الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للتحولات الوجدانية وغير هذا.
وقد تنبّه الأسلاف القدامى إلى جمال الحركة القوية أكثر من الحركة الخفيفة البطيئة، إلا أن وقفاتهم لم تشتمل على كل ما جاء في الكتاب الكريم.
ولم تسر على منهج واحد من الوضوح والكشف الفني، فقد يشير الدارس إلى جمال الحركة في الصيغة ولا يؤبه بها في موضع آخر، وقد تكون النظرة من خلال الفروق اللغوية، أو في سياق توضيح الاستعارة، فقد لمسوا قوة الحركة وسرعتها أو بطأها مشيرين أحيانا إلى إيحائها على قدر مصطلحهم وعصرهم.
ونمرّ في هذه العجالة بمفردات شهد لها بتصوير
الحركة: القوية السريعة
والبطيئة، ومن ثمّ نعرّج على تجسيم الصوت والصيغة للحركة كما جاء عند بعض المحدثين، ونترك التوسع في تجسيم الصوت للمعاني إلى مكان آخر، وسوف نبين أخيرا سلبيّات بعض المحدثين في إقحام المفردة في لجج أوهامهم واستنطاقها ما ليس فيها.
- الحركة القوية السريعة:
ولا بأس أن نمرّ ببعض النماذج وفق ما جاء لدى الدارسين، فقد أشار ابن قتيبة إلى قوة الانزلاق في قوله تعالى: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ «1» .
فلا شك أن الانزلاق هو الذي لفت نظره وجعله يقف على هذه الآية قائلا: «يريد أنهم ينظرون إليك بالعداوة نظرا شديدا يكاد يزلقك من شدّته أي يسقطك» «2» .
ولكنه لا يبسط هذا الانزلاق الحسّي، ولا يربطه بحركة العيون كما يريد البيان القرآني، وقد ظلّ مفسّرا للمعنى، ولم يظهر أبعاده الفنية، ثم شغل بذكر شعر في المعنى نفسه، بدلا من الاهتمام بهذه المفردة التي تصوّر العيون تحرّك وتبطش.
(1) سورة القلم، الآية:51.
(2)
ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم، تأويل مشكل القرآن، ص/ 129.
ويشير الرماني إلى الشّدّة المكنونة في لفظة «زلزلوا» التي تنم على اضطراب أعماق المؤمنين الذين انتظروا فرج ربهم، يقول تعالى: مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا «1» ، فقد عبر الرماني عن هذا الاضطراب قائلا:
«زلزلوا أفضل من كل لفظ كان يعبّر به عن غلظ ما نالهم من الانزعاج فيهما، إلا أن الزلزلة أبلغ وأشدّ» «2» .
وكان في الإمكان الرجوع إلى المادة نفسها في القرآن، فنجد أن الزلزال حدث كوني عظيم، وهو مسخّر في الدنيا والآخرة، وفيه الارتجاج والانشقاق، وسائر المظاهر الطبيعية التي خوّف بها القرآن، وبهذا ننزع القشور الحسّية، لنشاهد زلزالا نفسيا.
ويمكن هنا الاعتماد على كون تكرير الحروف مصاقبا لتكرير الحركة، فنجد أن الزلزلة تشتمل على اضطرابات نفسية متتابعة لا تنقطع، خصوصا أن الزلزال هائل، ولا سيطرة عليه، وكما يقول حفني محمد شرف:«إن الاستعارة التي تضمنتها لفظة «زلزلوا» التي شبه فيها الاضطراب النفسي الشديد الذي أصابهم كالزلزال، ومهما حاولنا تغيير لفظ الاستعارة فلن يؤدي المعنى المطلوب، ولا الحالة المرجوّة» «3» .
ونلمس إحساس الباقلاني بقوة الحركة لدى إشارته إلى قدرة تصوير بعض الآيات مثل قوله تعالى: قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ «4» ، ويقول:
«ومما يصوّر لك الكلام الواقع في الصفة تصوير ما في النفس، وتشكيل ما في القلب حتى تعلمه وكأنك مشاهده» «5» .
وهو لا يذكر مصطلح الاستعارة، إلا أنه يريده في هذه المفردة، فالقدامى لم ينتبهوا إلى جمال الحركة إلا فيما ظهر في الاستعارة على الأغلب، وهم إذا
(1) سورة البقرة، الآية:214.
(2)
الرماني، علي بن عيسى، ثلاث مسائل ص/ 83، وانظر العسكري، أبو هلال، الصناعتين، ص/ 274، والعلوي، يحيى بن حمزة، الطّراز: 1/ 245.
(3)
شرف، حفني محمد، الإعجاز البياني، ص/ 344 بتصرف لغوي.
(4)
سورة الشّعراء، الآية:50.
(5)
الباقلّاني، محمد بن الطيب، إعجاز القرآن، ص/ 244.
مرّوا بكلمات مستعارة تصور الحركة لا يذكرون الاستعارة، كما هي الحال عند الباقلاني الذي بيّن جمال الانقلاب.
ولعلّهم يمرّون بالحركة القوة- الانقلاب- غير آبهين بقدرتها التصويرية، ففي قوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ «1» نلمس سرعة التجار الكفار،
ونشاطهم بين المدن والقوافل، وكأن البلاد الواسعة أطراف فراش يتقلّب بينها التاجر، وهذا يعني عمق تأثير الموقف لدى الرسول الكريم، ولا يكون هذا بكلمة «تجارة» أو «ذهاب» إنه تقلب.
وفي هذه الآية يقول أبو السّعود: «وإنما جعل التقلّب مبالغة أي لا تنظر إلى ما عليه الكفرة من السعة، ووفور الحظ، ولا تغترّ بمظاهر ما ترى من التبسّط والمكاسب أو المتاجرة أو المزارع» «2» .
