهة محدّدة، فللكلب فوائد كثيرة أيضا، والجاحظ يقدّم لنا تفسيرا لاختيار حيوان بعينه في النص القرآني، وإن كان الأمر لا يمتّ بصلة للصورة الفنية البصرية، فمنه نفهم الإيحاء النفسي للاختيار الدّقيق الذي يوائم الطبيعة البشرية التي تنفر من القبح، يقول عز وجل حكاية عن ولد آدم عليه الصلاة والسلام:

يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ «2» .

وهذا الحيوان يفيد تأكيد بشاعة الموقف المعبّر عن وحشية، وما نقتبس من الجاحظ يعدّ تنظيرا لظاهرة قبح الحيوان في الصورة الفنية، إذ قال:«ولو كان في موضع الغراب رجل صالح، أو إنسان عاقل، لما حسن به أن يقول: يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا العاقل الفاضل الشّريف، وكلّما كان المقرّع به أسفل كانت الموعظة في ذلك أبلغ» «3» .

ويتّضح هذا الرأي في تأويله لاختيار الخالق مسخ الكافرين قردة وخنازير، فهذا يوائم الطبيعة البشرية التي تنفر من القبح في هذين الحيوانين، يقول:«ولو لم يكن لهما في صدور العامّة والخاصّة من القبح والتّشويه، ونذالة النّفس، ما لم يجعله لشيء غيرهما من الحيوان لما خصّهما الله بذلك» «4» .

فالقصد من وجود هذه الحيوانات في الصورة الفنية تبيين تدنّي مستوى الكافرين وشناعة تصرفاتهم، وبعدهم عن الصفات الآدمية، ويمكننا أن نورد بعض الآيات في هذا الشأن مثل قوله تعالى: فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ «5» وسَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ «6» ، ولَنَسْفَعاً

(1) الجاحظ، الحيوان: 3/ 38.

(2)

سورة المائدة، الآية:31.

(3)

الجاحظ، الحيوان: 3/ 411.

(4)

الجاحظ، الحيوان: 4/ 39، ويؤكد ابن أبي الاصبع هذا الرأي في إعجاز خلق الذّباب، تحرير التحبير، ص/ 474.

(5)

سورة الواقعة، الآية:55.

(6)

سورة القلم، الآية:16.

ص: 133

بِالنَّاصِيَةِ «1» ، وكثيرا ما شبّه الكفار بالأنعام والدّوابّ.

وهكذا نجد أن القرآن ينفي عن المشركين صفة التفكير عند ما يقرنهم بالجماد، فهناك عملية تحنيط وتجميد لهم، ويأتي الحيوان في الدرجة الثانية من التّدرّج، لأنه يتسم بالحركة، والقرآن باستخدام الحيوان يبثّ الحركة فيهم، ويؤكد تسلّط الغرائز، وكلّ ذلك لأجل توصيل صورة القبيح في أسمى شكل مؤثّر، فالناصية خصّت بالدّوابّ عموما، وهي في الآية تدلّ على تحقير الكافر ومهانته، فهو كالبهيمة تضرب ناصيته، وهو يشرب كالحيوان من الماء المغلي، ويعدل عن ذكر أنفه، فيضخّم قبحه، ويمثّل بحيوان له خرطوم، ويتجلّى القبح في العدول عن الأنف إلى الخرطوم، فهنا هبوط بآدمية المفتون الشرير إلى دونيّة البهائم والسّباع «2» التي كان يعيش عيشتها.

ونقف على ذكر العنكبوت في القرآن، ونتلمّس المعالم النفسية التي ذكرها بعض الدارسين، فقد قرن عمل الكافرين في القرآن ببيت العنكبوت، إذ جعلهم: كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «3» ، ونبدأ بالجاحظ صاحب النظرة العلمية، لنفيد من تخصصه وتذوّقه، فهو يقول:«فدلّ على وهن بيته، فكان هذا القول دليلا على التّصغير والتقليل» «4» .

