المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ السجع والفاصلة القرآنية: - جماليات المفردة القرآنية

[أحمد ياسوف]

فهرس الكتاب

- ‌شكر واهداء

- ‌التقريظ بقلم الأستاذ الدكتور نور الدين عتر

- ‌المقدمة

- ‌مدخل في مفهوم الجميل عند العلماء المسلمين

- ‌الفصل الأول الجوانب الجمالية في المفردة القرآنية

- ‌1 - جمال المفردة في الأدب

- ‌ تجاوز المرحلة المعجمية:

- ‌ خصوصية المفردة القرآنية:

- ‌ الشكل والمضمون:

- ‌2 - المفردة والنظم في كتب الإعجاز

- ‌ مناهج الاهتمام بالمفردة القرآنية:

- ‌ نظرية النظم:

- ‌ حجج الدفاع عن المفردة:

- ‌3 - الترادف والفروق

- ‌ معنى الترادف:

- ‌ تأكيد الترادف:

- ‌ تأكيد الفروق:

- ‌4 - الأثر الموسيقى لمفردات القرآن

- ‌ في القرآن والحديث:

- ‌ شهادة معاصري نزول الوحي:

- ‌هذيان مسيلمة

- ‌ معارضة الشعراء للقرآن:

- ‌ الإجمال في التذوق السمعي:

- ‌الفصل الثاني إسهام المفردة القرآنية في الجمال البصري

- ‌1 - إسهام المفردة في التجسيم

- ‌ التجسيم لغة:

- ‌ التجسيم اصطلاحا:

- ‌ مع جهود القدامى:

- ‌ مع المحدثين:

- ‌2 - مفردات الطبيعة والأحياء

- ‌ الطبيعة في القرآن:

- ‌ مفردات الجماد والنبات عند القدامى:

- ‌ نظرة المحدثين:

- ‌ مفردات الجماد والنبات عند المحدثين:

- ‌ مفردات الأحياء:

- ‌3 - إسهام المفردة في التشخيص

- ‌ التشخيص لغة:

- ‌ التشخيص اصطلاحا:

- ‌ تشخيص المفردة عند القدامى:

- ‌ تشخيص المفردة عند المحدثين:

- ‌4 - جمالية الحركة في المفردة

- ‌ الحركة: القوية السريعة

- ‌ الحركة البطيئة:

- ‌ تصوير الحركة بالصوت:

- ‌الفصل الثالث إسهام المفردة القرآنية في الجمال السمعي

- ‌1 - الانسجام بين المخارج

- ‌فكرة الانسجام:

- ‌نظرة ابن سنان:

- ‌نظرة ابن الأثير:

- ‌2 - المفردات الطويلة في القرآن

- ‌ نظرة ابن سنان:

- ‌ نظرة ابن الأثير:

- ‌3 - مفهوم خفة المفردات

- ‌الذوق الفطري عند ابن الأثير:

- ‌ إضافة الرافعي على ابن الأثير:

- ‌ الخفّة عند البارزي:

- ‌ ضآلة التوضيح عند المحدثين:

- ‌4 - الحركات والمدود

- ‌ جمالية الحركات:

- ‌ جمالية المدود:

- ‌5 - مظاهر الأونوماتوبيا

- ‌ تعريف الأونوماتوبيا

- ‌ جذورها في تراثنا:

- ‌ منهج المحدثين:

- ‌الفصل الرابع ظلال المفردة والمعنى

- ‌1 - دلائل صيغ مفردات القرآن

- ‌ إشارة ابن جني:

- ‌ مع الزمخشري

- ‌ ما بعد الزمخشري:

- ‌ جهود المحدثين:

- ‌ إنصاف القدامى:

- ‌2 - الدلائل التهذيبية في مفردات القرآن

- ‌ في أمور النساء:

- ‌ نظرة جديدة:

- ‌ جوانب تهذيبية عامة:

- ‌ تأملات الزمخشري:

- ‌ ابن أبي الإصبع:

- ‌ مع المحدثين:

- ‌3 - سمة الاختزان في مفردات القرآن

- ‌ إشارة الجاحظ:

