المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌شكر واهداء

- ‌التقريظ بقلم الأستاذ الدكتور نور الدين عتر

- ‌المقدمة

- ‌مدخل في مفهوم الجميل عند العلماء المسلمين

- ‌الفصل الأول الجوانب الجمالية في المفردة القرآنية

- ‌1 - جمال المفردة في الأدب

- ‌ تجاوز المرحلة المعجمية:

- ‌ خصوصية المفردة القرآنية:

- ‌ الشكل والمضمون:

- ‌2 - المفردة والنظم في كتب الإعجاز

- ‌ مناهج الاهتمام بالمفردة القرآنية:

- ‌ نظرية النظم:

- ‌ حجج الدفاع عن المفردة:

- ‌3 - الترادف والفروق

- ‌ معنى الترادف:

- ‌ تأكيد الترادف:

- ‌ تأكيد الفروق:

- ‌4 - الأثر الموسيقى لمفردات القرآن

- ‌ في القرآن والحديث:

- ‌ شهادة معاصري نزول الوحي:

- ‌هذيان مسيلمة

- ‌ معارضة الشعراء للقرآن:

- ‌ الإجمال في التذوق السمعي:

- ‌الفصل الثاني إسهام المفردة القرآنية في الجمال البصري

- ‌1 - إسهام المفردة في التجسيم

- ‌ التجسيم لغة:

- ‌ التجسيم اصطلاحا:

- ‌ مع جهود القدامى:

- ‌ مع المحدثين:

- ‌2 - مفردات الطبيعة والأحياء

- ‌ الطبيعة في القرآن:

- ‌ مفردات الجماد والنبات عند القدامى:

- ‌ نظرة المحدثين:

- ‌ مفردات الجماد والنبات عند المحدثين:

- ‌ مفردات الأحياء:

- ‌3 - إسهام المفردة في التشخيص

- ‌ التشخيص لغة:

- ‌ التشخيص اصطلاحا:

- ‌ تشخيص المفردة عند القدامى:

- ‌ تشخيص المفردة عند المحدثين:

- ‌4 - جمالية الحركة في المفردة

- ‌ الحركة: القوية السريعة

- ‌ الحركة البطيئة:

- ‌ تصوير الحركة بالصوت:

- ‌الفصل الثالث إسهام المفردة القرآنية في الجمال السمعي

- ‌1 - الانسجام بين المخارج

- ‌فكرة الانسجام:

- ‌نظرة ابن سنان:

- ‌نظرة ابن الأثير:

- ‌2 - المفردات الطويلة في القرآن

- ‌ نظرة ابن سنان:

- ‌ نظرة ابن الأثير:

- ‌3 - مفهوم خفة المفردات

- ‌الذوق الفطري عند ابن الأثير:

- ‌ إضافة الرافعي على ابن الأثير:

- ‌ الخفّة عند البارزي:

- ‌ ضآلة التوضيح عند المحدثين:

- ‌4 - الحركات والمدود

- ‌ جمالية الحركات:

- ‌ جمالية المدود:

- ‌5 - مظاهر الأونوماتوبيا

- ‌ تعريف الأونوماتوبيا

- ‌ جذورها في تراثنا:

- ‌ منهج المحدثين:

- ‌الفصل الرابع ظلال المفردة والمعنى

- ‌1 - دلائل صيغ مفردات القرآن

- ‌ إشارة ابن جني:

- ‌ مع الزمخشري

- ‌ ما بعد الزمخشري:

- ‌ جهود المحدثين:

- ‌ إنصاف القدامى:

- ‌2 - الدلائل التهذيبية في مفردات القرآن

- ‌ في أمور النساء:

- ‌ نظرة جديدة:

- ‌ جوانب تهذيبية عامة:

- ‌ تأملات الزمخشري:

- ‌ ابن أبي الإصبع:

- ‌ مع المحدثين:

- ‌3 - سمة الاختزان في مفردات القرآن

- ‌ إشارة الجاحظ:

