الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد فإن دراسة جمال المفردة القرآنية تعدّ عناية فائقة بجزئيات النصوص القرآنية وتدبّرها وتأملها واستنباط المنهج الفني الذي يسري في نسقها، وجوانب الجمال الذي تتسم به.
وقد وجدت للدارسين- قدامى ومعاصرين- جهدا مبذولا في جمال المفردة القرآنية، وذلك في كتب الإعجاز والتفسير البياني، ولم يفرد الباحثون كتابا يجمع هذه النظرات الفنية ويناقشها، ويوضّح سمات هذا الجمال وعناصره، ولهذا أردت أن أجمع هذه النظرات من فصول كتبهم وتفسيرهم، وأبين ميزات هذا الجمال وأسسه، والمعيار الذي اعتمده الدارسون، وأوازن بين جهود القدامى وجهود المعاصرين، وقد وجدت أن المعاصرين يقتبسون غالبا من القديم، ولم يدرسوا نظرة الباحث القديم في جمال المفردة، كما أنهم خصّصوا الفصل أو الفقرة الصغيرة لجمال المفردة، وربّما يشمل الفصل الصغير كل جوانب جمالها في القرآن.
ولقد حاولت أن أستقصي جمالية المفردة القرآنية في كتب البلاغة القرآنية والتفسير البياني خاصة، في العصور القديمة والعصر الحاضر، وقد تمخّض عن هذا الاستقصاء وجود صعوبات كبيرة، وذلك لأن مادة البحث لا تقتصر على كتب التفسير- على ضخامتها-، بل تشمل كتب الإعجاز، وهذا ما تطلب البحث في جزئيات فصول البلاغة القرآنية، فلا يوجد عنوان محدد نلجأ إليه، ونقتبس مادة البحث منه، ولم ندرس المادة في فصول جمال المفردة، بل سعينا إلى توضيح شأن المفردة في الصورة والنغم، فأوضحنا إسهامها في جميع فنون البلاغة القرآنية، كالتشبيه والكناية والاستعارة والإيجاز وغير هذا.
كما أننا تلمّسنا هذا الجمال في كتب اختصت بالبلاغة العربية، وبحثنا فيها عن لمحات الدارسين لدى الاستشهاد بالقرآن الكريم، ويضاف إلى هذا شمول البحث لجهود الدارسين منذ العصور الإسلامية الأولى، وهذا ما جعلنا نرجع إلى معظم المصادر في الشاهد الواحد، لإجراء موازنة في كثير من الأحيان، ولتوضيح إضافات اللاحقين على السابقين، واختلاف منحى كلّ دارس عن غيره.
وتمثّلت الصعوبة كذلك في الرجوع إلى كتب ذات اختصاصات مختلفة، كان لها إشارات جيدة إلى بلاغة القرآن، وكتب الجاحظ خير مثال على هذا، وقد ألمّ العلماء المسلمون بفنون البلاغة على الرغم من اختلاف اختصاصاتهم، إذ كان القرآن الكريم الركيزة الثابتة في تكوين ثقافتهم، فلا يخلو واحدهم من الإلمام بفن القرآن الكريم، وإن كان دارسا للتوحيد، أو العلوم الطبيعية أو غير هذا.
وموضوع هذا البحث ليس تقليدا مطروقا، بل فيه تجديد وابتكار، لأنه يقدّم دراسة فنية لنظرات الباحثين، ويقيمها وفق مبادئ الفن، ويحدد المعايير التي اعتمدها الباحثون من خلال مفهوم الجمال الفني. وبما أنني اتبعت المنهج التاريخي في دراسة كل جانب من جمال المفردة القرآنية، فكان لا بد من رصد هذه الجمالية في أوائل كتب الإعجاز مثل رسالة «البيان في إعجاز القرآن» للخطّابي، ورسالة «النّكت في إعجاز القرآن» للرّمّاني، إضافة إلى نظرات الجاحظ في كتابيه:«البيان والتبيين» و «الحيوان» ، وكذلك اعتمدت على الباقلّاني صاحب «إعجاز القرآن» ، وابن سنان في «سرّ الفصاحة» ، وضياء الدين بن الأثير في «المثل السائر» ، وسرت وفق هذا السرد التاريخي، لأتبين معالم جمالية المفردة في «بديع القرآن» لابن أبي الاصبع، و «الطراز» ليحيى العلوي، ووقعت على تأملات رفيعة في كتب تتحدث عن علوم القرآن مثل «البرهان» للزركشي و «الإتقان» للسيوطي.
