الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القرآن به إلا تمجيد وتسبيح لله، وهو شاعر زاهد كأبي العتاهية، فلا يمكن الاعتماد على شائعات أدبية «1» - كما صنع الباحث- للنيل من رفعة الإعجاز الفني في أسلوب القرآن، وهي شائعات- إن صحت- كانت دليلا على سمو البيان القرآني على غيره.
فالبشر لا يمكن أن يأتوا بمثله لا في الصورة الأولى، ولا في الصورة الثانية، وذلك لأن الخالق عز وجل يقول عن كتابه: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «2» ، وقال تبارك وتعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «3» .
-
الإجمال في التذوق السمعي:
ظلّت المصطلحات الموسيقية مجملة في بداية دراسة الإعجاز، وكان هذا أشبه بالداء الذي استشرى قرونا، ولقد ابتلي الرافعي وقطب وغيرهما بهذا الداء في عدم تفسير إعجابهما بكثير من الموسيقا التي لمحاها في القرآن، وكذلك القدماء الذين لم يكونوا على جهل بالتذوق السمعي، إنما لم تساعدهم المصطلحات التي اعتمدوها على كشف جمال الميزات الفنية في إطار تحليلي إلا ما ندر، وإن كانوا قد وصلوا في دراساتهم إلى جماليات سمعية من خلال التفكير بالفواصل، ودفاعهم عن القرآن في دحض شبهة الشعر، وقد ماثلوه بالشعر والنثر بمصطلحات نقدية، مثل: التوازن والانسجام والازدواج والتكرار، وردّ العجز على الصّدر، كل هذا كان مساهمة في دراسة الإيقاع، وقد نظروا إليه من ناحيته الشكلية.
إن وعي القدامى كان مغلّفا بكلمات تعارفوا عليها وتداولوها، ونتّخذ الخطّابي نموذجا منهم، إذ يقول: وأما ما ذكروه من قلة الغريب في ألفاظ القرآن، بالإضافة إلى الواضح، فليست الغرابة مما شرطناه في حدود البلاغة،
(1) انظر ضيف، د. شوقي، 1960، الفن ومذاهبه في النثر العربي، ط/ 3، دار المعارف، بمصر، ص/ 281.
(2)
سورة هود، الآية:1.
(3)
سورة النساء، الآية:82.
وإنما يكثر الغريب في كلام الأوحاش من الناس، والأجلاف من جفاة العرب» «1» .
والمقصود بالغرابة نفور السمع وصعوبة النطق لكلمات أهملها الذوق العربي، وقد ترد على لسان الأدباء، وتتعين أحيانا في تقارب المخارج، أو تكررها مثل «مستشزرات» وغيرها مما يحصيه علماء اللغة.
والخشونة تنبع من طبع المتكلم، فقد رأى النقاد أثر خلقة الفرزدق وخلقه في مفرداته «2» ، ولم يكن هدف القرآن الإغراب لمنافسة إحصائية تجمع الصّالح والطّالح من
الكلمات، كما عهد هذا في فن المقامات التي أغرقت في كثير من الكلمات القاسية التي أهملها القرآن.
وهذه المصطلحات الموسيقية في الفن القولي هي أوضح لدى ابن الأثير ومن تبعه، وكان يحبّذ جهدهم الكبير في هذا المجال الذي يقوم على تفسير الذوق وتقديم معايير مستخلصة من النص، ومن المتعارف عليه في فن الأدب، بدلا من الارتياح الذاتي للمفردات الليّنة، وكما قلنا سابقا كان بإمكانهم الاستفادة من علم التجويد وفقه اللغة لسبر موسيقية الكلمات.
لم تكن القيمة السمعية إذا خافية عليهم، فقد اصطلحوا على عبارات تشمل كلّ جمال سمعي في المفردة، وربطوه بمقولة الكلام الفصيح، ولا شك أن الفصاحة ارتبطت بشكل الكلمة، وأنها جزء من البلاغة التي تشمل الشكل والمضمون.
وكانوا يطلقون لدى إعجابهم كلمات بمنزلة تفريعات للفصاحة، فقالوا:
عذب، رونق، رقيق، سلس، مليح، فخم، إلى آخر هذه الكلمات التي تنفي الوحشية والوعورة، وفي هذا تقول روز غريبه: «وقد جعلوا السلاسة والانسجام المحلّ الأول في كتب النقد، فسموا ذلك حلاوة النّغمة، وسمّوه فصاحة المفرد، أي أن يكون اللفظ سمحا سهل مخارج الحروف، وفصاحة
(1) الخطابي، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ 49.
(2)
انظر ضيف، د. شوقي، 1977، التطور والتجديد في الشعر الأموي، ط/ 6، دار المعارف، القاهرة، ص 210 وما بعدها.
المركب، أي انسجام الألفاظ مجتمعة، وائتلافها وعدم وتنافرها» «1» .