- ‌ الإيجاز عند الرماني والباقلاني:

- ‌ الاختزان في الصيغة:

- ‌ الاختزان في التهذيب:

- ‌4 - مناسبة المقام

- ‌ معيار اللغة والذوق الفني:

- ‌ الذوق الذاتي عند ابن الأثير:

- ‌ المفردة وغرابة الموقف:

- ‌ الفروق عند الزركشي:

- ‌ ظلال الدلالة الخاصة:

- ‌5 - تمكن الفاصلة القرآنية

- ‌ تعريف الفاصلة:

- ‌ السجع والفاصلة القرآنية:

- ‌ مناسبة الفاصلة لما قبلها:

- ‌ انفراد الفاصلة بمعنى جديد:

- ‌ رأي الدّاني في الفاصلة:

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس ترجمة الأعلام

الفصل: ‌ السجع والفاصلة القرآنية:

‌5 - تمكن الفاصلة القرآنية

-‌

‌ تعريف الفاصلة:

الفاصلة لغة هي ما يفصل بين شيئين، وهي في علامات الترقيم في الكتابة العلامة التي توضع بين الجمل التي يتركب منها كلام تامّ الفائدة، وبين الكلمات المفردة المتصلة بكلمات أخرى تجعلها شبيهة بالجملة في طولها «1» .

أما الفاصلة اصطلاحا، فهي كلمة آخر الآية، كقافية الشعر، وقرينة السجع، وتقع الفاصلة عند الاستراحة في الخطاب، لتحسين الكلام بها، وهي الطريقة التي يباين القرآن بها سائر الكلام.

وتسمّى فواصل، لأنه ينفصل عندها الكلامان، وذلك أن آخر الآية فصل بينها وبين ما بعدها، ولم يسمّوها أسجاعا، فأما مناسبة فواصل، فلقوله تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ «2» وأما تجنّب أسجاع، فلأنّ أصله من سجع الطير «3» .

فالفاصلة في القرآن كلمة تختم بها الآية وغالبا ما تضمنت الواو والنون، أو الياء والنون، وذلك لأهمية التّطريب، ففاصلة الآية الكريمة: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ «4» هي كلمة «ساهون» لأنها تفصل بين آيتين.

-‌

‌ السجع والفاصلة القرآنية:

تقوم الفاصلة القرآنية بدور الإحكام، فتربط بالمعنى الكلي الذي يسبقها في الآية ذلك إضافة إلى ترنيمها الموسيقى الواضح، فهذا الإحكام يتّسم بوظيفتين في الشكل والمضمون.

(1) مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، 2/ 698.

(2)

سورة فصّلت، الآية:3.

(3)

انظر الزركشي محمد بن عبد الله، البرهان: 1/ 83.

(4)

سورة الماعون، الآية:5.

ص: 309

والحديث عن الفاصلة قديم قدم الدراسات الأدبية للقرآن، فقد أكّد الرماني في تعريفه الأدبي للفاصلة سموّها واختلافها عن الأسجاع، وقال:«الفواصل حروف متشابكة في المقاطع، توجب حسن إفهام المعاني، والفواصل بلاغة، والأسجاع عيب، ذلك لأن الفواصل تابعة للمعاني، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها» «1» .

والرماني يرى أن التعلق الشكلي المتعيّن في مماثلة الأصوات في الرّويّ يدعو إلى التكلّف المستهجن، وهذا مستفاد من أصل تسمية الأسجاع، فسجع الحمام يعني ترديد الصوت نفسه، وكذلك السّجع في فنّ النثر، وكأنّ الرماني يلمّح إلى وجود فواصل متقاربة الروي في القرآن، فبناء الفواصل ينطوي غالبا على المغايرة والتنويع، مراعاة

للمعاني، وهذه الفضيلة تبعد السّجع عن أسلوب القرآن.