أما كتب التفسير، فقد اقتصرت على التفاسير التي عنيت بالجوانب البلاغية في القرآن، فكان «الكشاف» للزمخشري أهمّ مصدر لي، وكذلك تفسير النّسفي
«مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ، ثم تفسير العلّامة أبي السّعود المسمّى «إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم» .
أما المصادر الحديثة، فقد كان كتاب أحمد بدوي «من بلاغة القرآن» في مقدمة الكتب في معرفة نظرات المعاصرين، وكذلك سيّد قطب في تفسيره «في ظلال القرآن» ، وكتابيه:«التصوير الفني في القرآن» و «مشاهد القيامة» ، وهناك كوكبة من المعاصرين أفدت من كتبهم، مثل «إعجاز القرآن» للرافعي، خصوصا في مجال موسيقا القرآن، و «إعجاز القرآن» لعبد الكريم الخطيب، و «بيّنات المعجزة» لحسن ضياء الدين عتر، وكتاب «من روائع القرآن» لمحمد سعيد رمضان البوطي وغيرهم.
واستعنت لتقييم نظرات الدارسين ببعض المراجع في النقد الأدبي، وعلم الجمال، وبعض المباحث اللغوية، خصوصا في مجال فقه اللغة، وقدّمت لي هذه المراجع مادة وفيرة تواكب نظرة الدارسين، ولا سيما القدامى منهم، وسمو تذوقهم للبيان القرآني.
وإن هذا البحث يمثّل محاولة لرصد تأملات الدارسين في مفردات القرآن، وأرجو أن يكون هذا الرصد شاملا لتأملات كل الدارسين، وأن يكون عادلا، بحيث لا يجحف بكلّ من القدامى والمعاصرين.
وقد وقع البحث في أربعة فصول، مهّد لها بمدخل حول مفهوم الجميل ووسائل تذوقه عند المسلمين، وذلك لنثبت أنّ للمسلمين نظرات واقعيّة في الجميل، وما يقترن به من مفاهيم جمالية، فعرضنا لرأي كلّ من الجاحظ وأبي حيان التوحيدي والغزالي، فقد أكّد هؤلاء أن وسائل تذوق الجميل هي السمع والبصر، وأنهما منفذان إلى القلب، والحق أن القرآن الكريم كثيرا ما يربط بين القلب أو الفؤاد أو العقل والسمع والبصر كقوله عز وجل: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا «1» . وبيّنت في هذا التمهيد ارتباط الجميل الموضوعي بالنافع في منظور المسلمين.
تناول الفصل الأول مفهوم المفردة في الأدب، والجوانب الجمالية فيها،
(1) سورة الإسراء، الآية:36.
وعرضت لآراء بعض النقاد المعاصرين، لتكون هذه الآراء كشفا فنيا لوجهة نظر البحث والدارسين، وهنا لا تقدّم تعاريف جافة صارمة، بل يسعى البحث إلى توضيح وظيفة المفردة في النص الأدبي وفق لبوسها الجديد، وعرضت المسألة تجاوزها لحياد المعجم، وخصوصية دلالتها في القرآن، ثم عرضت لعلاقة المفردة بالنظم، وما يتوهم من تناقض بينهما، وأكدت أهمية الطرفين: المفردة والنظم في بنية الآية، وبيّنت الحجج التي ردّ بها على غلوّ الجرجاني إذ نبذ هذا الغلوّ بآراء جديدة تسعفها تطبيقات من القرآن، وكان لا بد أيضا من نفي الترادف في القرآن، لتأكيد تمكّن المفردة القرآنية من المقام عن غيرها، وقد بدأت الفقرة بتوضيح مصطلح الترادف، واقتبست بعضا من أقوال من يؤيد الترادف مثل ابن السّكّيت، وأقوال من يؤيد الفروق مثل أبي هلال العسكري وأبي منصور الثعالبي، وكانت هناك إضاءات للتنظير بالعودة إلى النص القرآني للبرهنة على دقة الفروق، وتوصلت إلى إمكانية وجود الترادف في اللغة، ونفيه من السياق القرآني.