إنّه يشير إلى هلهلة ما تنسجه العنكبوت، وينتقل مباشرة إلى العبرة من هذا التجسيم، وقد قال الرماني في هذا الشاهد:«تشبيه قد أخرج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة، وقد اجتمعا في ضعف المعتمد، وو هاء المستند، وفي ذلك التحذير من حمل النفس على الغرور بالعمل على غير يقين» «5» .

لقد نبّه إلى تجسيم المعنى المجرّد، وهو الأعمال القبيحة بصورة مرئية تعتمد التشبيه المركّب، ودلّ على طبع هذا الحيوان، ليعطي البعد الإنساني

(1) سورة العلق، الآية:15.

(2)

انظر عبد الرحمن، عائشة، التفسير البياني: 2/ 63.

(3)

سورة العنكبوت، الآية:41.

(4)

الجاحظ، الحيوان: 3/ 38.

(5)

الرماني، علي بن عيسى، ثلاث رسائل، ص/ 78.

ص: 134

لذكره، واهتمامه يرتكز على البيت، وليس العنكبوت بشكله البشع وما يضفيه على الكافر، وقد انشغل الزمخشري بتذييل الآية وهو قوله تعالى: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «1» فقال: «أي لا يعقل صحّتها وحسنها وفائدتها إلّا هم، لأن الأمثال والتشبيهات، إنما هي الطّرق إلى المعاني المحتجبة في الأستار» «2» .

وانشغاله بتذييل الآية يقدّم فكرة جليلة، لأنه يرى أنّ وعي انتقاء الحيوان للمعاني يحتاج إلى تمحيص وتدبّر، وذلك لفهم إيحاءات جمّة يفهمها العالمون بتدبّرهم وتذوقهم، وفي هذا التذييل هنا تعريض بجهل هؤلاء المعترضين على القرآن.

ولن نستفيض في البحث، ونستقصي جميع الحيوانات المذكورة في الصورة الفنية، وفي جميع كتب الدارسين، فإن هذه الطريقة لا تقدّم النفع الكبير، وبما أننا الآن اقتصرنا على ذكر العنكبوت، وتركنا سائر أقوال الدارسين في هذا «3» ، وقد داروا في فلك الجاحظ والرماني، فلا بأس أن نعرض لتأمل معاصر، لنرى ما تمتاز به النظرة الحديثة، وهذا يمثل تطبيقا لرأي الزمخشري في ربط أهمية الأمثال بالخاصّة، إذ يقول فتحي أحمد عامر:«والعنكبوت أقذر ما تقع عليه العين، حيث لا يألف إلّا الأماكن المهجورة، ولا يعيش إلّا في الخرائب، ولا يصح في حكم العقل، أو في حكم العاطفة والوجدان أن تكون العنكبوت على حظ، ولو قليل من النظافة الحسية والنظام، وبيتها أو هن البيوت بالاستقراء، لأنه لا يحتمل نفخة واحدة، فتتطاير خيوطه المهوّشة مع الريح، والعلاقة بين الهيئة الأولى والهيئة الثانية علاقة نفسية، فعبّاد الوثن يتخذون أحقر أنواع العبادة، ولا يصحّ في حكم العقل أو في حكم العاطفة أن يكون هؤلاء الذي يسجدون لصنم على حظّ، ولو قليل، من النظافة المعنوية والعفّة والترفّع عن الدّنايا» «4» .

(1) سورة العنكبوت، الآية:43.

(2)

الزمخشري، الكشاف: 3/ 206.

(3)

انظر مثلا: أبو هلال العسكري، الصناعتين، ص/ 242، والعلويّ، الطّراز:

1/ 327.

(4)

عامر، د. أحمد فتحي، 1976، المعاني الثانية في الأسلوب القرآني، ط/ 2 دار المعارف بمصر، ص/ 427.

ص: 135

وهكذا لمسنا تنفير هذه الحشرة للناظر، وقد ركّز القرآن على العنكبوت مؤطّرة ببيتها الزّريّ، فشكل البيت مع الحيوان لا يريح البصر، وكل ما يعرف عن قذارة هذه الحشرة يعدّ مفسّرا لجمالية تجسيمها لقبائح الكفار.