والخطوة الأولى في هذا المجال للرماني الذي مهّد لابن سنان وابن الأثير بعده توسيع مفهوم الانسجام في مخارج الحروف، وإنما ظلّ القدامى مقصّرين في جانب الدلالة النفسية للقيمة الموسيقية في القرآن، فغالبا ما ربطوا الأمر بالأذن فقط، فقد دلّوا على صورتها الأولى، فأحسّوا جمال الوقع على الأذن، ولم يفهموا علّة تنوع النّسق، واختلافه من سورة لسورة، ولم يتعمّقوا فيما تبثه الموسيقا من مشاعر ارتياح أو انقباض وتفاعل حي، ولمحمد الحسناوي جهد إحصائي تطبيقي في هذا المجال في كتابه «الفاصلة في القرآن» ، وقد خص الباب الرابع منه لإيقاع الفاصلة وجمال مكانها من الآية مستعينا بفن الموسيقا وعروض الشعر «2» .
ولا بدّ من الإشارة إلى جهود الأسلاف التي مهّدت للمحدثين، وكانت عونا لهم، وإن اختلفت المصطلحات، وفي هذا تقول روز غريب:«وقد شغف العرب بموسيقا اللفظ، وازدانت بها لغتهم منذ نشأتها، وما التسجيع والتوزان والازدواج، وأنواع البديع، وقوانين الإعلال والإدغام، وعدم جواز البدء بالساكن، ما هذه سوى مظاهر أخرى لاهتمامهم المفرط بجمال الرنّة وحسن الإيقاع» «3» .
ويضاف إلى كلامها أن دارسي الإعجاز، كان بإمكانهم الاعتماد على علم القراءات والتجويد وفقه اللغة للوصول إلى دقائق موسيقية قد لا تراعى إلا قليلا في الشعر، فالشعراء لم يجيدوا استخدام «الرّنّة» في التعبير عن المعاني الذهنية النفسية على الرغم من وجودها في التراث العربي كما تقول غريبه.
وموسيقا القرآن واضحة لكل نظر دقيق، وهي ذات هدف ديني جمالي معا، فهي رمز هادف، ولربما توضّح هذا في حلاوة ألفاظ بعض الغزل، ولكنه لم يطرد في كل معاني الشعر، وفي القرآن نجد أن الموسيقا أداة طيّعة في إبراز
(1) غريب، روز، 1952، النقد الجمالي وأثره في النقد العربي، ط/ 1، دار العلم للملايين، بيروت، ص/ 132.
(2)
انظر، الحسناوي «الفاصلة في القرآن» ، ص/ 201 وما بعدها.
(3)
غريب، النقد الجمالي، ص/ 132.
معاني الشدة والرحمة، التهديد والتّلطّف، وسيتضح هذا في مكانه من البحث.
ونستطيع أن نجزم بأن المحدثين الذين تنبّهوا إلى تجسيد الأصوات للمعاني، ما استطاعوا الاستفاضة فيه لولا تعليق القدامى على جزالة الألفاظ ورقّتها، وبحوثهم في فقه اللغة والتجويد، حيث قسّموا المخارج، وبيّنوا صفات الحروف، فهي مطبقة وشديدة ورخوة وهامسة، حيث قسّموا المخارج، وبيّنوا صفات الحروف، فهي مطبقة وشديدة ورخوة وهامسة، بل أسهبوا في كيفية خروج الصوت حتى يصبح حرفا بدءا من الحلق حتى الشفاه، كما صنع ابن سنان وابن جني وغيرهما، وسوف نعتمد دراستهم في بسط تحليلات المحدثين والقدامى لموسيقى الألفاظ، وتفسير هذا من خلال فقه اللغة.
وهناك رأي طريف لا بد من ذكره، للطيب المجذوب، في عدم استخدام القدامى لمصطلح «الجرس» واستعمالهم مصطلح «الفصاحة» بدلا منه، وهو يؤكد أن الرادع الديني هو السبب، فقد قال:«ومن العجيب حقا، أن النقاد، وهم يشملون دارسي الإعجاز، ضلّ عنهم أن يستعملوا كلمة «الجرس» استعمالا اصطلاحيا، وهي أولى من كلمتهم «الفصاحة» وأحسب أن للدّين يدا في هذا، فقد كانت الموسيقا والغناء، لولا تعشّق بعض العلية من الخلفاء والأمراء وبعض أهل الذوق من المتصوفة لها، بالمرتبة السفلى والحضيض الأوهد في نظر الناس» «1» .
ومن الحيف أن نقبل بهذا التفسير النائي عن الحقيقة، ونرد عليه بأن المعجم يثبت أن الجرس لغة: صوت النحل وهو يرعى الزهور للتّعسيل، لذلك لم يستعمله القدامى، واستعملوا كلمات الليونة والفخامة، ويقول المعجم أيضا، سمعت جرس الطير يعني سمعت صوت مناقيرها على شيء تأكله» «2» .
ولعل هذا ما نفّرهم من استعماله، فقد رأى دارسو الإعجاز خاصة أنها لا تليق بدراسة القرآن. والجرس هو الصوت الخفي، أما الفصاحة فهي
(1) المجذوب، المرشد لفهم أشعار العرب: 2/ 3.
(2)
مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط: 1/ 117.