وختم الفصل بفقرة حول الأثر الموسيقى للقرآن، فعرضت للآيات التي تدعو إلى تذوق موسيقا حروفه ونسقه، وشفع هذا بما ورد في السّنّة النبوية الشريفة، ثم بينت مظاهر تعلق الرعيل الأول بالنسق الموسيقى، ثم بيّنت مسألة تشبيه القرآن بالشعر ومعارضة القرآن، وخصوصية الفن القرآني.
وتناول الفصل الثاني إسهام المفردة القرآنية في الصورة البصرية، فقد أكدت أهميتها في الصورة، ودرست في الفقرة الأولى إسهام المفردة القرآنية في تجسيم المجردات والمعنويات عن طريق مصطلح الاستعارة أو التشبيه، وبدأت الفقرة بتعريف التجسيم لغة واصطلاحا، ثم عرضت لجهود القدامى والمعاصرين، وتبين لي أن
القدامى أدركوا هذه الجمالية، وأهمية المفردة على أنّها العامل الأساسي الذي يضفي على المعاني صفات محسوسة تتجلّى للبصر، وفي الفقرة الثانية عرضت لمفردات الطبيعة التي ساعدت على جمال التصوير، وبدئت الفقرة بتوضيح مفهوم الطبيعة في القرآن، والانسجام بينها وبين الإنسان، على أنها مخلوق مسخّر له، وانقسمت الطبيعة إلى جمادات كالشجر والحجر، وإلى طبيعة متحركة حيوانية كالجراد والعنكبوت، وبينت مدى تفهم
الدارسين لملاءمة هذه المفردات لإخراج الصورة الفنية، ومدى تذوقهم للإشعاع النفسي المتوخّى في هذه المفردات، وقد أضفت شواهد متممة لنظرة الدارسين. وفي الفقرة الثالثة بحثت في إسهام المفردة القرآنية في تشخيص المعاني والمجرّدات، وقد تقدم الفكرة تعريف التشخيص لغة واصطلاحا، ووجدت أن القدامى قدّموا جهدا وفيرا لاهتمامهم الكبير بانتقال المفردة من مجال إلى آخر، وقد عرضوا تأملاتهم الفنية مؤكدين أهمية الكلمة المشخّصة وفق مصطلح الاستعارة أو المجاز، وأدركوا أن إضفاء الصفات الآدمية على الجمادات والمعنويات وبثّ الحركة فيها يعطي تأثيرا كبيرا في المتلقي، ودرست في الفقرة الرابعة تصوير المفردات للحركة، وهي حركة سريعة قوية كالزلزلة، وحركة بطيئة، وكانت هذه المفردات تعبّر عن مضمون الموقف، وقد وجدت أن الزمخشري خاصة تملى هذه الجمالية بذوق فريد، وأردفت الفقرة بلمحة عن تجسيم الحركة بوساطة التشكيل الصوتي للمفردة، وهذا ما دعي بالأونوماتوبيا التي تحدثت عنها بالتفصيل في الفصل الثالث.
وتناول الفصل الثالث الجمال الموسيقى لمفردات القرآن، ودرست في الفقرة الأولى منه مسألة تلاؤم المخارج بدءا من الرماني، ثم عرضت نظرة ابن سنان وابن الأثير، ثم ذكرت رأي بعض المحدثين في هذا الشأن، وتوصلت إلى أن العبرة بطبيعة الصوت نفسه. ودرست في الفقرة الثانية جمالية المدود والحركات في المفردات، وحاولت أن أبين العلاقة الوشيجة بين شكل المفردة والموقف الشعوري، وفي الفقرة الثالثة درست طول المفردات وفق نظرة ابن سنان الذي قبّح طول المفردات، وفنّد هذا بمسلّمات الموسيقا اللغوية وطبيعة مفردات القرآن، وذكرت رأي ابن الأثير، ثم توضيح الرافعي، وانتهيت إلى أن جزئيات الكلمة في القرآن تنفي عيب الطول عنها، وفي الفقرة الرابعة بحثت مفهوم الرقة والمغالطة التي وقع فيها بعض الدارسين لتفسير الرّقة، وهنا استعين بطبيعة الأصوات اللغوية في فقه اللغة، وقورنت الرقة بالجزالة، ثم بينت أن الموضوع هو الذي يحدّد قوة الألفاظ وشدّتها أو رقتها، وربطت الصفة النّغمية للحرف بالموقف الشعوري، ودرست في الفقرة الخامسة مظاهر تجسيم الصوت للمعاني، أو ما يدعى «الأونوماتوبيا» ، وقدمت لهذه الفقرة تنظيرا لغويا
بمنزلة تأصيل عربي لهذه الفكرة خصوصا في «الخصائص» لابن جني، وتوصلت إلى أن القدامى ربطوا النظرة بمعيار لغوي واضح، وأن بعض المحدثين اعتمد التوهم والمبالغة، وقد جنحت في بعض الأمكنة إلى تفسير محاكاة الصوت للمعنى والصور بمعطيات فقه اللغة وعلم التجويد لمعرفة صفات الحروف.