لكن القدامى كانوا أدقّ في تحليل المثل، لأنهم وعوا إشارة قوله «وإنّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت» وما قاله عامر ليس تفسيرا للمقصد الأساسي، بل هو أخذ بإيحاءات المثل وظلال المشهد، لأن المراد في الآية وهن بيت العنكبوت لا قذارتها.

ومن جهة الإحاطة قلّما نجد ما يشفي الغليل، إلا قليلا لا يردّ ولا يستهان به، ففي الآية: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ «1» نجد جدّة وعمقا لدى الزمخشري، وقد ذكر هذا الحيوان بصورة إيجابية لدى ذكر النّعم، فهو وسيلة للركوب، وذكر أيضا في مجال التّشنيع والتّسفيه داخل الصورة الفنية، وقد شبّه به الكفار في نفورهم وإعراضهم عن آيات الله، وفي هذه الآية يقصد نهاقه المذموم الذي شبّه به الصوت المرتفع، يقول الزمخشري:«والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة وكذلك نهاقه، ومن استفحاشهم لذكره مجرّدا، وتفاديهم من اسمه، أنهم يكنّون عنه، ويرغبون عن التصريح به، فيقولون: الطويل الأذنين، كما يكنى عن الأشياء المستقذرة، وقد عدّ من مساوئ الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة، فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم بالنهاق، ثم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه، وإخراجه مخرج الاستعارة، وأن جعلوا حميرا، وصوتهم نهاقا، مبالغة في الذمّ والتهجين» «2» .

وما يضاف أن مقولته تنطبق على كل الصور التي استخدمت الحمار مثل قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «3». وقوله: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ «4» ، وليته

(1) سورة لقمان، الآية:19.

(2)

الزمخشري، الكشاف: 3/ 234.

(3)

سورة الجمعة، الآية:5.

(4)

سورة المدّثّر، الآيتان: 50 - 51.

ص: 136

تحدّث عن الصوت المزعج للحمار، وقد يكون أحيانا بلا سبب، كما يرفع الناس أصواتهم أحيانا، لأجل فقّاعة من فقاقع الحياة وقشورها البالية.

وهذا ما لفت إليه النظر الدكتور نور الدين عتر عند ما تلمس جمال التعبير في الصيغة، إذ يقول في تفسير الآية: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ «1» : «صورة منفّرة غاية التنفير، تزيدها بشاعة صيغة الجمع «الحمير» وتوحيد كلمة «صوت» الذي يدلّ على صوت هذا الجنس البالغ غاية القبح بسبب ارتفاعه وصخبه» «2» .

لقد استطاع بعض الأسلاف التوصّل إلى جمال الاستمرار في الطبيعة التي اختيرت للصورة الفنية، وهذا الثّبات أو الاستمرار قائم لدوام صنيع الكفار، واستمرار أسلوب المنافقين، فما أحقّهم بصفات حيوانية لا يختلف فيها اثنان.

وقد رأى بدوي أنّ من عوامل استحقاق وجود المشبّه به هنا ما يمهّد له في الآية، ومن شواهده قوله عز وجل: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ «3» ، إذ يقول:«وأنت ترى في هذا التشبيه كيف مهّد له التمهيد الصالح، فجعل لهم قلوبا لا يفقهون بها، وأعينا لا يبصرون بها، وآذانا لا يسمعون بها، ألا ترى نفسك بعدئذ مسوقا إلى إنزالهم منزلة البهائم؟» «4» .

لقد تراءى لبعضهم أن الرومنسيين هم الذين أدخلوا فكرة تصوير القبيح، وهذا ما تراه روز غريب قائلة:«وهنا تصبح أهمية المعنى كعنصر جمالي، أنه يسمح للقبح أن يكون مظهرا من مظاهر الفنّ، فكم من وجه قبيح كثير العيوب يجذبنا بقوة تعبيره وجمال معانيه» «5» .