ومن الذين تحمّسوا قديما لقضية نفي السجع أبو بكر الباقلاني، وهو يقوم بهذا الردّ جاهدا في ربط المفردة الأخيرة من الآية بسياق المعنى الكلي، يقول:

«ولو كان القرآن سجعا لكان غير خارج عن أساليب كلامهم، ولو كان داخلا فيها لم يقع بذلك إعجاز، ولو جاز أن يقال: هو سجع معجز، لجاز لهم أن يقولوا:

شعر معجز، وكيف والسجع مما كان يألفه الكهان من العرب، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجّة من نفي الشعر، لأن الكهانة تنافي النّبوّات، وليس كذلك الشعر» «2» .

فهو بعد هذا الرد المنطقي يذكر شواهد من مثل تقديم موسى على هارون في موضع، وهارون على موسى في موضع آخر.

ونقف عند نقطتين في عبارة الباقلاني، الأولى: أن كلامه يوحي بأن جميع القرآن متّهم بالسجع، وإذا كان السجع مماثلة في الرويّ، فقد وقع في القليل منه، وإذ استقلّت الفواصل المتماثلة بإحدى عشرة من السّور القصار وهي: القمر والقدر والعصر والكوثر والأعلى، والليل والشمس والمنافقون والفيل والإخلاص والنّاس.

(1) الرماني، علي بن عيسى، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 89.

(2)

الباقلّاني، أبو بكر، محمد بن الطيب، إعجاز القرآن، ص/ 86.

ص: 310

أما مقارنة البيان القرآني بالشعر فهي بعيدة عن التحقيق، لأن قيود القافية والوزن أبعد ما تكون عن نظم القرآن.

والنقطة الثانية: خروج القرآن عن أساليب كلام العرب، وقد دأب دارسو الإعجاز يعلّلون الصور والمجازات بقولهم: كانت العرب تقول كذا، وربما كان هذا زائدا عن حدّه أحيانا.

ولقد توسّم ابن سنان غاية الفصاحة في وجود بعض المماثلة في الكلام، فلا يكون كلّه مسجوعا، يقول:«إن القرآن أنزل بلغة العرب، وعلى عرفهم وعادتهم، وكان الفصيح منهم لا يكون كلامه كلّه مسجوعا، لما في ذلك من أمارات التكلّف والاستكراه والتصنّع، ولا سيّما فيما يطول من الكلام» «1» .

ويستفاد هنا من كلام ابن سنان أن المواضيع القرآنية هي التي تتحكم في وجود السجع أو قرب السجعة أو بعدها، وهذا جليّ في أسلوب القرآن، فالسور المدينة تحتاج أفكارها إلى التفصيل، مثل آية الدّين، وآية الحجاب، وآيات التّوريث، فهذا يحتاج إلى دقّة تشريعية، وكذلك الأمر في العتاب والأخلاق وأمور الفقه كافة، وهذا يختلف عن أسلوب السور المكية القصار التي شملت مواضيعها الترهيب والترغيب وقضايا التوحيد، ووصف الجنة والنار، وكانت نبرة الغضب والزجر لا تتطلب النّفس الطويل، فتأتي الفاصلة بسرعة، وكأن المشهد قذيفة في إثر قذيفة، كما أنّ القصص يختلف أسلوب سردها بين السّور المكية وبين السّور المدنية، وعلى الرغم من هذا لم تتماثل الفواصل تمام التماثل غالبا، وذلك لأغراض فنية عميقة.

ومن خلال هؤلاء الأعلام نستنتج تواتر التحرّج من مسّ القرآن باصطلاح «السّجع» ، لأصله اللغوي في صوت الحمام، ولعيوبه الكثيرة التي لمسوها عند الخطباء المتقعّرين، وبعض المؤلفين في العصر العباسي، وانزاحت هذه الصورة من أذهانهم مع تقدم الزمن، لذلك رأينا السماحة في قبول مصطلح السجع، على أن سجع القرآن سجع محمود لا تكلّف فيه.

(1) ابن سنان الخفاجي، عبد الله بن محمد، سرّ الفصاحة، ص/ 205.