وتناول الفصل الرابع الظلال النفسية التي توصّل إليها الدارسون في توضيح العلاقة بين المفردة والموضوع أو الفكرة، ودرست في الفقرة الأولى جهود الدارسين في دلائل صيغة المفردة، حيث ذكر البيان القرآني صيغا لمفردات تمتلك معاني لا تكون في صيغ أخرى، وهنا كانت للقدامى جولات رائعة لعلوّ فصاحتهم، وكثرة اهتماهم باللغويات، وهذا مهّد لهم لتبيين الجوانب الفنية في هذا المضمار، فقد أدركوا العلاقة بين التشكيل الداخلي ومعالم الموضوع، وفي الفقرة الثانية درست الجوانب التهذيبية السامية في اختيار مفردات القرآن، ودرست في القسم الأول من الفقرة التهذيب في اختيار مفردات تعبر عن المرأة وعلاقتها بالرجل، ثم درست في القسم الثاني التهذيب في الأمور العامة التي دل فيها القرآن على سمو خطابه، وهذا الإيماء الرفيع نجده في تأملات الدارسين تحت عنوان الكناية أو المجاز أو التلميح، وفي الفقرة الثالثة بينت وجه الإيجاز في المفردة، وأطلقت عليه اسم اختزان المفردة للمعاني الكثيرة، وبدأت الفقرة بإشارة الجاحظ، ثم وضحت الاختزان في صيغة المفردة، فالاختزان في جانب التهذيب، وختمت الفقرة بإضافة بعض الشواهد وتحليلها تأكيدا لنظرة الدارسين. وفي الفقرة الرابعة عرضت لجهود الدارسين في اختيار المفردة للموضوع، أي مناسبة المقام، وتضمنت الفقرة بعض الأفكار، مثل ملاءمة الغريب للموقف، والمنهج الذاتي والمنهج الموضوعي عند الدارسين، وفكرة مناسبة المقام من خلال الفروق اللغوية، وهنا يبرز جهد الخطيب الإسكافي الذي سار على نهجه الكثيرون، وكذلك قدّم لي الكشاف مادّة وفيرة، وختمت الفقرة بظلال الدلالة الخاصة لبعض المفردات القرآنية، إذ أضفى القرآن على بعض المفردات دلالة خاصة نتيجة صدورها عن الخالق عز وجل، وهذا مستفاد من إشارة للباقلاني. وفي الفقرة الخامسة بحثت في تمكن
الفاصلة، وهي الكلمة الأخيرة من الآية، وبدئت الفقرة بتعريفها لغة واصطلاحا، فتضمنت الفقرة فكرة ملاءمة الفاصلة لما قبلها من خلال مصطلحات القدامى، مثل الإيغال والتصدير والتوشيح، وفكرة استقلالها بمعنى جديد، وأهميته في الآية، وهنا يبرز جهد الخطيب الإسكافي، وابن أبي الاصبع خاصة، وانتهى البحث بخاتمة تلخص النتائج التي توصّل إليها.
لقد كان الترتيب التاريخي عونا لي في توضيح تطور التذوق الفني لدى الدارسين، وقد عمدت في بعض الأحيان إلى إجراء موازنة بين علمين في شاهد قرآني واحد، لأبيّن تفاوت النظرات والمؤثرات في هذا التفاوت، وكذلك حرصت على أن تكون النماذج المقتبسة وافية، وألا يكون البحث انتقاصا من كلّ من القدامى والمعاصرين في مسلكهم، وأرجو أن أكون موفقا في جمع شتات جمال المفردة القرآنية، وتحديد المعيار، وتبيين عناصر هذا الجمال في كتب الإعجاز والتفسير، كما أرجو أن يكون هذا البحث جهدا مقبولا في خدمة القرآن الكريم والله من وراء القصد.
أحمد ياسوف