- ‌ الإيجاز عند الرماني والباقلاني:

- ‌ الاختزان في الصيغة:

- ‌ الاختزان في التهذيب:

- ‌4 - مناسبة المقام

- ‌ معيار اللغة والذوق الفني:

- ‌ الذوق الذاتي عند ابن الأثير:

- ‌ المفردة وغرابة الموقف:

- ‌ الفروق عند الزركشي:

- ‌ ظلال الدلالة الخاصة:

- ‌5 - تمكن الفاصلة القرآنية

- ‌ تعريف الفاصلة:

- ‌ السجع والفاصلة القرآنية:

- ‌ مناسبة الفاصلة لما قبلها:

- ‌ انفراد الفاصلة بمعنى جديد:

- ‌ رأي الدّاني في الفاصلة:

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس ترجمة الأعلام

الفصل: ‌ مع جهود القدامى:

ولا نجده متداولا لدى الأسلاف، إنّما وقعوا على مفهومه، وإن اختلفت عنا تسمياتهم، فهو عندهم تشبيه المعقول بالمحسوس، وتكاد عناوينهم تماثل مصطلحاتنا النقدية التي استنارت بالعلوم الحديثة من فلسفة وعلم نفس ونقد حديث وعلم جمال، يقول صبحي الصالح عن الكتب القديمة:«توحي عناوينها بالكثير مما ينطق به مفهومنا الحديث للإعجاز، ولكن حين نمضي في قراءتها لا نستطيع أن نتملّى فيها جمال القرآن، وإنما نكوّن فكرة عن ولوع علمائنا بالتفريع والتبويب» «1» .

والتجسيم جزء من التصوير، لأن التجسيم يتضمن إسباغ المظهر الحسي على الشيء المعنوي، والتصوير يشمل تشبيه المعقول بالمحسوس، والمحسوس بالمحسوس، فهو مصطلح أعمّ، ويستخدم التصوير وسائل مختلفة، كالحروف والأفعال والحوار وغير هذا.

أما وسائل التجسيم الموجودة في البيان القرآني، فهي مفردات مستمدة من الطبيعة الجامدة، والطبيعة المتحركة، ونقتصر هنا على الطبيعة المجسّمة للمعاني المجردة، أو حسب ما يقول القدامى «تشبيه معقول بمحسوس» ، وسنفصّل القول في استخدام مفردات الطبيعة في فقرة تالية، وقد رأينا أن نستخدم مصطلح «التجسيم» دون «التشبيه» ، لأن تجسيم الأفكار يعتمد على تشبيه المعنوي بالحسي، وعلى استعارة كلمة حسية للمعاني المجردة.

-‌

‌ مع جهود القدامى:

إننا نقع على جهد وفير بذله القدامى في هذه الجمالية، وهذا الجهد يقدّم تحت عنوان التشبيه أو الاستعارة، وهذا لم يمنع أن يبدوا تأملاتهم في قدرة المفردة المستعارة على إبراز المعاني الذهنية في صور حسية مؤثّرة.

ولا بدّ من الوقوف عند الرمّاني لمعرفة منهج الدارسين حسب التسلسل التاريخي في استخدام المفردة المجسّمة، يقول في الآية الكريمة: أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ

(1) الصالح، د. صبحي، 1982 - مباحث في علوم القرآن، ط/ 14، دار العلم للملايين، بيروت، ص/ 321.

ص: 102

عاصِفٍ «1» : بيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسّة إلى ما تقع عليه» «2» .

وهذا لا يبتعد عن مفهومنا للتجسيم الذي يقدّم المعنى في صورة بصرية لغاية التأثير، وإن كان هنا لا يؤكد أهمية مفردة الرّماد، وقد قلّده اللاحقون فعدّدوا أنواع التشبيه، فقالوا: إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه، وإخراج ما لم تجر به عادة إلى ما جرت به، وإخراج ما لا يعرف بالبديهة إلى ما يعرف بها، وإخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوّة «3» .

