الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - جمال المفردة في الأدب
ما من إنتاج فكري إلّا احتاج إلى الكلمة مسموعة أو مكتوبة، حتى إنهم يعدّون التفكير كلاما صامتا، والكلمة تميّز وعي البشر، وسموّهم على مخلوقات الله، لأنها نتاج فكر.
والأدب هو الحقل الفكري الذي تغرس فيه الكلمات طمعا في ثمرة التأثير الوجداني، وهو يتخذ من الكلمة الوسيلة الجمالية، لأن غايته لا تقتصر على الإفهام والتعبير المباشر، بل تتعدّى هذا إلى مستوى فاعلية في المتلقي، إذ يوجد تعامل خاص مع الكلمات يختلف عن المجالات الأخرى.
وفي دراستنا للقرآن في هذا البحث ننطلق من كونه نصا أدبيا انكبّ على تأمل جماله اللغوي مجموعة من الدارسين مخلصين له النية، وكانت لهم نظرات شتى، وسبل مختلفة، فالقرآن كتاب هداية، ولكنّ الجانب الديني ليس المعنيّ هنا إلا في قدرة اللغة على توصيله في أرقى صور التعبير.
وقد أشرنا سابقا إلى تعريف المفردة في المعجم، وهاهنا نقدم نبذة يسيرة حول مفهومها في النقد الحديث، وهو تنظير تؤيده استشهادات دارسي الإعجاز، فتكون هذه الآراء عونا لنا في مناقشتهم للبيان القرآني، وليست غايتنا إلحاق الكلم الربانية بقوانين بشرية مختلفة المناهج، بل هي مفاتيح نلجأ إليها، لتفسر لنا البيان القرآني، فلا ضير في أن نسوق بعض الآراء التي سنجد لها تطبيقا في جهود الدارسين قديما وحديثا، وجلّ هذا الكتاب أن يحصر في قوالب نقد قد تولّد نتيجة معايشة عميقة لنتاج الفن الأدبي البشري.
-
تجاوز المرحلة المعجمية:
من المسلّم به أن المفردة الأدبية كائن جديد متميز من المفردة المعجمية، فهي في الأدب تلبس لبوسا فريدا مع شحنة روحية، مما يجعلها تتجاوز كونها أصوات مادة معجمية، وهي ترسم وتشخّص وتجسّم حالة شعورية، فتتسع دلالتها الإشارية الضيقة، وتحمل دلالة أخرى في حالة الاتساع.
لا تقف المفردة الأدبية في حياد المعجم، فإن غزت موضوعها واستوعبته تملّكته، فكانت آية في الجمال، وإن خسرت معركتها اقتربت من الفوضى والهذيان، وصارت إلى زوال وابتذال، يقول بختين في هذا الصّدد:«الكلمة في الفكر الأسلوبي التقليدي لا تعرف إلا ذاتها أي سياقها هي، وموضوعها هي، وتعبيريتها المباشرة ولغتها الواحدة الوحيدة، أما الكلمة الأخرى الموجودة خارج سياقها، فلا تعرفها إلا بوصفها كلمة محايدة من كلمات اللغة، إلا كلمة لا تخصّ أحدا، إلا مجرد إمكانية كلامية» «1» .
ولعل هذه المعجمية هي التي نفّرت الدارسين- ولا سيّما القدامى منهم- من استقلال المفردة بالجمال، وحقّها بالمقام الرفيع، لأنها في نظر بعضهم موجودة في الصفات نفسها قبل أن يشملها التشكيل اللغوي، وترعاها الفنون من هنا وهناك، وفي هذا تقصير، لأن المفردة أثبتت جدارتها في حاجة التشكيل إلى مادة بعينها، وليس إلى غيرها من ذلك الرّصيد الواسع في نطاق المعجم، ليكمل التشكيل بناءه الجمالي.
وهذا هو الفرق بين الكتابة العلمية والكتابة الأدبية، فالأولى لا تهتمّ بالانتقاء، لأنها لا تعنى بالاعتبارات الوجدانية، فتقلع عن جمال النحو بعلائقه المؤثرة، كما تقلع عن جمال الصرف الذي يعطي الصيغة الفاعلية الجمالية، وتتجاهل الفروق الدقيقة بين المفردات، كل ذلك لأنها كتابة مباشرة لا تخاطب الشعور، والمفردة في مضمارها إن هي إلا وسيلة لمخاطبة العقل مباشرة.
أما الكتابة الأدبية فهي بناء لغوي جميل، والأديب يرى أن المفردة كائن حي ودلالة حيوية، تقوم بوظيفة نقل المشاعر في صيغ مغايرة للاستعمال المعهود، ولا تنتهي غايته عند صياغة الفكرة فقط، بل عند بثّ الروح في حنايا الكلمات، فتغدو بدائل عنه، وهذه المعايشة بين المفردة والمبدع تحتاج إلى وقفة ذوقية لأجل عملية الانتقاء، لأن الكلمة سترسم صاحبها بملامح جسدية، وملامح ذهنية في سجلّ خيالي، وهذا ما يحوجه إلى التأمل في المفردة قبل
(1) بختين، ميخائيل، 1988، الكلمة في الرواية، ط/ 1، تر: يوسف حلاق، وزارة الثقافة، دمشق، ص 29.
وصولها إلى النص، فيغربل المفردات، لأنه يخشى زللها.
