الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
تأكيد الترادف:
اصطلح فقهاء اللغة على أن الترادف يعني تعدّد الأسماء للمسمّى الواحد، بوقوع الألفاظ على المعنى الواحد، ونتيجة لهذا التطابق التام بين المترادفات يصحّ في نظر مؤيدي تبادل المترادفات فيما بينها في أيّ سياق.
وحجّتهم في هذا هي تعايش اللغات بعد ظهور وضعين اثنين للمعنى الواحد، وقد ذكر السيوطي في كتابه «المزهر» أن الترادف «إنما يكون من واضعين، وهو الأكثر بأن تضع إحدى القبيلتين أحد الاسمين، والأخرى الاسم الآخر للمسمّى الواحد، من غير أن تشعر إحداهما بالأخرى، ثم يشتهر الوضعان، ويخفى الواضعان» «1» .
ولا بأس أن نعرض لبعض من يؤيّد الترادف من الأعلام العرب، وننتقل بعدئذ إلى بعض مؤيدي الفروق الذين أنكروا الترادف، إذ لا تكفي هذه العجالة لرصد كل الأعلام، ولمعرفة بداية فكرة الترادف.
وقد كان ابن السّكّيت «2» وهو من لغويي القرن الثالث ممن أقرّ بوجود الترادف أي التطابق التام بين الدلالتين، بيد أنه لم يفرد بحثا لهذا الشأن، وقد نقل عنه السيوطي قوله:«العرب تقول: لأقيمنّ ميلك وجنفك ودرأك وصغاك وقذلك وضلعك، كلّه بمعنى واحد» «3» .
وقد أفرد ابن خالويه «4» وهو من أعلام القرن الرابع بحثين للكلمات
(1) السيوطي، جلال الدين، عبد الرحمن بن أبي بكر، 1325 هـ المزهر في علوم اللغة وأنواعها، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم ورفيقيه ط/ 1، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة: 1/ 402.
(2)
ابن السّكّيت هو يعقوب بن إسحاق، إمام في اللغة والأدب، أصله من خوزستان تعلم ببغداد، واتصل بالمتوكل، فعهد إليه بتأديب أولاده، ثم قتله لسبب مجهول سنة 244 هـ، من كتبه «إصلاح المنطق» و «الأضداد» و «القلب والإبدال» و «تهذيب الألفاظ» ، انظر الأعلام للزّركلي: 9/ 255.
(3)
السيوطي، جلال الدين، المزهر: 1/ 411.
(4)
ابن خالويه هو الحسين بن أحمد بن خالويه، لغوي من كبار النحاة أصله من همذان أقام عند بني حمدان، وعهد إليه سيف الدولة بتأديب أولاده، توفي سنة 370 هـ، من كتبه «إعراب ثلاثين سورة من القرآن» و «الشجر» و «الجمل» و «المقصور والممدود» انظر الأعلام: 2/ 248.
المترادفة، أحدها في أسماء الأسد، والآخر في أسماء الحية «1» ، ولم يصلنا واحد منهما، ثم تبعه الرماني ببحث يقع في خمسين صفحة من القطع الصغير، يتسم بالجانب التطبيقي مباشرة، فهو لا يقدّم لنا أسباب وجود الترادف، أو مجرد الشكّ في تعميم هذه الفكرة، مما يمثل تنظيرا لغويا، وربّما ذهب هذا التنظير مع الزمن وضياع النسخ.
والرماني يضع كلمة بمنزلة عنوان، ويكون شرحها مجموعة من المترادفات، فعن الفرح يقول:«السّرور والحبور والجذل والغبطة والبهج والارتياح والاغتباط والاستبشار» «2» .
فكلّ هذه المفردات بمعنى واحد، خصوصا أن بحثه الوجيز يحمل عنوان «الألفاظ المترادفة» ، وهو أوّل بحث يحمل هذا العنوان، وكذلك يقول عن الغنى:«السّعة والجدة والثروة والميسرة واليسار، والزيد والرشاش والجدا والاقراب والوفر» «3» .