ولا يهتم الباقلّاني بالمصطلح، بل يدلّ على جمال تصوير ما في النفس، فقد جاء في كتابه «4»:«ومما يصوّر لك الكلام الواقع في الصفة تصوير ما في النفس، وتشكيل ما في القلب، حتى تعلمه كأنك مشاهده، وإن كان يقع بالإشارة، ويحصل بالدّلالة والأمارة قوله تعالى: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً «5» ، وقوله تعالى: قالُوا: لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ «6» وتستوقفنا في كلامه عبارة «تصوير ما في النفس» ، وعبارة «كأنك مشاهده» ، وهذا خير دليل على سموّ تذوق القدامى وإدراكهم لجمالية التجسيم وفائدته في التأثير الوجداني، ويمكننا أن نقدمه على تعريف الرماني، فالباقلّاني يشير إلى عوامل هذه الصورة البصرية وفاعليتها، والتجسيم تصوير على أية حال.

وإذا عدنا إلى الآيتين اللتين استشهد بهما نجد أنه يقصد الإضاءة التي تنبع من كلمتي «أفرغ» و «منقلبون» ، وإن كان لم يصرّح بهذه الجزئية، فهذا شيء يفهم من الآية، وهو يدرك أن معاصريه لفصاحتهم يدركون مكان الشاهد،

(1) سورة إبراهيم، الآية:18.

(2)

الرمّاني، علي بن عيسى، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 76.

(3)

انظر مثلا، العسكري، أبو هلال، الحسن بن عبد الله، 1952، الصناعتين، تح د. محمد أبو الفضل إبراهيم، د. علي محمد البجاوي، ط/ 1 دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ص 240.

(4)

الباقلاني، محمد بن الطيّب، إعجاز القرآن، ص/ 244.

(5)

سورة الأعراف، الآية:126.

(6)

سورة الشعراء، الآية:50.

ص: 103

وأهمية المفردة المجسّمة.

ويمكن أن نقول إن جمال «أفرغ» يكمن في تشبيه النفوس بالأوعية الفارغة الظامئة إلى الصبر الذي يسكب برويّة ليس فيها قوّة الصّبّ، وكذلك تجسّم كلمة «منقلبون» في قوة حركتها سرعة الانقلاب، واتجاه السّحرة إلى الخالق اتجاها كاملا يعبّر عنه الانقلاب، وليس فيه ذبذبة.

وإذا كنا نجد الدارسين يتبعون الرماني، كما رأينا، فقد جنحوا إلى كثير من التعمّق الفني، وهذا التعمق يزداد فاعلية في القرنين الرابع والخامس خاصة، قبل أن نصل إلى فترة التقسيمات والتقعيد البلاغي.

ومن الشواهد التي يتفرّد بتذوقها أبو هلال العسكري قوله تعالى:

وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ «1» ، فهو يقول:«حقيقته لنعذّبنّهم، والاستعارة أبلغ، لأن حسّ الذائق أقوى لإدراك ما يذوقه، وللذوق فضل على غيره من الحواس، ألا ترى أن الإنسان إذا رأى شيئا لم يعرفه شمّه، فإن عرفه، وإلا فذاقه لما يعلم أن للذوق فضلا في تبيين الأشياء» «2» .

وهكذا يقترب أبو هلال من مفهوم التأثير الأكبر في قرب المباشرة، ولقد ورد فعل الذوق في القرآن ثلاثا وستين مرة. معظمها في مجال الوعيد، ولم يذكر إلا في نطاق الاستعارة، أي لم يستخدم على وجه الحقيقة إلا في قوله تعالى: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما «3» في الحديث عن آدم عليه الصلاة والسلام وزوجته، ولم يذكر الذوق في بسط جمال الجنة، والتلذّذ بمباهجها وشرابها وطعامها، مما يدلّ على أنه خصص للكافرين والعاصين والجبابرة، وهو يدل على مرتبة بهيمية، هي شأن أهل النار الذي يطعمون من العذاب لتملأ البطون.

