الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد صوّر القرآن حالة المنافقين، فاختار لقلقهم وفزعهم «مشوا» في قوله عز وجل: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ «1» ، وهنا تختلف الحالة النفسية، ومع هذا فالمشي مناسب، لأن هؤلاء يطلبون الخلاص مما يفزعهم فيقعدهم البرق والرّعد، ويضع حدّا لسرعتهم، أما المشي في الآية السابقة فهو دليل اطمئنان وارتياح نتيجة عناد، وهنا المشي مشوب بالخوف من ثورة الطبيعة المسخّرة، حيث شدّة الظلام وكثافة المطر والبرق الذي يخطف الأبصار، وفي هذا يقول أبو السّعود:«خطوات يسيرة مع خوف أن يخطف أبصارهم، وإيثار المشي على ما فوقه من السّعي والغدوّ للإشعار بعدم استطاعتهم لهما» «2» .
ومن مفردات تصوير البطء والانسياب ما جاء في الآية الكريمة: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ «3» ، وقد تأمل البوطي جمال الحركة في «سارب» من خلال اللجوء إلى الأصل اللغوي، ف «سارب» تعبّر عن الوضوح والمسير الهادئ المناسب، وهو يقول: سارب بالنهار كلمة تصوّر لك الشيء إذ يسرب على وجه الأرض بارزا، فأنت تقول: سرب الماء، أي جرى في سجيّته على وجه الأرض بارزا متشعّبا يبرق ويلمع، والكلمة زيادة على ما فيها من جمال التعبير تصوّر لك شدة وضوح هذا الإنسان وظهوره مقابل شدة اختفاء ذلك الآخر واستتاره» «4» .
-
تصوير الحركة بالصوت:
من المحدثين من تلمّس جمالية البطء في التشكيلة الصوتية للمفردة نفسها، أي توالي الفتحات والضمات ومواقع الشّدّات، وطبيعة الأصوات، وهذا المنهج يميّز تفسير قطب، وقد تأكد سابقا في كتابه «التصوير الفني» كما نجده على قلّة من الشواهد في كتاب بدوي، ثم راح الآخرون يؤكّدون هذه
(1) سورة البقرة، الآية:20.
(2)
أبو السعود العمادي، محمد بن محمد، إرشاد العقل السليم: 1، 55.
(3)
سورة الرّعد، الآية:10.
(4)
البوطي، د. سعيد رمضان، 1970، من روائع القرآن، ط/ 2 دار الفارابي، دمشق، ص، 232.
الظاهرة الفنية التي تسمى «الأونوماتوبيا» معتمدين شواهدهما، ومقتفين أثرهما.
والأونوماتوبيا فن يستلهم المعنى من أصوات الكلمات، وسوف نذكر تطبيقات المحدثين الذين أولعوا بها، معتمدين الخيال والرأي الذاتي على الأغلب، ومن هذا ما جاء في تأمل الآية: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ «1» ، يرى قطب أن الصورة الصوتية رسمت الحركة المعنية،:«وإنك لمدرك أنّ صورة التبطئة أدّتها الكلمة «ليبطّئنّ» بجرسها إضافة إلى ما أدّته النونات في الكلمتين السابقتين من تأكيد لهذا الجرس الخاص» «2» .
ولم تربط هذه الظاهرة الفنية بمعطيات علم اللغة، فبقيت غالبا في مظانّ الوهم، ويبدو هنا أن حركة الفتح تقابل السير الطبيعيّ المعتاد، ثم يمثّل الخمول والتراجع بالوقوف على الشّدّة، وما يتبعها من كسر الطّاء.
من هذا القبيل كلمة «يترقّب» من قوله تعالى: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ «3» ، فإذا قرأنا تعليقهم لمسنا فيه شطحة خيال، وشيئا من التعتيم، لأن هذه النظرة لا تقوم على منهج علمي، إنما تظل غامضة وعالقة بذوق مبهم، أو انبهار كبير، يقول سيّد قطب:«هناك مفردات قرآنية من نوع آخر، يرسم صورة الموضوع لا بجرسه الموسيقى، بلّ بظلّه الذي يلقيه في الخيال، فمفردة «يترقّب» ترسم هيئة الحذر المتلفّت في المدينة التي يشيع فيها الأمن والاطمئنان في العادة» «4» .
ولا تحدّد هذه النظرة الفردية كيفية الرّسم، إنه توقّع إشعاعي خاص، ولكي يبتعد الدارس عن هذا المنهج يعود إلى جزئيات المفردة.