ص: 311

وتكمن مشكلة التسمية إذن في رغبتهم في تنزيه القرآن، وإلى هذا توصّل السيوطي فقال:«وأظنّ أن الذي دعاهم إلى تسمية جلّ ما في القرآن فواصل، ولم يسمّوا ما تماثلت حروفه سجعا رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المرويّ عن الكهنة، وهذا غرض في التسمية قريب» «1» .

والمشكلة ليست في الاسم، بل في تبعيّة الشكل للمضمون في الفاصلة، وقد ذهب الفراء «2» في تفسيره «معاني القرآن» إلى القول بسجع القرآن، ورأى أن ليس من المعيب الحرص على الرنّة الموسيقية، ودعم رأيه بشواهد من السّور القصار، فرأى أن الغاية الموسيقية هي التي تتحكم في صيغة الفاصلة، فلا بأس أن يوجد الحذف، أو إفراد المثنّى، أو جمع المفرد، وغيرها من الأحكام.

فقد رأى في سورة الضحى أن السجع هو علّة الحذف في قوله تعالى:

ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى «3» ، فأصل الكلام عنده:«ما ودّعك ربّك وما قلاك» فهو يقول: «يريد ما قلاك، فألقيت الكاف، كما تقول أعطيك وأحسنت، فهو يقول: «يريد ما قلاك، فألقيت الكاف، كما تقول أعطيك وأحسنت، ومعناه أحسنت إليك، فتكتفي بالكاف من إعادة الأخرى، ولأن رءوس الآيات بالياء، فاجتمع فيه ذلك» «4» .

فالسبب الأول هو أن البلاغة الرفيعة على هذا المنوال، والسبب الثاني مراعاة رويّ الفواصل الأخرى، فلا يكتفي بناحية الشكل كما نرى، بيد أننا بينا في مكان سابق كيف توسّمت عائشة عبد الرحمن التهذيب في حذف

(1) السيوطي، جلال الدين، الإتقان: 2/ 213.

(2)

هو يحيى بن زياد الدّيلمي أبو زكرياء، نحوي، كان أبرع النحويين في الكوفة عاصر هارون الرشيد، ووضع كتابه «معاني القرآن» تلبية لأسئلة الأمراء عن التفسير، توفي في طريقه إلى مكة سنة 207 هـ، من كتبه «المذكر والمؤنث» و «الفاخر» و «الممدود والمقصور» ، انظر طبقات النحويين واللغويين للزّبيدي، ص/ 143.

(3)

سورة الضّحى، الآية:3.

(4)

الفراء، يحيى بن زياد، 1972، معاني القرآن، تح: د. عبد الفتاح إسماعيل شلبي، ط/ 1، الهيئة المصرية العامة للكتاب: 3/ 271.

ص: 312

الكاف، ولم تحتكم إلى عادة الاستعمال اللغوي هنا.

ومن شواهده على أنّ المضمون مسخّر لأجل الشكل قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى «1» ، يقول:«يراد به فأغناك وآواك فجرى على طرح الكاف، لمشاكلة رءوس الآيات، ولأن المعنى معروف» «2» .

وهو لا يوضّح هنا تعاضد الشكل والمضمون، كما أنه لا يشير إلى جمال هذا التنغيم الذي هو علّة الحذف، ولا يعطيه حقّه من التّبيان والتعليل، وكأنه يريد أن يرجّح العلة الشكلية فحسب.

لم يكن الفراء وحده آخذا بهذا الرأي، وجاهدا في الدفاع عن سبب الشكل في الحذف في مثل هذه الكلمات، فهناك النيسابوري، والفخر الرازي «3» .

وقال السيوطي: «ألّف الشيخ شمس الدين بن الصّائغ الحنفي كتابا سماه «إحكام الرأي في أحكام الآي» قال فيه: اعلم أن المناسبة أمر مطلوب في اللغة العربية يرتكب لها أمور من مخالفة الأصول» «4» ، ومن هذه الأحكام صرف ما لا ينصرف، وحذف المفعول، وغير هذا.

ويرى أحمد حسن الزيات أن «وجود الازدواج والسجع في القرآن الكريم في حالة تجوز لبعض الصيغ والألفاظ، ما يقطع بلزومه في البيان العربي، فأعجاز النخل مرة «خاوية» ، ومرة «منقعر» «5» .

