الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكن هنالك موقف خاص في تصوير جماليات الإيحاء المادي للكلمة المستعارة، وظلّت مسألة التعبير الحسي مبهمة، واهتم النقاد- جميعا- بتقرير الإشارة وتمكينها في العقل، وتصوّروا أن تشكيل الاستعارة المادي يوجد بمعزل عن فاعلية المعنى والسياق».
ولعلنا نلمس في القول آنف الذكر إجحافا بما بذله القدامى، وما يمكن أن يسمّى تأمّلا فعّالا، فالقدامى أدركوا هذه الجمالية التي افتقدها الباحث المعاصر، وذلك مع تأطير كلامهم بالإطار العقلي، كما أنهم تنبهوا إلى أهمية المفردة المستعارة في التصوير الحسي، وعرفوا أنها علّة الإثارة الوجدانية، فلم يكن هذا بعيدا على سبيل المثال عن الشريف الرضي أو الزمخشري أو ابن أبي الإصبع.
ولا يمكن أن نعتمد هذا التعميم، فإنه إن صح في نقد الشعر، فهو أبعد ما يكون بتعميمه على بلاغة القرآن لدى القدامى، على الرغم من أن رجال البلاغة يصدرون أبوابهم بالشواهد القرآنية، ويدرسونها على اختلاف الأذواق، ولا يجوز النظر إلى الأسلاف بمنظار عصري، لذلك نرى أن هذا القول أيضا يتعارض وروح الدراسات السابقة.
-
مع المحدثين:
تختلف نظرات الباحثين في العصر الحديث إلى تجسيم المفردات القرآنية، فبعضهم يرى هذا التجسيم في الأصوات أي ما يدعى «بالاونوماتوبيا» ، وبعضهم لم يحدّد المصطلح فجعله في حيّز أكبر هو التصوير بشكل عام، فيقرنه بالتشخيص والتمثيل والتخييل، وربما أعاد بعضهم مصطلحات القدامى وتقسيماتهم للصورة الفنية، ومنهم من اكتفى بإشارات بسيطة.
أما أضخم كتاب في هذا المجال فهو «في ظلال القرآن» لسيد قطب ثم كتاباه «التصوير الفني» و «مشاهد القيامة» .
ومن أهم كتب الدراسة القرآنية التي نهل منها المحدثون كتاب أحمد بدوي «من بلاغة القرآن» الذي عدّ منارة لغيره، وسوف نعرض لبعض آرائهم
التنظيرية، ولنبذة من تعليقاتهم الفنية.
يرى أحمد بدوي أنّ حسية التصوير كامنة في اختيار المفردات الحسية في الاستعارة، مما يزيد في قدرة التوصيل، يقول:«ولهذا الميل القرآني إلى ناحية التصوير، نراه يعبّر عن المعنى المعقول بألفاظ تدلّ على محسوسات مما أفرد له البيانيون علما خاصّا به دعوه علم البيان، وذلك أن تصوير الأمر المعنوي في صورة الشيء المحسوس يزيده تمكّنا في النفس وتأثيرا فيها» «1» .
وهو يكرر هذه الفكرة في كتابه، وتبعه في هذا الرأي سائر الدارسين، وقوام رأيهم أن المرحلة المحسوسة للمفردة تقدم إيحاءات جديدة للمعنى النفسي، فالمفردة المستعارة تضخّ لما حولها من الطاقة الشعورية عند ما يرتدّ إليها النظر.
وخير من يقدم فيضا من التحليل الفني للمفردة المجسّمة سيد قطب في كتبه الثلاثة، لأنه في عصرنا هذا أكثر من تعرّض لبلاغة القرآن كمّا، وإضافة إلى هذا وجد أن التصوير عماد البيان القرآني، وأنه ليس زينة، بل لا يقوم المضمون من غير هذا التصوير، فهو وسيلة إيضاح وتأثير، ويشمل التصوير فيما يبدو كل الأسلوب القرآني من تخييل وتصيير «2» وتجسيم ورسم مشاهد
…
، وهو يقول عن التجسيم في تفسيره:«إن كل كلمة أشبه بخط من خطوط الريشة في رسم الملامح وتحديد الصفات- وسرعان ما ينتفض النموذج المرسوم كائنا حيّا، مميّز الشخصية، حتى لتكاد تشير بإصبعك إليه، إنها عملية خلق أشبه بعملية الخلق التي تخرج كل لحظة من يد البارئ في عالم الأحياء» «3» .