بيد أننا لا نجد مسوّغا لأولوية الرومنسيين، إلّا إذا كان المقصود تفريغ

(1) سورة لقمان، الآية:19.

(2)

عتر، د. نور الدين، 1982، محاضرات في تفسير القرآن الكريم، طبعة أولى، المطبعة التعاونية، دمشق، ص/ 73.

(3)

سورة الأعراف، الآية، 179.

(4)

بدوي، من بلاغة القرآن، ص/ 205.

(5)

غريب، روز، النقد الجمالي، ص/ 81.

ص: 137

تصوير القبح من المعاني السامية، فهو قبح غير هادف، إذ يرتكز الهجاء على معاني القبح في شعرنا العربي.

ولا شكّ في أن القرآن بثّ الجمال في الإتقان الفني لدى تصوير القبح من غير إهمال الوظيفة السامية للصورة المؤثّرة، ولعلّ هذه العجالة المتواضعة تؤكد أن القرآن في ترهيبه يصوّر القبح بطريقة مؤثّرة غاية التأثير، خصوصا في السور المكية، فنجد شجرة الزّقّوم، وامتلاء البطون بالنار، والماء الذي يشوي الوجوه والثياب النيرانية، والمقامع الحديدية والصّديد.

وهذا لا يبعث على الرعب الخالص أو القرف وحده، كما يكون أحيانا في الفن، إنما يطغى شعور بالرّهبة والخضوع لصاحب الهيبة العظمى، والحيوان مسخّر لصالح البشر، ولا يعني ذكره في الصورة إلا تأكيدا لبعض الخصوصيات والاستفادة منها للتعبير، ولا سيّما الأنعام.

ولا بدّ من التأكيد على أن القرآن يبيّن أهمية الجماد والحيوان، فهما من مخلوقات الله عز وجل، وقد أقسم القرآن بالجماد، مثل: الصبح والنجوم والكواكب، وبالنباتات، مثل: التين والزيتون، لتدلّ هذه الأشياء على عظمة الخالق، وقد اختار في الصورة الفنية النبات، وأحكم اختياره بنزع صفة الحياة عنه عند ما وصف الكفار، فالخشب مسنّدة، والعصف مأكول، وأعجاز النخل منقلعة من جذورها.

أما في وصف المؤمنين فقد اختار النبات الحي، قال عز وجل: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ، كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ «1» فالتشبيه بالزّرع ينمّ على حيوية ونشاط، وخصوصا بإحكام المشبّه به بمؤازرة الشّطء والاستغلاظ والاستواء، مع ما تفيد الفاء من سرعة في النماء.

ونستنتج أن القدامى وقعوا على المدلول الفني لذكر مشاهدات الطبيعة، وذلك وفق مصطلحاتهم الدقيقة، وأنهم فهموا اقتصار الصورة الفنية على الجانب القبيح من الحيوان، وذلك بدءا من الجاحظ.

(1) سورة الفتح، الآية:29. والشّطء: فرخ الشجر وأول ورقه.

ص: 138

وقد بيّنّا أن المعاصرين أكّدوا عموم الطبيعة في القرآن، ونفي اقتصارها على البيئة العربية، كما أنهم أضافوا بعض إثارة من الخيال في تملّي جمال ذكر مفردات الطبيعة، ولا ريب أن القدامى يظلّون أكثر موضوعية، لمحافظتهم على دقّة المصطلح، واعتمادهم العقل والذوق الواضح، وأنهم قدّموا مادّة وفيرة في هذا المجال.

وقد درسنا الجماد والنبات في مكان واحد، لأن القرآن نفي صفة الحياة عن النبات الذي شبّه به الكفار، فكأنه جماد. وتدل المشاهدات على أن الجماد يشارك النبات في

السكون وعدم الإحساس، إلّا أن النبات يتصف بالنمو، كما أن النبات يشارك الحيوان في النمو، ويأتي دونه، لأن الحيوان يتصف بالغريزة والتنقّل ويأتي الإنسان الذي وهبه الله العقل على رأس هذه المخلوقات التي يدل ترتيبها على عظمة خالقها.

ص: 139