الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوعي اللغوي النشيط أدبيا كان يجد في كل زمان ومكان «لغات» وليس لغة، كان يجد نفسه أمام ضرورة اختيار اللغة» «1» .
واختيار اللغة هاهنا يبدأ من اختيار المادة ثم الصّيغة، وهذا مبدأ كل من ابن سنان وابن الأثير «2» ، إذ يبدأ جمال اللغة في كتابيهما:«سرّ الفصاحة» و «المثل السائر» بباب طويل السّرد والشرح عن جمال المفردة، يليه باب جمال النظم، وباب جمال الحروف، وتبعهما رجال البلاغة في هذا الترتيب.
ولا مندوحة لنا من أن نضيف إلى كلام «بختين» أن المبدع يجتاز حياد المعجم، ويجتاز نشاطات الغير إن وقفوا على مادة نصه نفسها، أو خطرت على قلوبهم التجربة الشعورية نفسها، وهذا لا يعني أن تفقد المفردة حدّ المعقول، فيجنح الشاعر إلى موقف هزلي بين المادة والموضوع، فيصاب أدبه بداء الإغراب، لأنه لا يطالب ببديل عن الواقع، إنما يطالب بتلوينه بعيدا عن الخطل قدر المستطاع، بحيث لا يخفق في استدامة العلاقة بينه وبين المتلقي، مما يعود بالمفردة جثّة هامدة لا تمتّ بصلة إلى الوضع
الاجتماعي.
-
خصوصية المفردة القرآنية:
لقد أثبت البيان القرآني جدارته بصفة الربط بين المتلقّى والنص بوشائج متينة، وهذا الاستحقاق يكمن في ديمومة ربط المرء بالواقع: الواقع النفسي في القدرة على إثارته على مرّ العصور، فتنبش مكوّنات أساسية في السلوك
(1) بختين، الكلمة في الرواية، تر: يوسف حلاق، ص:54.
(2)
عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي، شاعر، أخذ الأدب عن أبي العلاء المعري وغيره، وكانت له ولاية بقلعة «عزاز» من أعمال حلب، وعصي بها، فاحتيل عليه ومات مسموما سنة 466 هـ، له ديوان شعر مطبوع وكتاب «سر الفصاحة». انظر الأعلام: 4/ 266.
- ضياء الدين نصر الله بن محمد الجزري، وزير من العلماء الكتاب، ولد في الموصل، وكان وزير الملك الأفضل بن صلاح الدين، مات ببغداد سنة 637 هـ له «المعاني المخترعة» في صناعة الإنشاء و «الوشي المرقوم في حل المنظوم» و «المثل السائر» و «الجامع الكبير في صناعة المنظوم والمنثور» و «ديوان رسائل» الأعلام: 3/ 110.
البشري، وهاهنا مخاطبة الخالق لما خلق، وكذلك الواقع المحسوس في تصوير جزئياته في الطبيعة الصامتة والمتحركة، والمشاهد المألوفة، وتقريب ما هو ليس بمألوف بإثارة الحواسّ والبصيرة، واستدامة صورته الفنية هي نتيجة ثبات الحواسّ وتأكيده على ربط الصورة بالحواسّ، وهكذا لم يرفض الواقع، بل نهض به ولوّنه.
ولغة القرآن الكريم عربية، ولا نحبّ أن نثبت له الصّفة الدينية فقط، أو الجهة العلوية، لنقرنه بالسّموّ، فهذا لا يدحض كلام جاحد، ولا يدفع هجوم منكر، والصحيح أن هذا الكتاب العظيم استخدام المفردات العربية أحيانا في غير مجالها المعهود، ففي مجال المضمون قلّص دلالات كثيرة، وبثّ فيها المعاني المغايرة بصبغتها الدينية، والشواهد كثيرة على هذا كالمصطلحات الدينية في العقيدة والتشريع «صلاة، نفاق، صراط .. » .
وإذا كان جمال مفرداته من مصدر إلهي، فهذا يعني بالضبط سموّ الفن القرآني في مضمار الفن الأدبي، وحجّته الأولى هي اللسان العربي الفصيح، وطبيعة الفن، وليس الدافع الديني، فنحن نلمس السرّ الإلهي في الكلام المبين من خلال الآثار الجليّة التي تدلّ على وجوب الاعتراف بالبيان لمن علّم البيان، يقول عبد الكريم الخطيب:«أفاض الله سبحانه عليها- الكلمات- هذا الفيض، ونفخ فيها من روحه، كما نفخ في عصا موسى، لكنه مع ذلك أبقى على تلك الكلمات طبيعتها التي يعرفها الناس منها، كما أبقى على عصا موسى طبيعتها كذلك» «1» .
وهذا السر الإلهي ليس خفيّا على متذوق للعربية وفنّ الكلام، وهذه الخاصية للمفردة القرآنية تسري في الآيات في تلاؤم تام، ولا يمكن أن نعدّها تفضّلا أو ترفا ذهنيا، كما هي الحال في كثير من الأدب، وهي- المفردة- سامية بنسبتها إلى منزلها في إطار من البيان الذي يعيه العرب خاصة، فعلى قدر ما تكون الجهة المبدعة قوية، تخرج الكلمات قوية مؤثرة، وقريب من هذا ما يقوله لا سل آبر كرمبي: «إن المهارة في الأدب لا تتناول سوى الألفاظ التي
(1) الخطيب، عبد الكريم، 1964 - إعجاز القرآن، ط/ 1، دار الفكر العربي بمصر، 2/ 295.