والذوق حاسّة دنيا إلى جانب اللمس والشم من حواسّ الإنسان، أما الحواس العليا فهما السمع والبصر، إلا أن الكلمة تجسّم للبصر معاناتهم

(1) سورة السّجدة، الآية:21.

(2)

أبو هلال العسكري، كتاب الصناعتين، ص/ 275.

(3)

سورة الأعراف، الآية:22.

ص: 104

للعذاب، وحسّية التذوق تبعث على التهويل، فكان حقيقا بأن تقرن بعذاب الآخرة، وفيها أقصى المباشرة في التّلقي، وقد وردت أيضا في تذوق الرحمة، كما وردت في تذوق الوبال والبأس والعذاب إذ تبعث في الذهن صورة النار تأكل الأحشاء بعد أن تصل إلى اللسان.

وفي القرن الرابع يطالعنا الشريف الرّضي بكتابه «تلخيص البيان في مجازات القرآن» ، وإذا كان قد كرّر شواهد سابقيه، فهذا طبيعي إذا نظرنا إلى محتوى الكتاب كلّه، بيد أننا لا نعدم تذوقا فنيا لفن التجسيم، يقول تعالى:

وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ «1» . يقول الشريف الرضي: «وهذه استعارة، والمراد بها صفة لشمول الذّلّة، وإحاطة المسكنة بهم كالخباء المضروب على أهله» «2» .

ونحن نلمس جمالية التجسيم في مصطلح الاستعارة، ومما يحمد له في هذا المقام إلقاء الضوء على أهمية المفردة المستعارة من حيث الأثر النفسي المخزون فيها، فالذّلّة والمسكنة مشاعر، وتجسيمها بفعل الضرب يوحي بظهورها للعيان وكأنها خيمة تضرب عليهم، والكلمة توحي بالعنف المناسب، وكأن الذلة والمسكنة أداة يضرب بها هؤلاء اليهود ضربا.

وكذلك عند وقوفه على الآية الكريمة: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ «3» إذ يقول الشريف الرضي: «ألقى الرعب في قلوبهم من أثقل جهاته، وعلى أقطع بغتاته تشبيها بقذفه الحجر إذا صكّت الإنسان على غفلة منه» «4» .

فهو يقترب من إيحاء أثر المفاجأة في اختيار هذا الفعل الذي يجسّم الإحساس بالرعب، وهو- كما نرى- لا يغنى بتفصيلات عن نوع الاستعارة بقدر ما يلمح إلى ظلال القذف الذي يهزّ قلوب المشركين، وقد أدرك مدلول

(1) سورة البقرة، الآية:61.

(2)

الشريف الرضي، محمد بن حسين، 1955، تلخيص البيان في مجازات القرآن، تح: محمد عبد النبي حسن، ط/ 1، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ص/ 115.

(3)

سورة الأحزاب، الآية:26.

(4)

الشريف الرضي، تلخيص البيان في مجازات القرآن، ص/ 264.

ص: 105

السرعة والقوة في الفعل، ونظير هذا قوله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي «1» فالإلقاء هنا يدلّ على القوة، ليوحي بالثبات، وينفي الضّعف

الذي تصوره النبيّ الكريم.

ولا يبتعد الزمخشري عن مفهومنا للتجسيم، وهو يعدّه في بعض الأحيان ضربا من المجاز، ففي الآية الكريمة: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ «2» . يقول: «أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد، وما يمسّ الناس منها، فيقولون: ذاق فلان البؤس والضرّ، وأذاقه العذاب، وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس، وكأنه قيل: فأذاقه ما غشيهم من الجوع والخوف» «3» .