وتعرّض أبو الفتح بن جني أيضا لهذه الظاهرة اللغوية في سفره النفيس «الخصائص» ، وتحت عنوان «باب تلاقي المعاني على اختلاف الأصول والمباني» نجد إقرارا
بوجود الترادف نتيجة الأصل الحسي للمترادفات، فالطبيعة والغريزة والنّقيبة والنحيزة والنّحيتة والضّريبة بمعنى واحد، لأنه استنتج أن المشقّة موجودة في كنف أصولها الحسية، فالطبيعة من: طبعت الشيء، كما يطبع الدّرهم والدّينار، والنحيتة من نحتّ الشيء أي ملّسته وأقررته على ما أردت منه، والغريزة لتغريز الشيء بالآلة التي تثبت الصورة، والنقيبة من نقبت الشيء وهو نحو من الغريزة، والضريبة كذلك لأن الطّبع لا بدّ له من الضّرب، لتثبت الصورة المرادة «4» .
(1) انظر السيوطي، جلال الدين، المزهر: 1/ 407.
(2)
الرمّاني، علي بن عيسى، 1321 هـ، الألفاظ المترادفة، تح: محمود الشنقيطي ط/ 1، مطبعة الموسوعات، القاهرة، ص/ 9.
(3)
الرمّاني، علي بن عيسى، الألفاظ المترادفة، ص/ 11.
(4)
انظر ابن جنّي، أبو الفتح عثمان، 1982، الخصائص، تح: د. محمد علي النجار، ط/ 1، دار الهدى، بيروت، 2/ 114.
وقد أفاض ابن جني في هذه النظرية أي ترادف كلمات المعاني المجردة، لتلاقي الأصول الحسية، وقدّم شواهد وافية، لسنا بصدد ذكرها، لكنه لم يذكر كلمة «الترادف» ، ولكن يبدو أنه يقرّ به، وإن خطرت ببالنا هذه الفروق الدقيقة في المرحلة الحسية بين الضّرب والنّحت والطّبع.
ويذكر السيوطي أن الفيروزآبادي «2» أيضا صاحب القاموس المحيط الشهير وضع بحثين في الكلمات المترادفة، ولم يصلنا واحد منهما، ويحمل الأول اسم «الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف» ، ومن الطبيعي أن نجد فيه أسماء الخمر والسيف والإبل، وغير هذا، مما يردّده فقهاء اللغة، وخصّص البحث الثاني لأسماء العسل، وسماه «ترقيق الأسل لتصفيق العسل» ذكر فيه ثمانين اسما للعسل، ثم استدرك عليه السيوطي اسمين آخرين، إلا أن السيوطي يقرّر أن هناك أسماء للذات كالسيف «3» ، وأسماء للصّفات كالمهنّد أو الخمر والصّهباء، وهذا ما تمسّك به من سلك مسلك الإنكار للترادف كما سنجد.
فمن أسماء العسل كما ذكر السيوطي: «الضّرب والضربة والضريب والورس والذوب واللومة والنّسيل والشّهد والمحران والطّرم والغرب والأسّ والصّبيب» «4» .
(1) ابن جنّي، أبو الفتح عثمان، الخصائص: 2/ 127.
(2)
الفيروزآبادي هو مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي الشافعي، من أئمة اللغة والأدب والتفسير والحديث، توفي سنة 817 هـ، من كتبه «القاموس المحيط» المعجم الشهير، و «سفر السعادة في الحديث والسيرة» و «تحبير الموشين فيما يقال بالسين والشين» ، انظر الأعلام: 8/ 17.
(3)
انظر السيوطي، جلال الدين، المزهر: 1/ 407، والمسلوف: المهيأ للزراعة من سلف يسلف والأسل: اسم نبات وكل ما يحدّ من سيف أو سكين أو سنان.
(4)
السيوطي، جلال الدين، المزهر: 1/ 410.
وكأنما يضيف السيوطي هنا سببا آخر لوجود الترادف، يضاف إلى سبب تعايش اللغات، وهو حرية التصرف بصوتيات الكلمة، مثل: التصرف في الضّرب والضّريب، ويتضح هذا بشكل جلي في مثاله الآتي:«يقال: أخذه بحذافيره وجذاميره وجزاميره وجراميزه» «1» .
والجدير بالذكر هنا أن الرماني الذي وضع بحثا في المترادفات هو نفسه صاحب الرسالة النفيسة «النّكت في إعجاز القرآن» التي ذكر فيها أن المعنى هو المقدّم في وجود الفاصلة القرآنية «2» ، كما أن السيوطي هو نفسه صاحب «معترك الأقران في إعجاز القرآن «ذلك السّفر الجليل الذي ذكر فيه الفرق بين الفعل والعمل، وبين الخشية والخوف في سياق القرآن كما سنجد في الفصل الرابع» «3» .