ويمكننا أن نقول: إن موسى عليه الصلاة والسلام يمشي بتمهّل، إلا أن
(1) سورة النّساء، الآية:72.
(2)
قطب، سيّد، التصوير الفني، ص/ 78، وانظر الشيخ أمين، التعبير الفني، ص/ 180.
(3)
سورة القصص، الآية:18.
(4)
قطب، سيد، التصوير الفني، ص/ 81، وانظر الشيخ أمين، التعبير الفني، ص/ 180.
هناك تلفّتا منه بين الفينة والفينة خوف العدوّ، فيتقاسم حركته المشي والوقوف الحذر في خفية وحذر، ولعلّ هذا يستمدّ كما رأينا سابقا- من توالي الفتحات الذي يتبعه وقوف الشّدّة، ثم تجيء حركة الضّم على الباء.
وعلى هذا المنوال نستطيع أن نفسّر علاقة الصوت بالصورة في كلمة «يتمطّى» كلمة من قوله تعالى: ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى «1» ، لأن الشّفاه ترتاح في حركة الفتح، ونستطيع أن نتلمس تطاول الأعضاء بعد شدّ العضلات من الوقوف في الشّدّة الذي تتبعه الألف المقصورة ذات المدّ الطويل، وهذا المدّ يمثل انفراج الأعضاء، وتعالي الرجل في مباهاة وخيلاء، وتلك مشية ذميمة اسمها المطيطاء، وفي لسان العرب لابن منظور:«المطيطاء والمطيطى بالمدّ والقصر التّبختر ومدّ اليدين في المشي» «2» .
ومن النظرات الموفّقة التي استطاعت أن تقدّم شيئا من التفسير ما جاء لدى قطب في قوله تعالى عن المؤمنين الذين لم يذهبوا إلى الجهاد: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ «3» ، يقول قطب:«لو أنّك حذفت الشدة من الكلمة، فقلت: تثاقلتم، لخفّ الجرس، وضاع الأثر المنشود، ولتوارت الصورة المطلوبة التي رسمها اللفظ واستقلّ برسمها» «4» .
وذلك لأنه قد لفت نظرنا إلى التشكيلة الصوتية، ولهذا نقول: إن حرف الثاء لثويّ، ووجود الشّدّة عليه يجعل اللسان عالقا بأطراف الأسنان بشكل قويّ، وهذا يمثّل حبّهم للقعود، وعدم التحرك، ولا شك في أن فرضية تبديل المفردة ب «تثاقلتم» توحي بهذه العملية في جهاز النطق، لكن هذا من حيث النّغم فحسب، إذ تدلّ صيغة «اثاقلتم» على المبالغة في حين تدلّ «تثاقل» على التكلف.
لم تخل نظرات قطب أحيانا من جنوح إلى التوهّم، وتحميل المفردة طاقة من ذاته، فهو يعدّ مفردة ما مجسمة للحركة بجرسها، والقارئ لا يرى
(1) سورة القيامة، الآية:33.
(2)
ابن منظور محمد، لسان العرب، مادة (م. ط. ط): 7/ 404.
(3)
سورة التّوبة، الآية:38.
(4)
قطب، سيد، التصوير الفني، ص/ 87.
الحركة إلا في مضمون المفردة التوصيلي، وهذا من مظاهر المغالاة في أمر «الأونوماتوبيا» إذ يقول جلّ وعلا عن آدم وحواء فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها، فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ «1» ، فهو يرى أن لفظة «أزلهما» تصور الحركة على أنها تعني الحركة فقط، ولا حاجة لاستنباط ما لا يوجد فقد جاء في تفسيره:
وهذا يختلف عن إثارة الخيال لتصوّر الحركة المعينة، وهي كثيرة في التفسير المعاصر وعند قطب خاصة، فقد استشفّت عائشة عبد الرحمن قوة الحركة في فعل «أخرجت» من قوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها «3» ، إذ تقول في تفسيرها:«يلفتنا في إخراج الأثقال هنا ما توحي به من اندفاع للتخلص من الثقل الباهظ، فالمثقل يتلهّف على التخفّف من حمله، ويندفع فيلقيه حين يتاح له ذلك، والأرض إذ تخرج أثقالها تفعل ذلك كالمدفوعة برغبة التخفّف من هذا الذي يثقلها عند ما حان الأوان» «4» .