والحق أن استعانته بالمدلول اللغوي غير لائقة، وغير جديرة بالمقام، إذ إن القرآن هو الذي استعمل الذوق للعذاب والبؤس، وهذه الاستعارة جديدة لم يعرفها العرب، والفعل يدلّ على إشراك حاسّة الذوق التي تكون منفذا إلى الرّهبة في النفس، ويبقى للزمخشري أنه يقدم مفتاحا لغويا لفهم وتذوق هذه الصورة الحسية، وقد اهتم الزمخشري بالمذاقة، لأنه يرى فيها تجريدا للاستعارة يفوق الكسوة، لأن الذوق يشتمل على اللمس، واللمس لا يشتمل على الذوق.

وإذا كان يفسّر هنا العلاقة بين المعنوي والحسي بالمجاز، فإنه في مكان آخر يعدّها «مثلا» فقد جاء في تفسيره للآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ «4»: «على حرف: على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه، وهذا مثل لكونهم على قلق

(1) سورة طه، الآية:39.

(2)

سورة النّحل، الآية:112.

(3)

الزمخشري، محمود بن عمر، 1966، الكشاف، ط/ 1، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر: 2/ 498.

(4)

سورة الحج، الآية:11.

ص: 106

واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة» «1» .

فقد أدرك جمالية كلمة «حرف» وإسهامها في تجسيم الحالة الشعورية لمضطربة لدى المنافقين، ويعدّ هذه السمة في مكان آخر تمثيلا»، ففي الآية:

وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ «2» قال:«ذكر الوادي والهيوم فيه تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول واعتسافهم، وقلّة مبالاتهم بالغلوّ في المنطق، ومجاوزة حدّ القصد فيه» «3» ، والمثل والتمثيل شيء واحد كما يقرر البلاغيون.

وفي باب الاستعارة يضيف ابن الأثير ومضات جمالية إلى سابقيه بالرغم من إعادته كثيرا من شواهدهم، وكتابه يعنى بالشواهد القرآنية قبل الحديث الشريف، وقبل الشعر، ولا ينسى تفضيل ما جاء في القرآن على سائر الأقوال، وقد اعتاد المحدثون على اقتباس جمالية الموسيقا القرآنية من كتابه، بينما تعمّق هو في عموم وجوه الجمال الفني القرآني.

ولا بأس أن نقف على تعليقه إزاء قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ «4» إذ قال:«فاستعار الأودية للفنون والأغراض الشعرية التي يقصدونها، وإنما خصّ الأودية بالاستعارة، ولم يستعر الطرق والمسالك، أو ما جرى مجراهما، لأن معاني الشعر تستخرج بالفكرة والرّويّة، والفكرة والرّويّة فيهما خفاء وغموض، فكانت استعارة الأودية لها أشبه وأليق» «5» .

وهكذا استمد ابن الأثير من معرفته اللغوية فضل الوادي على الطريق أو المسلك، وهنا يقصد بالوادي الغرض الشعري، وهذه الكلمة تنمّ أيضا على العمق البشري، إذ تجسّم إيحاء الشعراء في قلوب المستمعين أو القارئين،

(1) الزمخشري، الكشاف: 3/ 115.

(2)

سورة الشعراء، الآيتان: 224 - 225.

(3)

الزمخشري، الكشاف: 3/ 271.

(4)

سورة الشّعراء، الآيتان: 224 - 225.

(5)

ابن الأثير، ضياء الدين، المثل السائر: 1/ 374، وانظر، العلوي، يحيى بن حمزة، 1914، الطّراز، دار الكتب الخديوية بمصر: 1/ 214.

ص: 107

فالشاعر يستميل قلب المتلقي من خلال تشكيل الكلمات، وكأن القلب واد يحاول الشاعر التوغّل فيه، ليحرّك ما فيه من مشاعر مكنونة، ولعل كلمة «الغاوون» تعضد رأينا.