وهذا يدلّ على أنهما اعترافا بالترادف ظاهرة لغوية واقعية، ونفياها من القرآن، لأنّ السياق القرآني أفضل جانب تطبيقي يبين ظلال الفروق الدقيقة بين هذه المفردات المترادفة.
أما علماء اللغة المعاصرون، فيجمع أكثرهم على إنكار التطابق التام بين المترادفات، وهنالك قلّة منهم يؤيدون الترادف، ومن هؤلاء علي عبد الواحد وافي، فقد وجد أن اللغة العربية كثيرة المفردات والمترادفات، لعراقتها وكثرة احتفاظها بمفردات اللغة السامية الأم، يقول: «ومن أهم ما تمتاز به العربية أنها أوسع أخواتها الساميات ثروة في أصول الكلمات، فهي تشتمل على جميع الأصول التي تشتمل عليها أخواتها السامية .. وتزيد عليها بأصول كثيرة احتفظت بها من اللسان السامي الأول، ولا يوجد لها نظير في أية أخت من أخواتها، هذا إلى أنه قد تجمّع فيها من المفردات في مختلف أنواع الكلمة اسمها وفعلها وحرفها، ومن المترادفات في الأسماء والصفات والأفعال ما لم
(1) السيوطي، المزهر: 1/ 410.
(2)
انظر الرماني، علي بن عيسى، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 98.
(3)
انظر السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، بلا تا، معترك الأقران في إعجاز القرآن، تح: علي محمد البجاوي، دار الفكر العربي، القاهرة: 2/ 150.
يجتمع للغة سامية أخرى» «1» .
وهكذا تتسع الدائرة من مجال اللغات العربية كما عهدنا عن القدامى لتشمل اللغات السامية ولم يكن من داع لهذا الاتساع، إلا أن الباحث لم يتطرّق لمفردات القرآن.
ووضع صبحي الصالح كتابا بعنوان «مباحث في علوم القرآن» ، وتعرّض فيه للإعجاز البياني، وفي كتابه «دراسات في فقه اللغة» يؤكد فكرة الترادف في سياق الآيات القرآنية، وكأنما لم يتمكن له النظر إلى سياق القرآن الذي تفردت فيه كل كلمة بمعناها الخاص.
وهو يعزو سبب الترادف إلى اختلاف لهجات العرب أو لغاتهم على الأصحّ ثم تعايش هذه اللغات، مما يدعو إلى استعمال كلا المفردتين، والقرآن في رأيه يؤكّد هذا، فقد جاء في كتابه: «إن خفاء الواضعين حين لم يمنع اشتهار الوضعين قد زاد من ثروة اللغة المثالية حتما
…
وعلى هذا الأساس نقرّ بوجود الترادف في القرآن الكريم، لأنه نزل بلغة قريش المثالية، يجري على أساليبها وطرق تعبيرها، وقد أتاح لهذه اللغة طول احتكاكها باللهجات العربية الأخرى باقتباس مفردات تمتلك أحيانا نظائرها» «2» .
وسائر دارسي الإعجاز على خلاف منه، وقد قدم شواهد قرآنية تدعم رأيه، ومن هذه الشواهد استعمال القرآن للفعلين: أقسم وحلف، فهو يرى أنهما لغتان عربيتان مدلولهما واحد.
وندفع هذه المقولة بالرجوع إلى السياق الخاص للقرآن، يقول عز وجل:
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا، وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ «3» ، وقد ذكر الحلف مختصا بالكذب والمنافقين، أما القسم فقد خصّ بالصدق والمؤمنين، يقول تعالى:
(1) الوافي، د. علي عبد الواحد، 1956، فقه اللغة، ط/ 4، لجنة البيان العربي، القاهرة، ص/ 162.
(2)
الصالح، د. صبحي، 1962، دراسات في فقه اللغة، ط/ 2، المكتبة الأهلية، بيروت، ص/ 347.
(3)
سورة التّوبة، الآية:74.
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ «1» . فهناك فرق في الاستعمال.