ونجد أنها لم تؤكد تأكيد قطب الذي كثر الوهم عنده، لكونه فسّر القرآن كلّه، فمواقع الخطل متعددة، وإضافة إلى الكم يعدّ أكثر الدارسين تعتيما نتيجة استسلامه أو حماسته لمنهج الدراسة الذي حدّده.
ولم تكن هذه الفكرة غائبة تماما عن أذهان القدامى، ففي وقفاتهم- على قلّتها- ما يعدّ تمهيدا للمحدثين إضافة إلى وجودها في النقد الغربي المعاصر، وباستطاعتنا أن نؤكد استمداد المحدثين لها من طبيعة اللغة العربية، واعتمادهم ما ذكره فقهاء اللغة، وبعض دارسي الإعجاز البياني، ودارسي الأوزان الصرفية ودلالاتها.
ينقل برتيليمي عن كلوديل ما يعدّ لفتة إلى وجود هذه الظاهرة في النقد الحديث: «إن الكلمة تعيد أداء الحركة التي هي دافع كل كائن، بل هي الكائن
(1) سورة البقرة، الآية:36.
(2)
قطب، سيّد، في ظلال القرآن، مج/ 1: 1/ 58.
(3)
سورة الزّلزلة، الآية:2.
(4)
عبد الرحمن، وعائشة، التفسير البياني: 1/ 89.
نفسه، وقد صوّره من ناحيته الصوتية الفمويّة، هي الشيء بعد أن أصبح نغما» «1» .
إذن ففي إمكاننا أن نشمّ رائحة المعنى ومعالم الصورة من الصوت، وبهذا تبعد الكلمة عن كونها إشارة اعتباطية فقط.
ويطيب لنا أن نورد كلام الزمخشري ما دمنا في صدد جمال الحركة في الصوت، وذلك في الآية: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ، وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ «2» فقد أشار إلى تجسيم
الحركة المتكررة تبعا لتكرر الحروف، وهو يقرر هنا ما جاء به فقهاء اللغة، إذ يقول:«الزّحزحة التّنحية والإبعاد تكرير الزحّ، وهو الجذب بعجلة» «3» .
ولكنه لا يذكر شيئا إزاء الآية: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ «4» ، فالأمر لا يطّرد في كل مفردة تكررت حروفها، وفي الآية: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ «5» ، يقول متملّيا المفردة بذوق رفيع، ويكاد يفوق المحدثين، لكونه يذكر سبب تكرير الحركة:«الكبكبة تكرير الكب، وجعل التكرير في الفظ دليلا على التكرير في المعنى، كأنه: إذا ألقي في جهنم ينكبّ مرة بعد مرة حتى يستقرّ في قعرها» «6» .
ونضيف أن انضمام الشفتين ثلاث مرات في هذه المفردة، مرة على الكاف لوجود الضم، ومرتين على الباء، لأنه حرف شفويّ شديد، وهذا الانضمام يصور حركة تكوير الكافر، وهو يتدحرج حتى يصل إلى القعر، ويتجمع جسده كالكرة، وكما تتجمع الشفاه في لفظ هذه المفردة.
والجدير بالذكر أن اقتصار القدامى على تجسيم تكرير الحركة جعل المادة المدروسة ضئيلة، فلا نقع في كتبهم إلا على النّزر القليل، وهو يتركز على
(1) برتيليمي، جان، بحث في علم الجمال، تر: أنور عبد العزيز، ص/ 288.
(2)
سورة آل عمران، الآية:185.
(3)
الزمخشري، الكشّاف: 1/ 485.
(4)
سورة يوسف، الآية: 51، حصحص: توضّح.
(5)
سورة الشعراء، الآية:94.
(6)
الزمخشري، الكشاف: 3/ 119.
الحروف، وليس على الحركات.
أما المحدثون فقد تكلّموا على الرسم بالحرف والحركة ورسم الحركة البطيئة والقوية والمتكررة.
يصل قطب إلى شواهد القدامى التي علّلوها، ويقنع بالظلال النفسية، وينفي علة الأصوات، فهو يقول عن «زحزح»: «إنّما هو القرآن يدع الألفاظ تلقي ظلالا معينة، فيرسم في الضمير مشهد مخيف، جهد الزحزحة، وهي الحركة البطيئة العنيفة
…
و «زحزح» نفسها ترسم صورة لمعناها» «1» .