ومن الحيف أن يكتب هذا في مستهل القرن العشرين، وقد مضت قرون على نظرة الفراء، وجهد القدامى في تأكيد تمكّن الفاصلة، واستقلال كلّ صيغة بمعنى، ويعدّ ما ذكروه دراسات جمّة تردّ على الفراء بأن تمكّن الفاصلة بعيد

(1) سورة الضّحى، الآية:6.

(2)

الفراء، يحيى بن زياد، معاني القرآن: 3/ 274.

(3)

انظر عبد الرحمن، د. عائشة، الاعجاز البياني للقرآن، ص/ 249.

(4)

السيوطي، جلال الدين، الاتقان: 2/ 214، وانظر السيوطي، معترك الأقران:

1/ 32. ولم أجد تعريفا بهذا الكتاب في كشف الظنون وذيله، ويعرف ابن الصائغ في حاشية مقبلة.

(5)

الزيات، أحمد حسن، دفاع عن البلاغة، ص/ 47.

ص: 313

عن مجرّد المناسبة اللفظية.

وقد كانت حجّة الزيات أن الله عز وجل يقول في سورة القمر: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «1» ، وفي سورة الحاقة يقول: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ «2» ، والمقصود بهذا التشبيه واحد، يقول المبرّد في مخطوطة المذكر والمؤنث:«ليس في إحدى الآيتين رعاية للفاصلة، وما أغنى القرآن عن رعايتها لو أدخلت على المعنى، وإنما قصد جنس النخل في التذكير، وأريدت جماعته في التأنيث، وبكلتا الصيغتين نطقت العرب، وعلى كلتيهما بنت تصرّفها في الكلام» «3» .

هذا من جهة التذكير والتأنيث أما اختلاف نعت أعجاز النخل مرة خاوية ومرة «منقعر» فإننا نجد أن كلمة «خاوية» معناها ساقطة، وقد ناسبت هذه الفاصلة ما قبلها دون «منقعر» في هذا المقام، لأن القوم صرعى ألقت بهم الريح العاتية على الأرض، كما ألقت بأركان بيوت القرية في قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها «4» ، فهنا يقصد مجرد السقوط، وعند ما قصد البيان الإلهي خفّتهم أمام قوة الريح ذكر كلمة «منقعر» ، وفي هذا يتضح التمكن في أقصى غاياته.

ونحسّ في تفصيلات الزمخشري دفع تهمة السجع، وذلك من خلال نظرية النظم، وهو يصرح بهذا قائلا:«لا تحسن المحافظة على الفواصل لمجردها إلّا مع بقاء المعنى على سردها على المنهج الذي يقتضيه حسن النظم والتئامه .. وبني على ذلك أن التقديم في وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ «5» ، ليس لمجرد الفاصلة، بل لرعاية الاختصاص» «6» .

فهو يثبت أن التقديم كان لأهمية ما يوقن به المرء في الدرجة الأولى، ويأتي

(1) سورة القمر، الآية:20.

(2)

سورة الحاقّة، الآية:7.

(3)

الصالح، د. صبحي، دراسات في فقه اللغة، ص/ 87.

(4)

سورة البقرة، الآية:259.

(5)

سورة البقرة، الآية:4.

(6)

الزمخشري، محمود بن عمر الكشاف: 1/ 137.

ص: 314

ترنيم الواو والنون في الدرجة الثانية.

والمحدثون لم يميلوا إلى جانب سيطرة الشكل على المضمون، فهم يعترفون برنة الفاصلة من حيث هي قرار موح، وترجيع رائع، ولكن هذا مرتبط أشدّ الارتباط بالمعنى، فأحمد بدوي يقول:«فإنك لتجد أن الفاصلة القرآنية كالقافية الشعرية، وتزيد الفاصلة على نظيرتها بشحنة المعنى، ووفرة النّغم، والسعة في الحركة» «1» .