ويمتزج هنا الوازع الديني بالجانب الفني، إلا أنّ قطبا أثبت مرارا أن هذه الرّوعة التصويرية نابعة من النص، فالكلمة تستقل برسم مشهد أو نقل حركة أو تشخيص فكرة، وهو يصرّح باسم التجسيم قائلا: «وظاهرة أخرى تتضح في
(1) بدوي، د. أحمد، من بلاغة القرآن، ص/ 65، وص/ 218، وكذلك انظر حفني محمد شرف، الإعجاز البياني، ص/ 343، والشيخ أمين، د. بكري، 1973، التعبير الفني في القرآن، ط/ 1، دار الشروق، بيروت، ص/ 195.
(2)
صيّره إلى كذا حوّله، وكذلك صيّره كذا حوّله تحويلا.
(3)
قطب، سيد، في ظلال القرآن، مج/ 1: 2/ 204.
تصوير القرآن، وهي «التجسيم»: تجسيم المعنويات المجردة، وإبرازها أجساما أو محسوسات على العموم، إنه ليصل في هذا إلى مدى بعيد، حتى ليعبّر به في مواضح حساسة جدّ الحساسية، يحرص الدين الإسلامي على تجريدها كامل التجريد، كالذات الإلهية وصفاتها» «1» .
فالتجسيم جزء من التصوير، لأنه يقتصر على نقل المجرد إلى المجال لمحسوس، ولم يكن اهتمام سيّد قطب بالبعد النفسي للتجسيم جديدا أو شيئا منكر بوجوده ما ذكره الأقدمون، وإن كان هو وأغلب المحدثين لا يهتمون لتقرير نوع الاستعارة أو وجه الشبه وما شاكل ذلك، مما يطرأ على لسان لأقدمين، فالبعد النفسي موجود لمن ينظر بإنصاف إلى الكتب القديمة، وما أتى به قطب لا يعدّ بديلا عما سلف.
ولنقرأ قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ «2» وننظر كيف يلقي لضوء في مفردة «أشربوا» إذ يقول: «تلك الصورة الساخرة الهازئة: صورة لعجل يدخل في القلوب إدخالا، ويحشر فيها حشرا، حتى ليكاد ينسى المعنى لذهني الذي جاءت به هذه الصورة المجسّمة لتؤديه، وهو حبهم الشديد لعبادة لعجل» «3» .
ويكاد لا يزيد هذا الكلام عن كلام الدارس القديم إلا بعدم ذكر كلمة الاستعارة، وهنالك شيء آخر، وهو إثارة الباحث المعاصر للخيال.
ولتأكيد هذا لا بدّ أن نذكر شاهدا آخر يؤكد فيه أهمية الكلمة المجسّمة بشكل جلي، يقول تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ «4» ، فهو يقول ما لا يختلف عما ذكره سابقا الزمخشري، إذ يقول سيّد قطب: «إن الخيال ليكاد يجسّم هذا الحرف الذي يعبد الله عليه هذا البعض من الناس،
(1) قطب، سيد، 1956، التصوير الفني في القرآن، ط/ 2، دار المعارف بمصر ص/ 57.
(2)
سورة البقرة، الآية:93.
(3)
قطب، سيّد- في ظلال القرآن، مج/ 1: 2/ 265.
(4)
سورة الحج، الآية:11.
وإنه ليكاد يتخيل الاضطراب الحسي في وقفتهم، وهم يترجّحون بين الثبات والانقلاب» «1» .