وأحيانا يتداول الشاهد الذي ينصّ على إسهام المفردة في التجسيم، فتتشابه الأقوال، وتتلاقى الأذواق، ويبرز أحدها في التفرد بالإحساس الفني، وهذا التفرد يبدو أنه واحد من أسباب الاعتماد على شواهد السابقين، إذ يحاول الباحث الإضافة على سلفه، مع الاحتفاظ بفائدة بحثه وخبرته، فقوله تعالى:

فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «1» ما من كتاب إلّا صدّر به باب الاستعارة، وهم بين إشارة وإسهاب، وهذا ما يحبّذ هنا قول ابن أبي الإصبع المصري، وهو الذي أفاض في حسية هذه المفردة «اصدع» وفضلها في رسم معنى الدعوة الإسلامية ومشقّتها إذ قال: «المستعار منه الزجاجة، والمستعار الصدع، وهو الشق، والمستعار له عقوق المكلّفين، والمعنى صرّح بجميع ما أوحي إليك، وبين كل ما أمرت ببيانه، وإن شقّ ذلك على بعض القلوب فانصدعت، والمشابهة بينهما فيما يؤثره التصديع في القلوب، فيظهر أثر

ذلك على ظاهر الوجوه من التقبّض والانبساط، ويلوح عليها من علامات الإنكار والاستبشار، كما يظهر ذلك على الزّجاجة المصدوعة المطروقة في باطنها» «2» .

وهاهنا الصّدع يعني بقاء أثر الدعوة ظاهرا، ولا يكون هذا في التحطيم، فكأن كلمات الخالق عز وجل تشقّ القلوب، وهذا لا يقلّل من شأن ما ذكره ابن أبي الإصبع، فقد ربط بين التصوير الحسي، وبين أبعاده النفسية.

ولا يقتصر هذا على كتب الإعجاز البياني، ففي كتب البلاغة العربية نجد دقة في التعبير بحيث تفي الكلمات القليلة بالمعاني النفسية التي توحي بها الآيات القرآنية، وقد فهم دارسو البلاغة العربية أن التحليل الأدبي لا يعني الإطناب، فنحن نفهم جمالية هذا التجسيم من قول القزويني المتوفى سنة 739 هـ: «فإن المستعار منه صدع الزجاجة، وهو كسرها، وهو حسي،

(1) سورة الحجر، الآية:94.

(2)

ابن أبي الإصبع، 1957، عبد العظيم بن عبد الواحد، بديع القرآن، تح:

د. حفني محمد شرف، ط/ 1، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، ص/ 22.

ص: 108

والمستعار له تبليغ الرسالة والجامع لها التأثير، وهما عقليان، كأنه قيل أبن الأمر إبانة لا تنمحي كما لا يلتئم صدع الزجاجة» «1» .

ونظير هذا ما ذكره يحيى العلوي «2» بأسلوب بلاغي مدرسي يعتمد التقليد، ويتعثر فيه لخلطه في معيار المصطلح الذي يولع به، وذلك في تعليقه المسهب على قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ «3» ، وقد أسهب في تعليقه على الآية، وقال:«والظاهر من هذه الاستعارة هو التخييل، لأن الله تعالى لما ابتلاهم لكفرهم باتصال هاتين البليّتين، ولما استعار اللباس هنا للمبالغة في الاشتمال عليهم أخذ الوهم في «تصوير» ما للمستعار منه من التّغطية والستر والاسترسال رعاية لمزيد البيان في ذلك، وإن جعلته من باب التحقيق للاستعارة فتقريره هو أن ما يرى على الإنسان عند شدة الخوف والجوع من الضعف والهزال وامتقاع اللون، وعلوّ الصّفرة، ورثاثة الهيئة، وركّة الحال، وحصول القلق والفشل، يضاهي الملابس في اختلاف أحواكها وألوانها» «4» .

