الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهي أنسب للحامل من مادة «الجوف» فالجنين المكنّى عنه بقوله تعالى على لسان أم مريم عليها السلام «ما فِي بَطْنِي» يناسبه كثيرا النتوء والبروز والانكشاف، مثلما هي حال الحامل، وتبعا لذلك استحق السياق مفردة «بطن» لا «جوف» «1» .
ولقد اطّرد استعمال «البطن» للحامل في القرآن كما في قوله عز وجل:
وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ «2» ، وفي تصوير أجواف الكفار قال تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ «3» ، فتعبّر الكلمة أيضا عن امتلاء الآكل بالطعام، وتذكيره بنهمه في الحياة الأولى.
-
المفردة وغرابة الموقف:
يمتاز ابن أبي الاصبع بشيء من الإحاطة في هذا المجال، فلتأكيد استحقاق مفردة ما بالموضع يذكر آيات أخرى، ليبيّن أن السياق يتطلّب هذه الكلمة هنا، وتلك هناك، إذ سرد الآيات التي ورد فيها كلّ من الطّين والتراب ليبسط الفرق بينهما «4» . وهو يلتقي في هذه الميزة بالخطيب الإسكافي.
ومن نظراته الثاقبة ربط المفردة الغريبة بغرابة الموقف، وذكر لهذا شواهد عدّة، منها ما جاء في سورة يوسف، يقول عز وجل على لسان أبناء يعقوب عليه السلام: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ «5» ، فقد قال ابن أبي الإصبع في باب ائتلاف اللفظ
(1) انظر: عاكوب، د. عيسى، جمالية المفردة القرآنية عند ضياء الدين بن الأثير، مجلة التراث العربي، العدد/ 44 محرم 1412 - تموز 1991، السنة/ 11، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص/ 29.
(2)
سورة النّجم، الآية:31.
(3)
سورة الدّخان، الآيات: 43 - 46، المهل: ما يبقى في أسفل الزيت، الحميم:
الماء الحارّ.
(4)
انظر كتاب ابن أبي الإصبع، تحرير التحبير، ص/ 194.
(5)
سورة يوسف، الآية:85. وحرضا: مشرفا على الهلاك.
والمعنى، وهو في مفهومنا المعاصر احتواء المفردة موضوعها:«فإنه سبحانه أتى بأغرب ألفاظ القسم بالنّسبة إلى أخواتها، فإن «والله» و «بالله» أكثر استعمالا، وأعرف عند الكافّة من «تالله» لمّا كان الفعل الذي جاور أغرب الصّيغ التي هي في بابه، فإن «كان» وأخواتها أكثر استعمالا من «تفتأ» وأعرف عند الكافّة، ولذلك أتى بعدهما بأغرب ألفاظ الهلاك، وهي لفظة «حرض» ، ولمّا أراد غير ذلك قال في غير هذا الموضع: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ «1» ، لمّا كانت جميع هذه الألفاظ مستعملة، وعلى هذا فقس، والله أعلم» «2» .
فالغرابة تمثّل انسجام مفردة مع ما يجاورها، ويبدو أن غرابة الموقف تحكّمت في اختيار المفردات المعبّرة، إضافة إلى النّبرة القوية التي تمثّل غضبهم واشمئزازهم، وقد تحدثنا عن جمالية الصوت التي رآها عبد الكريم الخطيب في هذا الشاهد.
والجدير بالذكر أن هذه المفردة ذكرت مرة أخرى في السورة نفسها، فعلى لسانهم يقول عز وجل: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا «3» ، والموقفان متشابهان.
ومما يعضد هذا تأمل الرافعي في كلمة «ضيزى» في قوله تعالى:
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى «4» ، يقول: «وفي القرآن لفظة غريبة، وهي من أغرب ما فيه، وما حسنت في كلام قطّ إلا في موقعها منه، فكانت غرابة اللفظ أشدّ الأشياء ملاءمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها، وكانت الجملة كلّها كأنّها تصور في هيئة النّطق بها الإنكار في الأولى، والتّهكم في الثانية، وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة، وخاصّة في اللفظة الغريبة التي تمكنت في موضعها من الفصل، ووصفت حالة
(1) سورة فاطر، الآية:42.
(2)
ابن أبي الاصبع، تحرير التحبير: 195 وانظر ابن أبي الاصبع، بديع القرآن، ص/ 78، والفوائد، ص/ 145، والبرهان: 3/ 433.
(3)
سورة يوسف، الآية:91.
(4)
سورة النّجم، الآية:22.