لقد دلّ الزمخشري على غاية القلق في كلمة «حرف» ، لكن سيّد قطب يضيف إثارة الخيال لتملّي الجمال القرآني، وغالبا ما يستثير الخيال في صورة تدلّ على الحركة، فالقرآن في منظوره صور تتحرك، وأشخاصه كائنات لها فاعلية مستمرة، فالموقف المضطرب عند الزمخشري، وتخيّل الحرف عند قطب.
ولكن ما هي أسس قطب في مسألة التجسيم هذا؟ إن هي إلا الذوق الخاص والعاطفة الشديدة، وهذا ما يوصله إلى بعض من التوهم كما سنرى في مكان آخر.
وهو لا يعتمد علم الدلالة، أو علم الأصوات، أو الموروث اللغوي، أو دقة الفروق في دراسة المفردات، أما الزمخشري فقد ارتبط ذوقه الشخصي بالذوق العام، وتأكد بترسيخ المعنى في اللغة، وطبيعة النفس والحياة، وكأنما عرف قطب ذوقه الفرديّ النابع من عاطفة، فهو يذكر «يكاد» ليحدّ من مبالغته.
ومما يعد أصالة في كتبه تلك الوقفات الرائعة على البيان القرآني في كلمات لم ينتبه القدامى إلى تجسيمها، ومثل هذا في قوله تعالى: وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ «2» يقول سيد قطب: «تجسيم لهذا المعنى، وأي تعبير ذهني عن اللّجاجة في الخطيئة ما كان ليشعّ مثل هذا الظل الذي يصوّر المجترح الآثم حبيس خطيئته: يعيش في إطارها، ويتنفس في جوّها، ويحيا معها ولها» «3» .
فالقرآن يقدم أفكارا محسوسة، ويبعدها عن التجريد الذهني لأجل التأثير بأقصى فاعليته.
لكننا كثيرا ما نجد قطبا في تفسيره يظن التجسيم في كلمات مجسّمة بصوتها، أو بوجودها، ولا نستطيع أن نتوصل إلى ما يدلي به، وصحّة ما وقر
(1) قطب، سيّد، التصوير الفني، ص/ 42.
(2)
سورة البقرة، الآية:80.
(3)
قطب، سيد، في ظلال القرآن، مج/ 1: 1/ 86.
في نفسه، كما حدث في تفسيره لقوله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ «1» ، يقول:«وأي تعبير آخر ما كان ليرسم أمام المخيّلة هذا الاستعراض كما رسمته هاتان الكلمتان العاديتان في موضعهما المختار- ألم تر-» «2» .
إنه يخصّ استعراض المشهد وتجسيمه بهاتين الكلمتين، وما وقع عليه يمكن أن نلقي فيه ضوءا آخر، من حيث النظم، إذ ينتفي النّفي بوجود الاستفهام بالهمزة مع حرف النّفي، ليفيد غاية القوة في الإثبات، ثم يأتي اختيار فعل «تر» المعبّر عن الرؤية، ليؤكّد صدق الخبر الذي يرويه الخالق، لأن البصر أكثر برهانا من الخبر، فلم يذكر البيان القرآني تعبير «ألم تسمع» أو «ألم تخبر» أو غير هذا، وفعل الرؤية يطرد في كل الأخبار التي يرويها الخالق لنبيّه الكريم، مثل أخبار عاد وثمود وفرعون والطير الأبابيل، ففي الفعل رسم لمشهد من غيب الزمن الماضي.
ومن دواعي النّصفة القول بأنه لم ينفرد بالوهم والمبالغة، وأنه استوفى القرآن كله، كما صنع الزمخشري، وهذا الشمول لدى قطب لم يمنع من إهماله لبعض المفردات المجسّمة عند ما يشغل بالرواية وبالجانب الفكري، ونحن نجد في كتبه الثلاثة الجدّة والأصالة، فإذا قرأنا كتب معاصريه توالت الإحالات إلى بدوي، ومن القدامى الزمخشري وابن الأثير خاصّة، وممن دار في فلك بدوي الدكتور بكري الشيخ أمين، وحفني محمد شرف، وعدنان زرزور، وغيرهم كثير.