فقد تخلى عن المعيارية التي قدّمها فقهاء اللغة مشيرين إلى وجود كلمات تحاكي الطبيعة بأصواتها، وقد انتقل إلى تصوير نفسية المتزحزح، ومشقّة البعد عن النار، وقوله «صورة لمعناها» يطّرد في كتبه، وهو ما يرتضي به في تفسير علاقة الصوت بالمعنى أو الحركة.
ولعل عنف الحركة يمثّل في نطق الحاء في الحلق، فالحاء الساكنة فيما يبدو تخرج من الحلق باحتكاك بجدرانه، وهذا يمثّل حركة الزحزحة العنيفة اللصيقة بالأرض.
ولا نعدم قلّة من الدارسين تذكر مقياس القدامى، وهذا يفيد في عدم الشّطط، ففقهاء اللغة أقرّوا أن ما كان على وزن (فعلان) - كما سنجد في مكان لا حق- يدلّ على الاضطراب والنشاط، مثل: الرّجحان والخفقان والغليان والفوران، وضياء الدين عتر يذكر قوله عز وجل: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ «2» ، ويدلي برأيه الذي يؤكد بثّ الحركة المقصودة في مفردات القرآن، وهذا مما يمكّن الفاصلة، وهي أبعد ما تكون عن اللجوء إلى الألف والنون، ويقول: «الحيوان في اللغة مصدر حيّ، وقد سمّي به كلّ ذي حياة، وهو أبلغ من الحياة، لأنّ في صيغة فعلان معنى الحركة والنشاط الملازم
(1) قطب، سيّد، 1956، مشاهد القيامة، ط/ 2، دار المعارف بمصر، ص/ 205، وانظر تفسيره في ظلال القرآن، مج/ 1: 4/ 539.
(2)
سورة العنكبوت، الآية:64.
للحياة» «1» .
فالمعنى الأول تقرير الخلود والاستمرارية ويكون في لفظة حياة، أما المعنى الثاني الذي تدلّ صيغته على معنى النشاط، وطرد الملل عن الذهن، فلا يكون إلا في «الحيوان» التي تنفي الجمود والفناء معا، وقد استفاد من إشارة الكشّاف، والشاهد لا يدلّ على تقرير فن «الأونوماتوبيا» بشكل خاص، بل فيه مثال لتبنّي القديم الواضح في تفسير جمالي معقول.
وقد اقتصرنا هنا على تجسيم الصوت للحركة، أما تجسيم الصوت للمعاني المجردة والصورة البصرية، فقد خصّص له مكان آخر سوف نبحث فيه أصالة هذه الفكرة، ونقدم نماذج كافية إن شاء الله.
لا ريب في أن القرآن الكريم اعتمد فن التصوير لتوصيل معانيه الجليلة، وينقل التصوير الكلام في القرآن من طابع السّرد إلى مشاهدات محسوسة، والقرآن يصور بالحوار كما في القصص، وبالمفردات وبأسس النّظم.
كما أن الميل القوي إلى المحسوس واحد من أهم عناصر التصوير القرآني، وقد قصدنا في هذا الفصل الصورة التي تختصّ بإبراز المجرّدات إلى محسوسات، وبيّنّا أن وسائل الصورة البصرية هي: التجسيم والتشخيص ومشاهدات الطبيعة واستخدام مفردات تدل على الحركة المناسبة.
ويجب أن نؤكد أن الصورة البصرية في القرآن تتمتع بثنائية التوضيح والتأثير معا، فلا يكون المشبّه به أو المستعار توضيحا زائدا، بل هما من صلب المعنى نفسه، وبهما
يتمّ هذا المعنى، وما أبعد القرآن عن توضيح شيء ثم تصويره.
وقد حاول القدامى أن يبرزوا أهمية المفردة المستعارة أو المشبّه به، فدلّوا على إقناع العقل، إذ حرصوا على ربط المستعار بالمستعار له، وتبيين وجه الشبه، وليتقربوا من أفهام القرّاء، ولا يعني هذا جفافهم وسكوتهم عن الأثر النفسي للصورة، وإن وجدنا إجمالا في بعض الأحيان، فهم احترزوا من
(1) عتر، د. حسن ضياء الدين، بيّنات المعجزة الخالدة، ص/ 254، وانظر الزمخشري، الكشّاف: 2/ 183.
الشّطط والإسقاط النفسي الخاص لكيلا يخالفوا مقاصد الآيات.