فالبلاغيون جعلوا الاستعارة تصريحية تحقيقية لتحقق معناها حسا أو عقلا، وجعلوا الاستعارة التخييلية إثبات الأمر المختص بالمشبه به على سبيل التخييل، كإثبات اليد للريح، وذلك في الاستعارة المكنية، والعلوي يخلط في نقاشه بين مذهبي الزمخشري والسكاكي اللذين جعلا الاستعارة تصريحية تحقيقية، ولكنهما اختلفا في معناها أهو عقلي أم حسي، فذهب الزمخشري إلى أنه عقلي يتصل بتشبيه الجوع باللباس بجامع الاشتمال، وذهب السكاكي إلى أنه حسي يتصل بما يعتري الإنسان في جوعه وخوفه من امتقاع اللون ورثاثة

(1) الخطيب القزويني، 1953، الإيضاح، دار محمد علي صبيح، القاهرة، ص 214.

(2)

هو يحيى بن حمزة الحسيني العلوي الطالبي، من أكابر الزّيدية وعلمائهم في اليمن ولد في صنعاء، وتوفي في حصن هران سنة 745 هـ من تصانيفه «الطراز» و «الانتصار في الفقه» و «الإفحام لأفئدة الباطنيّة الطّغام» و «الحاوي» في أصول الفقه، انظر: الأعلام: 9/ 174.

(3)

سورة النحل، الآية:112.

(4)

العلوي، يحيى بن حمزة، الطّراز: 1/ 235.

ص: 109

الهيئة «1» .

وهو يركّز على تجسيم الخوف والجوع باللباس، ولا يهتم بالمذاقة كما صنع الزمخشري قبله، ففي الآية كلمتان مضيئتان «أذاقها» و «لباس» ، ومما يصوّر بحسية عظمى، أن يتذوق المرء هذا اللباس الذي يجسم الخوف والجوع، والحاجة إلى اللباس قائمة ما دام الإنسان إنسانا، فالآية تريد عمق الإحساس بالخوف والجوع في أقوى مظاهر هما وإلى درجة التذوق.

وهو يعزو طاقة هذه الكلمة إلى «التخييل، وهذا طبيعي، لأنه من رجال القرن الثامن الهجري حيث عرفت المصطلحات وتفرّعت.

ويبدو أن القدامى تحرّجوا من استخدام مصطلح «التجسيم» لصلته بالفرقة المجسّمة لذات الله تعالى، فقد كانت العلة تقديس البيان القرآني وإبعاد ما يتصل بخطل الزنادقة من معان، ونظن أنه ذكر «التخييل» لعدم وجود علاقة فيزيائية في الواقع بين طرفي الصورة التي هي أقرب إلى إعمال الخيال.

لقد اكتفينا بهذه النماذج من الدارسين القدامى، فقد استطاعوا أن يقدموا جمالية إسهام المفردة من خلال حديثهم عن حسية الاستعارة والتشبيه، ولم تقف التقسيمات البلاغية حاجزا بينهم وبين التأمل الرفيع، وإن ظل ما قدّموه بحاجة إلى لمسات المحدثين الذين تغلغلوا في الأثر النفسي، وقصدوا المعاني الثانية المستوحاة من الحسية متأثرين بالثقافة العصرية. إذ كان همّ الدارس القديم توضيح المصطلح البلاغي وتبيين جزئياته وأطرافه وتقريب الصورة من العقل أحيانا، ثم جاء المحدثون، وبسطوا الحالة النفسية للمتلقي إزاء التصوير، وهذا لا يعني أن الجانب النفسي مهمل في دراسة البلاغي القديم، بل كان هذا الأثر هو المقصود في توضيح وجلاء المصطلح.

لذلك لا يمكن أن نبخس القدامى حقّهم، ونرى من المستبعد في هذا المجال قول أحد المعاصرين: «إن إهمال مادية التعبير في الموروث النقدي والبلاغي حال دون تطورات المعنى على حقيقتها، كما حال دون رؤية التميزات الدقيقة التي تصور حياة الاستعارة، وتوضح نشاطها البلاغي

لم

(1) انظر القزويني، 1953، الإيضاح، دار محمد علي صبيح، القاهرة، ص/ 226.

ص: 110