لذلك نقف على ما هو غير مكرّر، يقول بدوي الذي اتسمت دراسته بالعمق: و «لهذا الميل القرآني إلى ناحية التصوير نراه يعبّر عن المعنى المعقول بألفاظ تدل على محسوسات مما أفرد له البيانيون علما خاصا به دعوه علم البيان، وحسبي الآن أن أبين ما يوحيه هذا النوع من الألفاظ في النفس ذلك أن تصوير الأمر المعنوي في صورة الشيء المحسوس يزيده تمكّنا من النفس،
(1) سورة البقرة، الآية:243.
(2)
قطب، سيد، في ظلال القرآن، مج/ 1: 2/ 265.
وتأثيرا فيها» «1» . كما ذكرنا سابقا.
ويستشهد لهذا بالآيتين: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ «2» ، وكذلك قوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ «3» ، وهو لا ينسى التأكيد على الكلمتين المستعارتين: ختم وسكت، ويبدو لنا أن الفعل في الآية الثانية أخصّ بالتشخيص، لوجود الصفة الآدمية.
ويستعرض دراز في كتابه «النبأ العظيم» بعض السمات الفنية والفكرية في سورة البقرة، وهو الذي يقول:«تقرأ القطعة من القرآن، فتجد في ألفاظها من الشّفوف والملامسة والإحكام .. كأنك لا تسمع كلاما ولغات، بل ترى صورا وحقائق ماثلة» «4» .
ويقف على حسية كلمة «ختم» في قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ «5» وكلمة «مرض» التي جسمت ذهنية مساوئ الدخيلة البشرية في قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ «6» .
وهو يوازن بين الكلمتين، ويوافق المفسرين في أن الآيتين كليهما في صفة المنافقين، ويقول عن «ختم»:«وهذه الظلمات الثابتة المستقرة التي ليس فيها بصيص من نور، وليس فيها تقلّب ولا تذبذب .. إن المثل الأول يصوّر حال المنافقين في بواطنهم، وهو الأمر الذي يشاركون فيه سائر الكفار، والمثل الثاني يصوّر حالهم في ظواهرهم، وهو الأمر الذي يتقلّب عندهم بتقلّب الداعي، لأن تقبّلهم إنما هو في الظاهر لا الباطن» «7» .
(1) بدوي، د. أحمد، من بلاغة القرآن، ص/ 65 وانظر كذلك شرف، حفني محمد، الإعجاز البياني، ص/ 343.
(2)
سورة البقرة، الآية:7.
(3)
سورة الأعراف، الآية:154.
(4)
دراز، د. محمد عبد الله، النبأ العظيم، ص/ 111.
(5)
من سورة البقرة، الآية:7.
(6)
سورة البقرة، الآية:10.
(7)
دراز، د. محمد عبد الله، النبأ العظيم، ص/ 164.
والحق أن الختم على القلوب يوحي بالقوة، وبثبات الفكر في أعماق المنافق، وأعراض المرض تفيد التقلّب، ومثل نظرة دراز تستأهل التقدير لدقّة النظر، وقد قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «1» ، فالقفل يفيد القوة والثبات.
قد كان ينتظر من المحدثين منهجية أدقّ في تفصيل جزئيات التصوير القرآني، فهو يتخذ مفهوما عاما عند قطب يشمل الصورة والتعبير بالحرف والنغمة، وأما سائر الدارسين، فقد زينوا كتبهم بنتف متناثرة هي أحوج إلى الترتيب والمعيارية.
وتنقصهم النظرة الشمولية ليس في استيفاء السور كلّها، بل في متابعة اللفظة الحسية المستعارة في كل البيان القرآني، مما قد يعطينا رأيا جديدا، وثباتا لفهم أسلوب القرآن، فمثلا إذا أردنا أن نتحدث عن تجسيم كلمة «ثقيلا» في قوله تعالى: وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا «2» فلا بدّ من استقصاء لوجود هذه الكلمة في حيز الاستعارة لتتبدّى لنا معالم جماليتها فنذكر قوله تعالى:
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا «3» . في مخاطبة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وقوله عن الساعة: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً «4» ، ومنه نجد أن الثقل خصّ بالدعوة الإسلامية لجلالها، وأهمية التكليف بالإيمان، وخصّ يوم القيامة بالثقل، وهو كائن زمني محدّد ومعنوي، فالثقل يبعث على تهويل أمره لما يجد فيه الكافرون من مشقّة، وكذلك الأمر في ثقل الساعة، وكأنها تهبط على القلوب، فتغلظ فيها، وكأنها مادة يعاني وطأتها الإنسان، ويتكسر قلبه.