الخلوص كما فسّرها البلاغيون فالجرس لا يعني الفصاحة التي هي بيان، فقد يكون الجرس جميلا أو قبيحا. ولا علاقة له بالفصاحة، وتفسير المجذوب خاطئ.
أخيرا نقول إن جهود القدامى على إجمالها جديرة بالاهتمام، فنحن لا نطالبهم بما قدّمه عصرنا من فنون وثقافات، فلهم زمانهم ولنا زماننا، وإن الموسيقا القرآنية ذات مغزى، وهي جزء من الشكل الفني للقرآن إلى جانب الصورة البصرية وغيرها، وعلينا أن نهتدي بهدي القرآن الذي حثنا على تذوق موسيقاه، وما تبع هذا من السّنّة الشريفة، والفنون التي كشفت هذه المزايا الرفيعة التي شهد لها المؤمنون والمشركون بالمرتبة العليا كما مرّ بنا.
لقد رأينا أن نمهد السبيل إلى الفصول اللاحقة بهذه الفقرات التي تمثّل إطلالة على محتوى الفصول الأخرى، فبينّا في الفقرة الأولى إمكان تفرد الكلمة الواحدة بالجمال من خلال تفاعلها مع سائر كلمات السياق، فمنحناها الجزء الكبير من جمال التركيب على أنها الوحدة المشكلة له، وبيّنّا أنها تتسم في القرآن بعذوبة السمع والنطق، وبأنها غير قلقة في مكانها، وهذا ما سيؤكده دارسو الإعجاز والمفسّرون الذين تحدّثوا عن مناسبة المقام وحلاوة النغم في الوقت نفسه.
وهذا يتضح في صحّة العلاقة بين المفردة والنظم، كما جاء في الفقرة الثانية، وهنا لا بدّ من إنصاف عبد القاهر الجرجاني الذي بسط نظرية النظم، وإن لم تكن من إبداع فكره، بل سبقته بعض النظرات المتفرقة في كتب الإعجاز، وكان مفهوم النظم القرآني قبله يشمل الأسلوب القرآني بما فيه المفردات، أما عبد القاهر فقد بنى النظم على أسس النحو فأهمل المفردة، ويظلّ الفضل لهذا العالم الجليل الذي قدّم تطبيقا بلاغيا، وأرسى علم البلاغة العربية، ووضّح معالمها، وكانت الغاية الدينية دافعا قويا في كتابه «دلائل الإعجاز» ، إذ كان حريصا على إبراز جماليات النظم القرآني، ولم يكن هدفه فنيا محضا، وقد كان النظم مناط الإعجاز القرآني لدى سابقيه، ولا سيما المعتزلة منهم.
ويتبين لقارئ كتابه أن الدفاع الديني- إن صحّ التعبير- قائم على أسس علمية يدعمها الذوق الرفيع بالتطبيق الوافي، وهو حقيق بأن يعدّ مؤسس فنّ التذوق الأدبي في تراثنا، إذ ينطلق من النص نفسه وجزئياته الدقيقة، ليحكم ويقدم القيمة الفنية، وهذا ما تدعو إليه أحدث المدارس النقدية اليوم.
وما تأكيدنا على حق المفردة بالجمال الفني- كما أكّد الدارسون- إلّا إضافة على نظريته، وليس نقضا لها.
وكذلك تطلّ الفقرة الثالثة على الفصول الأخرى، ولا سيّما الرابع منها، لأن الدارسين اعتمدوا على الفروق في تملّي جمال المفردة ومناسبتها للمقام، واختزانها للمعاني الكثيرة وظلالها النفسية، ومطابقتها للعقل والوجدان، وهذا تطلّب منهم الاعتماد على الفروق بالإضافة إلى معايير أخرى.
كما أنّ هذه الفقرة تطلّ على الفصل الثاني، إذ يؤدي الاختيار الدقيق للمفردات إلى قدرة فائقة في تصوير المشاعر والمشاهد، ولا سيّما المفردات الحسّية المستعارة، لتجسّم الحركة المشاهدة وتصوّرها، وتصوّر الحركة النفسية، وقدرة هذه المفردة على التشخيص الحي، وغير هذا.
أما الفقرة الرابعة، فهي تمهّد السبيل إلى الفصل الثالث، وتعدّ نافذة على فقراته، وقد أكّدنا فيها الطابع الموسيقى للقرآن، ودعوة القرآن الكريم والسّنّة الشريفة إلى استيعاب أنغامها وتذوقها، وفي هذه الدّعوة وضع لليد على جزئيات الإعجاز، ورأينا أنّ الجمال الموسيقى في القرآن جليّ كالفواتح والفواصل، وخفي يشتمل على نسق الحروف والحركات مما يناسب المعنى.
وبما أن العرب فرسان الفصاحة، فقد شهدوا بتفرد الشكل القرآني المعجز، وقد سجّلنا بعضا من شهاداتهم التي تشيد بالعنصر الموسيقى الذي فهموه بالفطرة.
كما ألمحنا إلى وقوع الدّارس القديم على جمال الأنغام، وذلك وفق مصطلحه، وقد كان هذا المصطلح المجمل مشتملا في الحقيقة على الجزئيات التي درسها المتأخرون، وأبرزوا جمالها.