يقول برتيليمي مشيدا برفعة الكتابة الأدبية: «في الوقت الذي يهتم فيه الفيلسوف بالحقائق والأفكار فحسب، ويقف فيما وراء الألفاظ، يقف الشاعر فيما قبلها، لأنها ليست بالنسبة إليه علامات فحسب، بل هي كذلك- وقبل كل شيء- كائنات ينظر إليها، ويفحصها ويتأمل فيها، ويعجب بها، كما يعجب الإنسان بحصاة أو بحشرة أو بطير ما» «1» .
فالكلمة تترك ساحة دلالتها اللغوية عند ما تكون في الأدب، وإذا كنا نحن إزاء دراستها في القرآن، فهل يطبّق هذا الرأي عليها؟. هنا تتجلى ميزة القرآن، فهو كتاب هداية وعلم، وليس يقصد الفن الأدبي وحده فيه، فهو موجود ليتمم الفكرة الدينية، ويوصلها في أجمل وأبهى صورة، وهو كتاب علم وعقيدة وتشريع سماوي، ومواعظ وأخبار، وعلى الرغم من هذا لم تؤثر فيه علميته في أن يبقى منها بلاغيا، ونصا أدبيا راقيا.
ومن يطوّف في رحاب التفاسير اللغوية البلاغية يجد وقفات طويلة في مفردات السور المدنية التي كان طابعها التشريع، لأن التشريع قد عني أيضا بنفسية المؤمن، ومن خلال رسم السلوك البشري السّوي، وإلقاء الأوامر الإلهية، إذ برزت للدارسين جماليات في مناسبة المقام بمفردات تختزن طاقة وجدانية كبرى.
ولا شكّ في أن المفردة تكتسب هذه الميزة الجديدة من الظلال الروحية التي تحيط بها داخل النص، فتتخذ لها معاني ثانوية يجود بها الموضوع المرتجى، وهذا ما أسماه أحمد الشائب بالصفات الهامشيّة، إذ قال عن كلمة «الربيع»: «حين تقتصر على المعنى المعجمي المحايد، فهي تعني هذا الفصل من العام، وما فيه من اعتدال الجو، وكثرة الخضرة، وهذا ما يدعى بالدّلالات المركزية، وهي تليق بعلماء الطبيعة .. ولكن الربيع لدى الأديب حين يستغل عاطفته، ويشحن دلالته بصفات هامشية، يكون الربيع مبعث حزن أو فرح
(1) برتيليمي، جون، 1970 - بحث في علم الجمال، ط/ 1، تر: د. أنور عبد العزيز، مؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر، القاهرة- نيويورك، ص/ 286.
وينبوع رجاء» «1» .
ولا ريب في أن اختلاف المواقف يتأتّى منه اختلاف الصفات الهامشية، فالكلمة رهينة تلك الحالة الشعورية، وقد كسرت قيود الدلالة اللغوية المركزية، وهذه مقولة يتفق عليها كل النقاد، فهي في عداد النواميس الأدبية.
وقد ذكر لاسل آبر كرمبي ما يشبه كلام الشائب، فجعل المركزية نواة، والمعاني الأدبية تطوف حولها، وذلك يتحدد في قدرتها على ملائمة قرائنها في الموضوع «2» ، ومخزونها التأثيري في المتلقّي بهذه الطائفة من المعاني الثانوية، ولكنّ التفاوت يعود في رأيه إلى تخصيص المكان المناسب للمفردة، وهذا من صلب نظرية النظم للجرجاني «3» الذي أطنب في شرحها.
بيد أن الخطوة الأولى التي تسبق ذلك التركيب الإبداعي تتعيّن في اختيار المفردة، وسوف نعود إلى توفيق الدارسين بين المفردة والنظم وعدم الإجحاف بطرف منهما في مكان لاحق، وفي هذا يقول الزيات:«وفي اختيار الكلمة الخاصة بالمعنى إبداع وخلق، لأن الكلمة ميتة ما دامت في المعجم، فإذا وصلها الفنان الخالق بأخواتها في التركيب، ووضعها موضعها الطبيعي من الجملة، دبّت فيها الحياة، وسرت فيها الحرارة» «4» .
يسعى الأديب إلى اختيار أسلوب فريد لمادته الكلامية، وذلك حفاظا على منحى الإبداع، وعدم الدّوران في فلك الآخرين، والاتكاء على تعابيرهم، فيبثّ إيحاءه الشخصي، ليجتاز إيحاءات غيره، وفي هذا يقول بختين: «إن
(1) الشائب، أحمد، 1973، أصول النقد الأدبي، ط/ 8 مكتبة النهضة المصرية، القاهرة ص/ 62.
(2)
كرمبي، لاسل آبر، 1936، قواعد النقد الأدبي، ط/ 1، تر: د. محمد عوض محمد. سلسلة المعارف العامة، القاهرة، ص/ 40.
(3)
هو عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني، واضع أصول البلاغة، كان من أئمة اللغة، وله شعر رقيق. من كتبه «أسرار البلاغة» و «دلائل الإعجاز» و «الجمل» في النحو و «العمدة» في التصريف، توفي سنة 471 هـ، انظر الأعلام: 4/ 174.
(4)
الزيّات، أحمد حسن، 1945، دفاع عن البلاغة، ط/ 1، مطبعة الرسالة، القاهرة، ص/ 82.