الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
رأي الدّاني في الفاصلة:
والجدير بالذكر أن هناك تعريفا للفاصلة انفرد به أبو عمرو الدّاني «1» ، إذ يرى أنّ الفاصلة هي كلمة آخر الجملة، وليس آخر الآية، كما هو متعارف عليه، وقد نقل الزركشي رأيه هذا، إذ يقول أبو عمرو:«أمّا الفاصلة فهي الكلام المنفصل مما بعده، والكلام المنفصل، قد يكون رأس آية، وغير رأس، وكذلك الفواصل يكنّ رءوس آي وغيرها، وكلّ رأس آية فاصلة، وليس كلّ فاصلة رأس آية، فالفاصلة تعمّ النّوعين، وتجمع الضربين، ولأجل كون معنى الفاصلة هذا ذكر سيبويه في تمثيل القوافي يَوْمَ يَأْتِ «2» وما كُنَّا نَبْغِ «3» ، وهما غير رأس آيتين بإجماع- مع وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ «4» ، وهو رأس آية باتّفاق» «5» .
وإذا كانت الفاصلة القرآنية قرينة السّجعة والقافية، فإنّ هذه الفواصل الداخلية تختلف برويّها عن الفاصلة في رأس الآية، ومما يفاد من نظرة أبي عمرو الدّاني أنّ الوقوف على رأس الجملة لتحديد الفاصلة يعدّ مظهرا آخر لتمكّن الكلمات من أماكنها.
ومما يفاد أيضا أنّ الوقوف الجائز على رأس الجملة لا يفقد القارئ شيئا من الترنيم الذي يكون في فاصلة رأس الآية، ويبدو مما اقتبسناه أنّ سيبويه ذكر هذا فقرن «يأت» مع «يسر» .
ولم يناقش الزركشي هذا الرأي، وكأنّه ذكره لأجل استيفاء الآراء في تعريف الفاصلة، ونودّ أن نقف عند قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا
(1) هو عثمان بن سعيد، أحد حفّاظ الحديث، ومن الأئمة في علوم القرآن، من أهل «دانية» بالأندلس، توفي في بلده 444 هـ، ومن كتبه:«اليسير» و «جامع البيان» و «طبقات القراء» انظر الأعلام: 4/ 306.
(2)
سورة هود، الآية:105.
(3)
سورة الكهف، الآية:64.
(4)
سورة الفجر، الآية:4.
(5)
الزركشي، محمد بن عبد الله، البرهان: 1/ 84، وانظر السيوطي، الإتقان:
2/ 209.
بِإِذْنِهِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ «1» في الحديث عن يوم القيامة، فإنّ الوقوف على كلمة «يأت» لا يخلو من نغم، وكذلك يعني الوقوف هنا استحضار الذّهن لتلقّي النتيجة حيث الشّقاء والسّعادة.
وكذلك في قوله عز وجل عن موسى عليه الصلاة والسلام وفتاه عند ما نسيا الحوت: قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ، فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً «2» فإنّ الوقوف على كلمة «نبغ» يعني استحضار تأمّل النبي الكريم موسى، وصمته وفهمه لحكمة ربّه، ومن ثمّ يأتي الحديث عنهما، بعد كلام النبي.
وقد بينّا في الفصل الأول كيف حضّت الأحاديث النبوية الشريفة على القراءة المتأنّية للقرآن، وقد ذكر السيوطي أن الوقوف على كل كلمة جائز «3» .
ويمكن أن نطبّق رأي أبي عمرو الدّاني في الفاصلة في آية الكرسي، وهي من الآيات الطوال، يقول عز وجل: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ، مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ «4» .
فنحن في هذه الآية إزاء تسع فواصل: «القيّوم، نوم، الأرض، بإذنه، خلقهم، شاء، الأرض، حفظهما، العظيم» ، فالمدّ الجميل ذو الحركات السّتّ في كلمة القيّوم، ويتبعه جمال الوقوف عند «نوم» ، مع إطالة الإحساس بالواو قبل التّركيز على الميم، وكذلك كلمة «الأرض» ، ثم يأتي الوقوف عند «بإذنه» ، حيث تشبع كسرة الهاء، فتحدث في الأذن تطريبا، وكذلك «خلفهم» ثم المدّ الجميل يكون في شاء، لينسجم مع سكون الميم الشّفوية، وكذلك المدّ في «حفظهما» ينسجم مع الوقوف على الضّاد «الأرض» ، ثم يأتي مسك الختام في المدّ الذي يسبق الميم «العظيم» ، وهي الفاصلة التي تعارف عليها الدارسون.
(1) سورة هود، الآية:105.
(2)
سورة الكهف، الآية:64.
(3)
انظر السيوطي، جلال الدين، الإتقان: 2/ 209.
(4)
سورة البقرة، الآية: 255، لا يؤده: لا يثقله، ولا يشقّ عليه: ماضيه آد أودا.
ونلتمس من رأي الداني جمالا في الشكل بحيث أكّدت لنا التلاوة جمال الوقوف على أواخر الجمل: اسمية أو فعلية، وهذا ما يدفع شبهة السّجع بقوّة، لأجل تنوّع رويّ هذه الفواصل بشكل واضح، كما يؤكّد مفهوم الفاصلة في رأس الجملة مناسبة كلّ كلمة قرآنية للمقام، هذا من جهة المضمون، أما الشكل فقد دلّتنا نظرة الدّاني على جمال موسيقي في تركيب الجمل ومشاركتها للفواصل بالأنغام الداخلية.