الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأول: ظاهر يتجلّى في الفواصل والحروف المقطعة، والفواصل تشبه قوافي الشعر، وتختلف عنها بالتمكن والتنوع.
والثاني: جمال خفيّ مكنون بين الحرف والحركة، ومن خلال الانسجام بين الصفير والإطباق والبطش والانزلاق، وذلك في نسيج متكامل يأخذ كلّ جزء منه مكانه الطبيعي، ووفق ما يناسب الموضوع شدة ولينا، ولم يستطيعوا التعبير عن هذا النوع، على الرغم من اعتراف فطرتهم به، لندرته في الشعر، ومجيئه فيه آليا من غير قصد، وربّما بشيء من الفوضى والتنافر.
-
شهادة معاصري نزول الوحي:
من أوائل الثناء على أسلوب القرآن ما جرى على لسان الوليد بن المغيرة الذي تنوقل كلامه في بطون كتب التاريخ والإعجاز والسيرة جميعا، إنه يحضر ويسمع شيئا من القرآن، ويقول السيوطي: «فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له
…
، ويذكر قول الوليد:«فو الله للذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنّه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته» «1» .
لقد تناقل دارسو الإعجاز هذه العبارة بلا تعمّق في ماهية الكلمات، وأبعادها، فلا شك أنها تمثل نظرة فنية عميقة، ووعيا للأثر الموسيقى، فالرجل مدرك بفطرته ميزات ما يسمع واختلافه عما عهد، فيقدّم رأيا معياريا، إنه يريد بالحلاوة سهولة النطق بمفردات القرآن، وهذا يتأتّى من جنس الحروف ونسقها وانسيابها ولينها، وهو رقيق حلو لدى القارئ والسامع، ولعلّه يؤكد هذه المزيّة من خلال ذوقه بوصفه «مثمرا أعلاه» ، فإذا كان هذا العلوّ هنا هو اللحن المختوم في الفواصل التي تتخذ لها أردافا «2» من المدود غالبا، فإن «المغدق أسفله» هو الموسيقا الداخلية المبثوثة فيما قبل الفاصلة، فهناك إذن تلذّذ في النطق والسمع، وفي البداية والنهاية، وذكر الوليد للمساحة مستمدّ من فهمه
(1) السيوطي، الإتقان: 2/ 253، وانظر ابن هشام، عبد الملك، 1981، سيرة النبي، ط/ 2، دار الفكر، بيروت: 1/ 283.
(2)
الأرداف جمع ردف حرف العلّة الذي يسبق الرّويّ.
لشكل البيت الشعري، ففيه ضرب وعروض وقافية وصدر وعجز، والمتعة في الآية كلّها، وقد بدأ بالفاصلة لشدّة ظهورها، ومن ثمّ عاد إلى نسق الكلمات داخل الآية، فلا خلل حتى الوصول إلى إشباع هذه الموسيقية بالفاصلة، وكلمة «مغدق» تشير إلى كثرة المياه، ولذلك اتصلت بالكرم، فقالوا: أغدق عليه، أي أكثر العطاء، وهاهنا تدل على سلاسة النطق، ولين الحروف، وهذا أيضا في «طلاوة» التي تنمّ على اللّيونة لا الخشونة، والقرآن لم ينزع إلى غريب وحشي، فقد نبذ ما هو سوقي ومستثقل، ووثّق للأمة العربية ما هو رفيع سام، وكأنّ «الطلاوة» ذلك التأنّق الفائق الحسن.
ولم ينس الوليد جزالة القرآن وفخامته، فهو «يحطم ما تحته» ، والعبارة هنا تشير إلى مناسبة الكلمات للمواقف، فهي شديدة في موقف مثل قوله تعالى:
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ «1» ، ولينة في مواقف الرحمة والعطف، والانسجام متحقق في الطرفين، فمن دواعي الشدة والوعيد وجود الطاء والشين، والوقوف على الدال وتكريرها، وسكون الطاء، ومثل هذا كثير.
لقد اعترف بموضوعية خالصة بتفوق القرآن على الشعر، يقول البيومي عن سبب مقارنة القرآن بالشعر هنا: «وإنما تحدث الوليد عن الشعر دون النثر، مع ما كان في قريش من فرسان الخطباء، لأنه بداهة دون الشعر تأثيرا، وعمق نفاذ، وأن سطوة البيان القرآني قد فاقت سطوة الشعر المأثور، فأحرى بها أن تفوق الأقوال من خطب
ومنافرات وأمثال» «2» .
والشعر أعقد فينا من فن النثر، ونضيف إلى كلام البيومي أن الوليد اكتشف بفطرته العنصر الموسيقى في الجزئيات، وهو قلّ أن يراعى في النثر إلا ما يكون في شكله الظاهر من توازن وتسجيع، وأن تنوع رويّ الفواصل يتبع تنوع المعاني، وهذا غير وارد في النثر، والقرآن لم يتحدّ قريشا وحدها، بل تحدّى كل العرب، وقد اشتهروا بالشعر، بل كان في أسرة النبي عليه الصلاة والسلام
(1) سورة البروج، الآية:12.
(2)
البيومي، د. محمد رجب، 1971، البيان القرآني، ط/ 1، دار النشر، القاهرة، ص/ 13.
عدّة شعراء «1» .
وقد وردت مقارنة القرآن بالشعر على لسان مشركين آخرين، ومنهم من آمن، بعد أن انتهى إلى سمو النظم القرآني، ومخالفته للشعر، فقد روى أبو ذر الغفاري عن أنيس أخيه رضي الله عنهما وقد كان شاعرا-:«لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر، فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون» «2» .
وقرين هذا الوعي ما حصل عند مجيء عتبة بن ربيعة الذي كلّفه المشركون بتقديم المغريات للنبي صلى الله عليه وسلم، لكي يتخلّى عن الدعوة الإسلامية، وقد كان ردّ الرسول الكريم:«أقد فرغت يا أبا الوليد؟» . قال: نعم، قال:«فاستمع مني» قال: أفعل، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ «3» ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلمّا سمعها منه عتبة أنصت إليها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد، ثم قال:«قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك» فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قطّ، والله ما هو بالشّعر، ولا هو بالسحر، ولا بالكهانة» «4» .
لقد أنصت بارتياح إلى هذا النص الإلهي، وأبعد عنه تهمة الشعر لما وجد فيه من حلاوة خاصة تتخلل كلماته، وذلك النسق الفريد الذي اتسم به.
ولا يقتصر مفهوم الأقراء- القوافي- في كلام أنيس رضي الله عنه على الكلمة الأخيرة من الآية أو البيت الشعري، بل يشمل كل النشاط الفني، ويبدو
(1) انظر ابن هشام، سيرة النبي: 2/ 368.
(2)
مسلم، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة: 6/ 28، أقراء الشعر: قوافيه.
(3)
سورة فصّلت، الآية: 1 - 5.
(4)
ابن هشام، سيرة النبي: 1/ 313.