والمحدثون لم يمنهجوا جمالية المفردة، لأن كتبهم غير مختصة بالبلاغة القرآنية غالبا، بله المفردة القرآنية، فأغلب كتبهم تحدثت عن علوم القرآن كلّها، وخصّصت الفصول القليلة للبلاغة القرآنية، وإذا جنحوا إلى تخصيص
(1) سورة محمد، الآية:24.
(2)
سورة الإنسان، الآية:27.
(3)
سورة المزّمّل، الآية:5.
(4)
سورة الأعراف، الآية:187.
فقرة للمفردة تحدّثوا عن جمالها الموسيقى، ولكنّ متابعة قدرتها التصويرية في التجسيم والتشخيص كانت ضئيلة.
كما يجب علينا ألا ننتظر سياق الاستعارة الواضحة صنيع القدامى، إذ أهملوا ما يكون في إحكام الصورة، من مثل قوله عز وجل: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ «1» فالصفة هنا تضيف شيئا آخر إلى حسية التذوق، والاهتمام بهذا أجدر من التأكد، إن كان العرب ذكروا مثل هذه الاستعارة أو تلك أو لم يذكروا، وكان من الممكن أن يقال «عذاب عظيم» كما يرد في غير مكان، ولكنه البيان القرآني الذي يفضّل حسية كل معنوي ليس مراعاة للعرب، بل موافقة للجنس البشري.
ومن الطبيعي أن يستقي الباحث جمالية التجسيم من فصول الاستعارة والتشبيه، وهذا واضح في كتب القدامى والمحدثين، وإن المحدثين لم يضيفوا الإضاءة على الكلمة المجسّمة في الآية، فهذا مستفاد من إقرار الباحث القديم بوجود استعارة أو تشبيه، فلا بدّ من وجود كلمة نقلت من مجال إلى مجال آخر، أو يشبّه معنويّ بحسّي أو ما «تقع عليه العين» كما أراد الرماني.
كما أن القدامى فهموا أن حسية التجسيم لا تطلب لذاتها، بل لما وراءها من إيحاءات نفسية، قال ابن الأثير:«وأما فائدة التشبيه من الكلام فهي أنك إذا مثّلت الشيء بالشيء، فإنما تقصد به إثبات الخيال في النفس بصورة المشبّه به أو بمعناه، وذلك أوكد في طرفي الترغيب فيه أو التنفير عنه» «2» .
ولم تقصر أفهام القدامى عن استيعاب هذه الدلائل النفسية، وإن عبارة «تشبيه المعقول بالمحسوس» لا تختلف عن مفهوم التجسيم إلا اختلافا اصطلاحيا لا يمسّ المضمون.
وإنهم اهتموا كما اهتم المحدثون بالكلمة المجسّمة، ذلك الإكسير الذي يقوم بعملية التحويل، ويكمن في صلب الجملة القرآنية، ونحن لم نستنطق تأملاتهم ما لم يكن فيها بدءا من الرماني، وينطبق هذا على جهود المحدثين.
(1) سورة فصّلت، الآية:50.
(2)
ابن الأثير، ضياء الدين، المثل السائر: 1/ 394.
إن التجسيم إذن لا يقتصر على الباصرة، بل يشمل البصيرة في نهاية الأمر، إذ أضفى القرآن عليه دقة فنية محكمة، فقد أضاف إلى جمال الاستعارة جمال انتقاء المفردة الحسية من بين ما يشبهها من الدّلالة لمراعاة المواقف وخصوصيتها، وآثرنا القول «إسهام المفردة» لوجود الكلمة في كليّة هي الصورة الفنية البصريّة.