وقد حاولت عائشة عبد الرحمن جاهدة الردّ على الفراء الذي قال بعلّة السجع في وجود الفاصلة، وكان اختيارها لتفسير قصار السور مناسبا، لأن الفراء فسّر مقولته بشواهد من السّور القصار.

ومعيارها الاستخدام الصحيح للغة، والأسلوب الخاص للبيان القرآني من خلال اطّراد صيغ ما، فلا يوجد إسقاط نفسي يدعو إلى الأخذ به، أو إلى رفضه، بل اللغة الصحيحة التي تعلّمنا الفروق الدقيقة هي المتحكم، وفي كل وقفة لها نقع على احتراز من توهم المراعاة الشكلية للفواصل.

وتقول في الآية الكريمة: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ «2» : «لم يعدل فيها عن الكريم إلى الأكرم لمجرد رعاية الفاصلة، ولا قصد بها المفاضلة بين أكرم وكريم، على ما تأوّله المفسّرون، فالغاية من صيغة أفعل هي أبعد ما يكون من التصوير» .

وهذا ما تراه أيضا في اسم الأعلى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «3» ، تقول:

«وإنّما القصد المضيّ بالعلوّ إلى نهايته القصوى بغير حدود ولا قيود» «4» .

وهي تنظر في صيغة الفاصلة، وتبحث عن نظائرها محافظة على أسلوبها الشمولي، ففي الآية: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى «5» تقول: «واستعمال العسرى

(1) بدوي، د. أحمد، من بلاغة القرآن، ص/ 89.

(2)

سورة العلق، الآية:3.

(3)

سورة الأعلى، الآية:1.

(4)

عبد الرحمن، د. عائشة، البيان في الإعجاز، ص/ 253.

(5)

سورة الليل، الآية:7.

ص: 315

كاستعمال اليسرى ليس ملحوظا فيه المصدرية كالعسر واليسر، وإنما الملحوظ فيها بصيغة فعلى أقصى اليسر، وأشدّ العسر، أو هما اليسر الذي لا يسر مثله، والعسر الذي ما بعده عسر، ونظيرهما في القرآن الكريم من غير المادة:

«البطشة الكبرى والنّار الكبرى» «1» .

فقرين هذا في الآية الكريمة: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى «2» وقوله عز وجل: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى «3» .

والجدير بالذكر أن صيغة الكبرى لم ترد إلا مسندة إلى آيات الله، وفي وصف القيامة، وهذا يحقق غاية الفاعلية، ليظلّ التفكير يحوم حول مدى قدرة الله المطلقة.

وفي تفسيره سورة الهمزة تذكّر بالاستعمال الصحيح الذي تعدّه سلاحا في رفض القول بالسجع، قال تعالى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ «4» .

وهي لا ترى في الأفئدة معنى عضويا إذ تقول: «إذن يكون إيثار الأفئدة هنا لا لنسق الفاصلة فحسب، ولكنه كذلك لتخليص الأفئدة من حسّ العضويّة التي تدخل على دلالة لفظ القلوب فيما ألف العرب من لغتهم، ولا نزال نستعمل القلب بمعناه العضويّ، ولا نستعمل الفؤاد بهذا المعنى قطّ» «5» .

وهي قلّما تسهب في بسط الجوانب النفسية، إذ تكتفي غالبا بذكر التمكن اللغوي، إلا أن أسلوبها يوحي بمجاوزة البعد اللغوي، لأجل تبيين المقدرة التصويرية من خلال الفروق، فهي لا تعلّق مثلا على أهمية الأفئدة لا القلوب بشكل واضح، مما يفسّر العذاب الذي ينال النّفس.

وبعد هذا لا بدّ من الإشارة إلى أن الدراسين لم ينكروا مراعاة الفواصل

(1) عبد الرحمن، د. عائشة، التفسير البياني: 2/ 111.

(2)

سورة الأعلى، الآيتان: 11 - 12.

(3)

سورة الدخان، الآية:16.

(4)

سورة الهمزة، الآيتان 6 - 7.

(5)

عبد الرحمن، د. عائشة، التفسير البياني: 2/ 181.

ص: 316