الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونجد في كتاب ابن أبي الإصبع ما يعدّ مسايرة لأحكام الدارسين قبله، فقد استمرت ألفاظ مثل «فصيح وجزل ورقيق وعذب» ، وغيرها مما يدلّ على التعميم والإجمال، يقول عن الفرق بين الجزالة والفصاحة في كتابه «بديع القرآن»: ومنها قوله تعالى: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ «1» ، وقوله سبحانه:
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا «2» ، فألفاظ هذه الجملة كلّها من هذا الباب، وأجزلها قوله تعالى:«اسْتَيْأَسُوا» وأفصحها قوله سبحانه: «خَلَصُوا نَجِيًّا» ، وقلّ أن تجتمع الفصاحة والبلاغة في جملة من هذا الباب إلا في هذه الجملة» «3» .
وكأنما يخلو القرآن من أمثال هذه المفردات، وكأنما أحصاها، فاستوفى السور كلّها، ومن ثمّ أطلق حكمه هذا الذي يعدّ أشدّ تعميما من حكم أسلافه، وما هي إلا إشارة عابرة كانت له في كتابه.
-
الخفّة عند البارزي:
ينقل السيوطي في «إتقانه» ما ورد في أوّل كتاب «أنوار التحصيل في أسرار التنزيل» ، ونقع في هذا الاقتباس على ما يدل على تدبّر عميق لماهية الصّوت، وذلك من خلال ذكر مفردات مرادفة مما يبيّن لنا مظاهر الخفّة في المفردة، إذ يقول البارزي:«اعلم أنّ المعنى الواحد قد يخبر عنه بألفاظ بعضها أحسن من بعض، ومنها قوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ «4» أحسن من التعبير بتقرأ لثقله بالهمزة، ومنها: لا رَيْبَ فِيهِ «5» أحسن من لا شكّ فيه، لثقل الإدغام، ولهذا كثر الرّيب، ومنها وَلا تَهِنُوا «6» أحسن من ولا تضعفوا لخفّته، ووَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي «7» أحسن من ضعف، لأن الفتحة أخفّ من
(1) سورة يوسف، الآية:51.
(2)
سورة يوسف، الآية: 80، نجيّا: يناجي بعضهم بعضا.
(3)
ابن أبي الإصبع، بديع القرآن، ص/ 287.
(4)
سورة العنكبوت: الآية: 48.
(5)
سورة البقرة، الآية:2.
(6)
سورة آل عمران، الآية:139.
(7)
سورة مريم، الآية:4.
الضمة» «1» .
وكأنما صار مفهوم الخفّة يتّصل بما هو رقيق فقط، ويجب أن نؤكد أنّ خفّة مفردات القرآن متحقّقة في الأصوات القوية والأصوات الرّخيّة، ودليل هذا عدم النّبوّ، وسهولة النطق.
ومن البداهة أن تكون دلالة شكّ غير دلالة ريب، وأنّ الإدغام موجود في القرآن، فليس هناك مانع من وجود «شكّ» إلا موافقة الدّال للمدلول، وهذا ينطبق على «وهن» وضعف، فقد قال تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ «2» ، وقال: قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «3» ، وذلك أنه لا بدّ من ملاحظة أمرين:
الأول: نظم الكلام الذي وقعت فيه الكلمة من حيث انسجام الصوتيات.
الثاني: المعنى المراد، فالرّيب هو الشّكّ مع التّهمة، أما الشّكّ فهو عدم ترجيح أحد الاحتمالين أو الأمرين.
ومما يستحبّ هنا هو إحساس البارزي بقوة الضادّ ورقّة الهاء، فهو يبيّن علّة الخفّة التي خفيت على كثير من أسلافه، ويتابع رأيه قائلا:«ومنها «آمن» أخفّ من صدق، ولذا كان ذكره أكثر من ذكر التصديق، و «آثرك الله» «4» أخفّ من فضّلك الله و «أتى» أخفّ من أعطى، و «أنذر» أخفّ، من خوّف، و «خَيْرٌ لَكُمْ «5» أخفّ من أفضل لكم، والمصدر في «هذا خلق الله» «6» و «يؤمنون بالغيب» «7» أخفّ من مخلوق والغائب، ونكح أخفّ من تزوّج، لأن فعل أخفّ
(1) السيوطي، الإتقان: 2/ 269، لم نجد شيئا عن كتاب البارزي في كشّاف الظّنون أو ذيله، وكذلك كتب التراجم.
(2)
سورة يونس: الآية: 94.
(3)
سورة إبراهيم، الآية:10.
(4)
سورة يوسف، الآية:91.
(5)
سورة البقرة، الآية:184.
(6)
سورة لقمان، الآية:11.
(7)
سورة البقرة، الآية:3.
من تفعّل، ولهذا كان ذكر النّكاح فيه أكثر» «1» .
وقد سبق أن أوضحنا في الفصل الأول أهمية المعنى المبتغى من جمال الشكل في المفردات التي سردها البارزي، والجدير بالذكر أن بعض المعاصرين يقتبسون رأي البارزي، ويزينون به بحوثهم من غير تعليق، حالهم في هذا حال السيوطي الذي يجمع، ولا ينقد في الأغلب.
ولا يمكن أن ندّعي إسراف البارزي وتفريطه في مضمون الكتاب لأجل الحلاوة والخفّة، فهو ينظر باحتياط إلى مجموع القرآن، لأنّه يحترز بكلمة «أكثر» أو «كثر ذكره» تحاشيا للتعميم غير الدقيق، فقد جاء في القرآن قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها «2» .
ومما يسترعي الانتباه رهافة حسّه، فقد رأى أن التشديد يجعل الحرف ثقيلا أو قويا، وخصوصا إذا كان حرف لين، فالقرآن ذكر فعل تزوّج على قلّة.
وقد انتبه البارزي إلى ثقل الشّدّة على الواو، وكذلك يعبّر عن إحساس بالبنية الداخلية، فإن مادة (خلق) تعاد في مخلوق، لكنّه يستقبح الوقوف على القاف بعد مدّ الواو، وكأنه لمس شدّة تسكين الفاء الحرف الشّفويّ الذي يخرج من باطن الشّفة السّفلى وأطراف الثّنايا العليا، ولتفادي النّبر القاسي عند الوقوف عليها كان وجود «خير» لا أفضل.
وكذلك تتعدّى نظرته ماهية الصوت إلى ميزة أخرى، وهي نوعية الحركة، فالفاء قاسية اللفظ في «أفضل» وليست بقاسية في قوله تعالى: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ «3» ، وذلك لاستراحة الشّفاه مع الكسرة.
وفي الموضع نفسه يرى البارزي أن الاختصار الذي يكون في المجاز، والتطويل الذي يكون في الحقيقة، ما يجعلنا نحبّذ لفظة «آسفونا» في قوله تبارك وتعالى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ «4» فهو يقول: «أحسن من «فلمّا
(1) السيوطي، الإتقان: 2/ 270.
(2)
سورة الأحزاب، الآية:37.
(3)
سورة الشعراء، الآية:80.
(4)
سورة الزّخرف، الآية:55.