وقول مثل هذا يدلّ على إجمال التذوق الذي يلجأ مباشرة إلى مصطلح المبالغة، ولا ينير الناحية الفنية في تجسيم الحركة، وقد ذكرت معاني التقلب والانقلاب في القرآن خمسا وثلاثين مرة، وهي دالة على قوة الحركة وسرعتها، وعدم تذوق هذه الصورة ينطبق على المحدثين باستثناء قطب الذي يعدّ تفسيره أكبر رصيد لجمال الحركة، لأن تفسيره عني بالتصوير، فأجاد في التعبير عن قدرة المفردة على الرسم، وإن كانت له هفوات تمخّضت عن ذوق فردي.
يقول تعالى: فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً «3» ، وتعني الآية انتشار خبر موت الرسول الكريم في غزوة أحد، وتأنيب الخالق للمؤمنين، ويقول سيد قطب:«وفي التعبير تصوير حي للارتداد، فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة، وكأنه منظر مشهود، والمقصود أصلا ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة، ولكن حركة الارتداد النفسية» «4» .
(1) سورة آل عمران، الآية:196.
(2)
أبو السعود العمادي، محمد بن محمد، إرشاد العقل السليم: 2/ 135.
(3)
سورة آل عمران، الآية:144.
(4)
قطب، سيّد، في ظلال القرآن، مج 1: 4/ 486.
ومما يضاف هنا إلى قوة الحركة توالي القافات في المفردات الآتية: «قتل، انقلبتم، أعقابكم، ينقلب، عقبيه» ولعل هذا يدلّ على خشونة الطّبع، وشدّة التّوبيخ.
وقد اكتفينا بنبذة من تأملات الدارسين لضيق الحجم، ولكثرة التّكرار في الكتب، ولا بأس أن نمر ببعض الآيات، ونتملى جمال الحركة في مفرداتها، ففي قوله تعالى: قالُوا: لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ «1» نستشف أقصى غايات التغيّر، فالتعبير بالانقلاب يدل على أسرع حركة تجسّم تغيّر رأي السّحرة بفرعون، والتماسهم حبل ربّهم.
كما نجد هذه القسوة والسرعة في الآية الكريمة: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ «2» وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ «3» . وكذلك في تصوير صلاته عليه الصلاة والسلام، الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ «4» فالتقلّب هنا يعبّر عن الحركة الرشيقة التي كان دافعها الإيمان القوي الراسخ.
ويظهر جليّا أن القرآن يميل إلى بث الحركة في الكائنات والمشاعر، وانتقاؤه يدل على مناسبة المواقف، وإقناع العقل وإمتاع الوجدان بجوانب الحركة المبثوثة، فتغدو المشاهد موّارة تثير الخيال، وتتغلغل في الأعماق، ولا تكون سردا ذهنيا جافا.
وكثيرا ما نجد الحركة القوية السريعة مما يبعث على تأثير خاص لا يطلب في موضع آخر، وقد قال جويو:«الصفة الأولى من صفات الجمال في الحركات هي القوة، والصفة الثانية من صفات الجمال في الحركات هي الانسجام، أعني ملاءمة الحركة لبيئتها وغايتها» «5» .
(1) سورة الشّعراء، الآية:50.
(2)
سورة الشّعراء، الآية:227.
(3)
سورة الحجّ، الآية:11.
(4)
سورة الشعراء، الآيتان: 218 - 219.
(5)
جويو، جان ماري، مسائل فلسفة الفن المعاصرة، تر: سامي الدروبي، ص/ 43.
ولدى الاستعانة بهذا يمكننا أن نعرض بعض المفردات التي خفي جمال حركتها على الدارسين، فلم يتأملوه حقّ التأمل، ولعلّ من أسباب هذا الخفاء أنهم تواكلوا على شواهد سابقهم، فحين أراد البيان القرآني التعبير عن ضعف المسلمين وحماية الخالق لهم نقرأ قوله تعالى: تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ «1» ، ففي الخطف قوة المعتدي، وضآلة المعتدى عليه، وهنا تبرز أهمية العناية السماوية، وكأن المسلمين في مكة حينذاك دمى يلتقطها بقوة فرسان أهل الأرض، كما دل التعبير ب «الناس» على هذا.
ونقرأ عن انقلاب سحرة فرعون بعد رؤية البرهان الإلهي في المعجزة:
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ «2» ، وهذا يصوّر الشعور القوي الذي ترسّخ في أعماقهم، فنفضوا غبار الكفر، وسجدوا للقوة العليا، وكأن الشعور الجديد قد ألقى بهم على الأرض ساجدين، ومما يضاف هنا أن الفعل مبني للمجهول لتصوير القوة الخفية الحقيقة بالعبادة، والإنابة إليها، وهنا يثار الخيال لتصوّر شيء يضغط على الجسوم فتجسّد مستسلمة.
ومن المفردات الكثيرة ما جاء في قوله تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ «3» ، إنه السّعي الذي يكون أسرع من المشي.
وكذلك سعي الرجل المؤمن في قوله تعالى: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى «4» ليدافع عن موسى عليه الصلاة السلام، فالسّرعة مطلوبة في هذا الموقف لانسجامها مع الدافع الشعوري القوي.
وفي قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى «5» عن ابن أم مكتوم الرجل الأعمى، إذ يصوّر لهفة هذا الأعمى إلى تعلّم الدّين، فليس وجود «يسعى» هنا
(1) سورة الأنفال، الآية:26.
(2)
سورة الأعراف، الآية:120.
(3)
سورة الحديد، الآية:12.
(4)
سورة يس، الآية:20.
(5)
سورة عبس، الآية:8.