وبعد التّطوف بجهود الدارسين توصلنا إلى الأمور الآتية:
1 -
لفت معظم القدامى نظرنا إلى أهمية المفردة المجسّمة أو المشخّصة أو ما ينتزع من الطبيعة، وأبدوا إضاءتها للنص الكلي، وذلك من خلال بسط معنى المصطلح، وما استلهموه من خصوصية المفردة المصوّرة.
2 -
أدرك القدامى أن حسّية المعنى المصوّر تمثّل مرحلة أولى من التأثير، ومن ثمّ يتملّى المرء الأثر الوجداني، فحسّية تذوّق العذاب لا تقصد لذاتها، وكذلك حسّية الحالات الشعورية، فقد دلّت تطبيقاتهم على هذا، كما أثبتنا رأي ابن الأثير الذي يعدّ تنظيرا لما أكّده المحدثون، وهو يشبه رأي جويو الذي يقول:«حين يكون إحساس من الإحساسات اللذيذة القوية غير متّصف بالجمال، فمردّ ذلك إلى أن «الشّدة» المحلّيّة لهذا الإحساس تحول بطبيعتها دون «سعته» أعني انتشاره في الجملة العصبية، فينتج عن ذلك أن يستنفذ في منطقة معيّنة، ويتوقف في النقاط الأخرى، فتظلّ اللذة حسية محضة» «1» .
فاللذة الحسية الخالصة ليست من معالم الجمال، وذلك مثل كثير من اللذائذ التي يحصل عليها المرء، وقد شهدت لنا الصفحات السابقة أن القرآن يخاطب الشعور بالصّور الحسية، وأن هذه الحسية واضحة جليّة وعميقة الفاعلية، خصوصا أن في القرآن فنا قوليا يترفّع عن الغاية الحسية الخالصة، وأنه كأي فن رفيع يتعامل مع الحواس العليا المؤدّية إلى المشاعر.
3 -
أدرك القدامى أن المفردة الحسية تصوّر الحالة الشعورية فتجسّمها، وتصور كذلك الحركة المشاهدة التي تتمخّض عن الحالة الشعورية، ولم يقف المصطلح القديم كالاستعارة والتمثيل والتخييل حاجزا يمنع من تبيين المدلول الفني فالنفسي، وقد أضاف بعض المعاصرين الكثير من المفردات المصوّرة للحركة، نذكر منهم سيد قطب.
4 -
استخدام القرآن الجماد، والنبات في الصورة الفنية، وهنا حاول القدامى
(1) جويو، جان ماري، مسائل فلسفة الفن المعاصرة، تر: سامي الدروبي، ص/ 68.
إبراز الأثر الوجداني للجماد والنبات، بعد توضيح جوانبهما ومغزى استخدامهما في الصورة.
ثم جاء المحدثون فوضحوا سمة الاستمرار في الطبيعة المنتقاة للصورة، وأضافوا إثارة التخيّل لدى التحليل الفني.
5 -
استخدام القرآن النبات فاقد الحياة لدى تصوير الكفار والمنافقين ليدلّ على جمودهم، واستعان بالجانب القبيح من الأحياء في تصويرهم، ليدلّ على انحطاطهم وبعدهم عن الطّبع البشري.
6 -
كانت غايتنا في تشخيص المفردات للجمادات إبراز تحلّيها بالصفات الآدمية، ولم نبحث في كيفية إدراك الجمادات، فنحن تلمّسنا جمال تغيّظ النار الدالّ على تشبيهها بالإنسان، ولم نقصد تبيين كيفية إسباغ الخالق عليها الإدراك، فمثل هذه المخلوقات: السّماء، النار، الرّعد .. عالم مستقلّ بكيفية شعوره وطواعيته للخالق، لذلك اقتصرنا على الجانب الفني.
وكانت المادة المدروسة عند القدامى أكبر منها عند المحدثين، لكثرة اهتمام القدامى بالمجاز والاستعارة اللذين لم يبعداهم عن التملّي الجمالي.
7 -
لقد فهم القدامى الأثر القوي للمفردات التي تصوّر الحركة القوية كالزلزلة والانقلاب، وكانت نظراتهم في الحركة البطيئة قليلة، وهذا ما أسهب فيه المحدثون، وأضافوا تصوير هذه الحركة بالتشكيل الصوتي.
وقد أضفنا بعض الشواهد القرآنية في هذا الفصل، لنؤكّد منهج الدارسين ونوضّحه.