الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونورد هنا ما قاله حفني محمد شرف الذي سار على نهج القدامى، فقد جاء في كتابه:«ومن دقّة اختيار ألفاظ القرآن، والتمييز بين معانيها ما نجده في التفرقة في الاستعمال بين لفظ «يعلمون» و «يشعرون» ، وقد كثر دورانهما في القرآن، فنجد أنه في الأمور التي يرجع إلى العقل وحده في الفصل فيها يستعمل كلمة «يعلمون» ، لأنها صاحبة الحق في التعبير عنها، وأما الأمور التي يكون للحواس مدخل في شأنها فيستعمل كلمة «يشعرون» «1» .
وإذا تلمسنا ورود كلمة «يشعرون» مثلا نجد أنها أعلق بحاستي السمع والبصر، كقوله عز وجل: فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ «2» ، ولا شكّ أن التتبّع الدقيق والتفسير القويم يوصلانا إلى نتيجة تطابق ما ذكره شرف.
وهذه النظرة تتكئ على ما ذكره القدامى، بيد أنّ الباحث ينظر إلى القرآن كلّه، وقد ظلّ الزمخشري مثلا يقتصر على الآية التي يفسرها، ولا يصل بنا إلى النظام القرآني الكلي، إلا أنه لا جديد إزاء ما بذل القدامى من جهد في هذا الشّأن.
-
انفراد الفاصلة بمعنى جديد:
ثمّة فواصل تحسبها النظرة السطحية زائدة عن المعنى، وأنّها أضيفت لأجل النّسق الموسيقى، وقد لفت بعض المحدثين الأنظار إلى مثل هذه الفواصل، وما تضيئه في النص، وحجم فاعليتها في التأثير، ولم تكن هذه السّمة بعيدة عن تذوّق القدامى، فقد سمّاها ابن أبي الإصبع إيغالا، ومن شواهده قوله تعالى: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ «3» ، وقد قال:«فإن قيل: فما معنى «مدبرين» ؟ وقد أغنى عنها قوله: «إِذا وَلَّوْا» قلت:
لا يغني عنها قوله: «ولّوا» ، فإن التولّي قد يكون بجانب دون جانب، وبدليل
(1) شرف، د. حفني محمد، الإعجاز البياني بين النظرية والتطبيق، ص/ 224.
(2)
سورة الزّمر، الآية:25.
(3)
سورة النّمل، الآية:80.
قوله تعالى: أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ «1» ، أراد تتميم المعنى بذكر تولّيهم في حال الخطاب، لينفي عنهم الفهم الذي يحصل من الإشارة، فإن الأصمّ يفهم بالإشارة ما يفهمه السّميع بالعبارة، ثم اعلم أن التولّي قد يكون بجانب من المتولّي، فيجوز أن يلحظ بالجانب الذي لم يتولّ به» «2» .
وكأن عنوان هذا الفن يوحي بأن البيان القرآني يوغل في المعنى، وفي رسم المشاهد حتى يكون التصوير واضحا للعيان، ومؤثّرا بشكل أقوى.
والشواهد التي قدّمها ابن أبي الإصبع تميل إلى المعيار اللغوي دائما، ولهذا لم يكن منه تخيّل للإيحاءات النفسية التي تضيفها الفاصلة الموغلة، وهذا نستشفّه في تفسير أبي السّعود الذي سار على خطا الزمخشري، ففي تفسيره للآية: يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ «3» يقول: «والجلود عطف على «ما» وتأخيره عنه إما لمراعاة الفواصل، أو للإشعار بغاية شدّة الحرارة، بإيهام أنّ تأثيرها في الباطن أقدم من تأثيرها في الظاهر، مع أن ملابستها على العكس» «4» .
فهو لا يسمّي هذا الفنّ، ولا يذكر شواهد شعرية شأن ابن أبي الإصبع، وهذه طبيعة كتب التفسير البياني المختلفة عن طبيعة كتب الإعجاز والبلاغة، ولكن يؤخذ عليه هنا تعدّد في الرأي، فرأيه بين مراعاة الفواصل، وأهمية معنى الجلود.
ولا شك أن كلمة الجلود هنا تنمّ على الإحساس بالنار التي تصهر، وهي كذلك توحي بالفروج، وما يتصل بها من زنى وقبائح، وأنّ الوقوف عليها يبعث في روع المرء رهبة، وقد تبيّن في العلم الحديث أنّ الجلد مستقل بمراكز إحساس، ولا يتلقّى الإحساس من الباطن.
لقد وردت في القرآن فواصل يظنّ أنها زائدة، وفائدتها تكمن في إحكام
(1) سورة الإسراء، الآية:83.
(2)
ابن أبي الإصبع، تحرير التحبير، ص/ 234.
(3)
سورة الحجّ، الآية:20.
(4)
أبو السّعود العماديّ، محمد بن محمد، إرشاد العقل السليم: 6/ 101.
الصورة الفنية، وهذا ليس ببعيد عن معنى الإيغال الذي ذكره لنا ابن أبي الإصبع.
وهذه الفاصلة تقع من جهة الإعراب صفة للكلمة التي تكون قبلها، فتعطيها إيغالا، وزيادة تأثير، ومن هذا قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ «1» ، فإنّ هذه الفاصلة أضافت إلى غباء الحمر ضعفها، فهي تهرب من اللّيث، وهذا يصوّر مقدار إنكار الكفار وتهربهم من الرسالة السماوية.
وكذلك قوله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى «2» فالفاصلة توحي باستدامة هذه النار، والفاعلية تضاف إلى الماهيّة، ويمكن أن نقول هذا في قوله تعالى:
فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ «3» ، وكذلك قوله: فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ «4» ، فهاتان الكلمتان تكملان الصورة أمام البصر ولا تدعان للنّقص مكانا، إضافة إلى جمال المحافظة على الرّنّة الموسيقية.
نستنتج مما سبق أنّ جمالية تمكّن الفاصلة لم تكن وليدة عصرنا، فقد أفاض القدامى في بيان مضمون الفاصلة، وحقّه من الوجود، وبعدها عن التكلّف والقلق في مكانها، وردّوا تهمة السّجع، بيد أنهم لا ينفون قصد القرآن إلى الترنيم بالفواصل، وذلك بتقديم معنى الفاصلة وأهميّته في الآية على المراعاة اللفظية.
وكان لكلّ دارس أسلوبه في إبراز تمكّن الفاصلة، وقد أثبتنا في الفقرة وقفات رائعة لهم، وبيّنّا المعيار الذي يعتمده كلّ منهم، فهناك المعيار اللغوي، ودقّة الاستعمال والفروق، وهناك معيار النظر إلى أوّل الآية، ولم تخل نظراتهم من تمحيص وكشف لظلال الفاصلة، وقد وجدوا جمالها يتوزّع بين مناسبتها لما قبلها، وإضاءتها للنص بمعنى جديد، وقد تبيّن لنا أن القدامى بذلوا جهدا كبيرا في هذا المضمار، لم يزد عليه المحدثون كثيرا.
(1) سورة المدّثّر، الآية:50.
(2)
سورة الليل، الآية:14.
(3)
سورة الهمزة، الآية:9.
(4)
سورة الحاقّة، الآية:22.