الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإخبار الذي يحتمل الصّدق والكذب إلى تخيّل مشاهدة أحداثها ووقائعها، مما يوهم المتلقّي أن ما هو مبنيّ على الظن أصبح يقينا» «1» .
-
تشخيص المفردة عند القدامى:
إننا نقع على أول إشارة إلى مفهوم التشخيص عند أبي عبيدة مع سابق علم بأن جميع دارسي الإعجاز القدامى لم يذكروا هذا المصطلح، بيد أننا نجد جماليته في أبواب الاستعارة، وهي في الأغلب عند المحدثين تجسيم، وقد قال أبو عبيدة:«ومن المجاز ما جاء من لفظ خبر الحيوان والموات على لفظ خبر النّاس» «2» ، والمجاز عنده كل ما
يجوز في اللغة من حذف وإيجاز وإسناد وتشبيه واستعارة وغير هذا، ولا يختلف هذا الكلام عن التعريف الحديث للتّشخيص، وقد استشهد بالآية: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا «3» ، والآية: رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «4» .
لقد انتبه إلى اختصاص «أولئك» بالإنسان، وكذلك «السّجود» بيد أنه لم يفض في أهمية الحواس العليا في مجال التشخيص.
ويمكن أن نضيف إلى شاهديه قوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «5» ، فنحن نجد أنّ البيان القرآني استعار السّباحة للكواكب، فجعلها عاقلة، مما يدل على طواعيتها، وتفهّمها لأمر خالقها.
ولم يقف الدارسون على مثل هذه الآيات في باب الاستعارة فقط، إذ نجد هذه الآيات في باب المجاز «6» ، مما يدل على أنهم لمسوا البعد النفسي في
(1) ناجي، مجيد عبد المجيد، 1984، الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية ط/ 1، المؤسسة الجامعية، بيروت، ص/ 178.
(2)
أبو عبيدة، معمر بن المثنّى: مجاز القرآن، ص/ 10.
(3)
سورة الإسراء، الآية:36.
(4)
سورة يوسف، الآية:4.
(5)
سورة الأنبياء، الآية:33.
(6)
انظر مثلا الزركشي، البرهان: 2/ 274.
آيات أخر، ووجدوا في هذه توسّعا عاديا من قبيل الاستعمال اللغوي المجازي، مع أن المجاز لا يختلف عن باب الاستعارة، فإذا كان المجاز مرسلا فهو استعارة، والمرسل ما أرسل عن قيد التشبيه، وكذلك التشخيص فهو استعارة معقول لمحسوس.
وتأكيدا لهذه النظرة نورد رأي ابن قتيبة وابن الأثير في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ، وَهِيَ دُخانٌ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، قالَتا: أَتَيْنا طائِعِينَ «1» ، إذ يردّ ابن قتيبة القول إلى حيّز الحقيقة لتوضيح المعنى «2» ، ويقول ابن الأثير:«نسبة القول إلى السماء والأرض من باب التوسّع، لأنهما جماد، والنطق إنما هو للإنسان لا للجماد» «3» .
ومما يحمدون عليه أن يشير الدارس إلى أهمية اللفظة المشخّصة بقوله «هذا أبلغ» بعد أن يبيّن الحقيقة اللغوية، ففي الآية الكريمة: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ «4» تتفق الآراء في أنّ الحقيقة علا، و «طغى» أبلغ لأنّ فيه قهرا، وهو استعارة معقول لمحسوس، وقد كانت بداية هذا التذوق لدى الرّمّاني «5» .
سوف نورد بعض المفردات التي عني بها بعضهم عناية مرضية، فنحن لا نرى تفسيرا لغويا في كل الأحوال، وخصوصا أن المحدثين لم يخرجوا كثيرا عن تعليقات السّلف، حتى إنهم اعتمدوا شواهد القدامى نفسها.
هنالك آيات في ذكر جهنم وتصوير أهوالها، أسبغ البيان القرآنيّ عليها صفات جديدة، لتفجير طاقة التأثر، بما يكنه التّخييل الذي تبعثه المفردة في
(1) سورة فصّلت، الآية:11.
(2)
انظر، ابن قتيبة عبد الله بن مسلم، 1952، تأويل مشكل القرآن، تح: أحمد صقر، ط/ 1، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ص/ 78.
(3)
ابن الأثير، المثل السائر: 1/ 363.
(4)
سورة الحاقة: الآية: 11.
(5)
الرماني، ثلاث رسائل، ص/ 80، أبو هلال العسكري، الصناعتين، ص/ 271، وانظر ابن قيّم الجوزية محمد بن أبي بكر، 1328 هـ، الفوائد ط/ 1، مطبعة السعادة بمصر، ص/ 48.