وقد اهتمت عائشة عبد الرحمن بهذا الشأن، واتسم أسلوبها بالاستقراء الشامل للمفردات التي تتعرض لها، فهي بعد أن تذكر ما ورد في الشعر القديم مما يؤكد الترادف، وعدم التفريق بين هاتين الدّلالتين في الاستعمال تقول:
«العرب تقول: حلفة فاجر وأحلوفة فاجر، ولم يسمع حلفة برّ، وأحلوفة صادقة إلا أن تأتي في بيت شعر» «2» .
فالشعراء لم يكونوا يفرقون بينهما، ولا بأس أن نتخذ من تمحيصها ردّا على صبحي الصالح، إذ ترى أن فعل حلف يسند إلى المنافقين في القرآن، وأسند مرة واحدة إلى المؤمنين في قوله تعالى: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ «3» فوجبت عليهم الكفّارة لخطئهم.
وتبرّر ذكر القسم أيضا على لسان الكفار قائلة: «يسند القسم إلى الضالين حين يكون قسمهم عن اقتناع منهم بالصدق قبل أن ينكشف لهم أنهم على ضلال» «4» .
ويصبح القسم حسب تعبيرها هنا بمنزلة الحلف كما في قوله عز وجل:
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها، قُلْ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ، وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ «5» ، وهذه الآية هي شاهد صبحي الصالح، الذي لم ينتبه إلى خصوصية الاستعمال القرآني الذي لا تبديل لكلماته.
ونرى أن ذكر القسم هنا يدلّ على إصرارهم على المعجزات المادية، وعلوّ عنجهيّتهم وسخريتهم، والشّدّة في طلبهم، ويرافق هذا الإصرار كذبهم، فهم
(1) سورة المعارج، الآية:40.
(2)
عبد الرحمن، د. عائشة، 1971، الإعجاز البياني للقرآن، ط/ 1 دار المعارف بمصر، ص/ 206.
(3)
سورة المائدة، الآية:89.
(4)
عبد الرحمن، د. عائشة، الإعجاز البياني للقرآن، ص/ 206.
(5)
سورة الأنعام، الآية:109.
لن يؤمنوا، وإن جاءت المعجزات المادية، والله عليم بقلوبهم، ولهذا لم يحقّق لهم ما أرادوه.
ولا تدلّ ظاهرة الترادف في لغتنا على نقيصة، بل تدل على سعة الفكر العربي وابتكاره، وتمثل طبيعة الظروف المعيشة، حيث استقلال القبائل وتلاقيها، ولهذا نستنتج أن من أسباب الترادف أخذ الرواة للكلمات من قبائل مختلفة، وهنا تبرز أهمية اللهجات أو اللغات المتعايشة مما أدّى إلى تعدد الكلمات الدالّة على مدلول واحد.
وكذلك كان أصل كثير من الكلمات المرادفة صفات للاسم، ثم صارت مع الزمن اسما مثل السّيف والصارم، وبعض هذه المرادفات كان مجازا في الأصل مثل كلمة الوغى التي كانت تعني اختلاط أصوات المعركة، ثم صارت تعني المعركة ذاتها بعد أن كانت تعني جزءا منها.
وكذلك أدّت حرية التصرف بأصوات الكلمات إلى وجود مرادفات مثل كلمة كمح الدابة وكبحها، ورأيت هذا عن كثب وعن كثم، وفلح الأرض وفلعها، وهذه في الأصل من باب الإبدال، وإن أدخلها بعضهم في باب الترادف «1» .
ويرى عاطف مدكور أن أكثر علماء اللغة اليوم لا يأخذون بالتطابق التام بين المترادفات، ويقول في الموضع نفسه:«وفي رأينا أن الترادف موجود ولكن في حالات فردية نادرة يحدّدها السياق، ولكنه ظاهرة نادرة الحدوث، ولا تجود بها اللغة بسهولة، وأكثر ما نراه فيما يسمى «الكلمات المعتمة» التي لا شفافية فيها مثل «أمام وقدّام، خلف ووراء، شمال ويسار، تحت وأسفل» «2» .
وهي معتمة من جهة عدم وضوح الفرق بين الدّلالتين، ولا تقصد هنا عتمة معنى الكلمة ذاتها.
ولم يكن استخلاصنا للأصل الحسي لاصطلاح الترادف في أول هذه الفقرة
(1) انظر مدكور، د. عاطف، 1987، علم اللغة بين القديم والحديث، ط/ 1، جامعة حلب، ص/ 221 - 224.
(2)
المصدر السابق، ص/ 227.