ثوبها الجديد، إذ يقول تعالى: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً، وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ «1» ، ويقول الرماني عن الآيتين:«شهيقا حقيقته صوتا فظيعا كشهيق الباكي، والاستعارة أبلغ منه وأوجز، والمعنى الجامع بينهما قبح الصّوت وتَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ حقيقته من شدّة الغليان بالاتّقاد، والاستعارة أبلغ منه، لأنّ مقدار شدة الغيظ على النفس محسوس مدرك ما يدعو إليه من شدّة الانتقام، فقد اجتمع شدّة في النّفس تدعو إلى شدّة الانتقام في الفعل» «2» .
ولا يقلّل من شأنه نظرته الذوقية ما جاء في كتب غيره عن ربط الشهيق بصوت الحمار، ونهم البغلة إلى الشّعير «3» ، ويبدو لنا أن النظرة الأخيرة تصور عنفوان جهنم بصورة أقوى، فالرماني أحسّ بالصفة الآدمية التي جعلت من النار إنسانا يبكي من الغيظ، وتكاد تتقطّع غيظا من الكافرين، بعد انتظار طويل، وقد أحسّ بدافع الانتقام الذي جعلها عاقلة أشركت في مهمّة قصد العذاب، وصحيح أنه بدأ شارحا إلا أنه نبّه إلى قدره الترويع في هذه الاستعارة، ولذلك نرجّح هنا نظرة الرماني التي تدلنا على الحالة النفسية التي اكتسبتها النار المغتاظة.
كذلك نجد مثل هذا التأمل العميق النابع من ذوق شخصي لدى الشريف الرضيّ، فقد قال:«وصف النار بصفة المغيظ الغضبان، الذي من شأنه أن يبالغ في الانتقام، ويتجاوز الغايات في الإيقاع والإيلام» «4» .
ولا نعدم مثل هذا التعمق لدى الزمخشري الذي أشار إلى رغبة المغتاظ في تقطيع أعضائه، وكأنّه يتقطّع، ويمزّق ما عليه «5» .
ونحن نستشف من كلام الباحث القديم أن التركيز يظلّ على المفردة المنقولة، غير أن الباحث المعاصر يؤكد هذا بصراحة كما سيمرّ بنا.
(1) سورة الملك، الآيتان: 7 - 8.
(2)
الرماني ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 80، وانظر أبو هلال العسكري، الصناعتين، ص/ 271 وغيره.
(3)
انظر أبو السعود، إرشاد العقل السليم: 9/ 4.
(4)
الشريف الرضي، تلخيص البيان في مجازات القرآن، ص/ 339.
(5)
الزمخشري، الكشاف: 4/ 136.
ومن هذا القبيل تملّيهم جمال الآية الكريمة: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ «1» ، فنحن نفهم أهمية كلمة «يدمغه» في سياق كلام الشريف الرضي الذي قال:«الدّمغ إنما يكون عن وقوع الأشياء الثّقال، وعن طريق الغلبة والاستعلاء، فكأن الحقّ أصاب دماغ الباطل فأهلكه» «2» .
وتتسم كلمة «يدمغه» بالاختزان نتيجة اشتقاقها من عبارة «ضربة على دماغه» ، وكذلك يعطي الزمخشري الأهمية الكبرى للمفردة المشخّصة، وبشكل أوضح في تفسيره للآية: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ «3» إذ يقول: «كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ولم يستحسن هذه الكلمة، ولم يستفصحها كلّ ذي طبع سليم، وذوق صحيح إلا لذلك وإلا فإنّ قراءة معاوية بن قرّة: «ولمّا سكن الغضب» لا تجد النفس عندها شيئا من تلك الهزّة، وطرفا من تلك الرّوعة» «4» .
وهو يفصح عن هذه الإضاءة التي تلقيها المفردة المنقولة، وذلك من خلال ذوقه الشّخصي، مضافة إليه معرفته بالقراءات، وقراءة معاوية على أية حال مخالفة لرسم المصحف ولا ثبوت لها.
وإذا ما تقدم الزمن، ووصلنا إلى أمثال ابن قيم الجوزية والزركشي والسيوطي، فلا يعدو الأمر استعارة معقول لمحسوس أو مجازا، لأن هؤلاء لم يتخصصوا في البيان الأدبي، إنما ألّفوا كتبا جمعوا فيها ممن سبقهم، لذلك يكتفى في كتبهم بتبيين أطراف الاستعارة «5» ، ولا نجد ظلالا نفسية كالتي وجدناها عند سابقيهم.
(1) سورة الأنبياء، الآية:18.
(2)
الشريف الرضي، تلخيص البيان في مجازات القرآن، ص/ 228.
(3)
سورة الأعراف، الآية:154.
(4)
الزمخشري، الكشاف: 2/ 120.
(5)
انظر ابن قيم الجوزية، الفوائد ص/ 48، والزركشي، البرهان: 3/ 489، والسيوطي، الإتقان: 2/ 70.